محمّد علي آل خليفة
المحقق: ياسين صلواتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مؤسسة الصادق عليه السلام للطباعة والنشر
المطبعة: اسوة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-5604-61-3
الصفحات: ٧٧٧
بالعلم صبغا ، وسلخ منه سلخا) (١). وقيل إنّه قال : (صبغ بالعلم صبغة ، ثمّ خرج منه) (٢).
وسئل عمّار بن ياسر عن أبي موسى الأشعري فقال : (لقد سمعت فيه من أبي حذيفة بن اليمان (٣) ، قولا عظيما ، سمعته يقول : (صاحب البرنس الأسود) (٤).
وأما المعتزلة ، فيعتبرونه من أهل الكبائر ، وحكمه حكم أمثاله ممّن واقع كبيرة ومات عليها. وروي عن سويد بن غفلة أنّه قال : (كنت مع أبي موسى على شاطئ الفرات في خلافة عثمان ، فروى لي خبرا ، قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : (إنّ بني إسرائيل اختلفوا ، فلم يزل الاختلاف بينهم ، حتّى بعثوا حكمين ضالّين ، ضلّا ، وأضلّا من اتبعهما ، ولا ينفكّ أمر أمّتي حتّى يبعثوا حكمين يضلّان ، ويضلّان من تبعهما) (٥).
فقلت له : (احذر يا أبا موسى أن تكون أحدهما فخلع قميصه وقال : (أبرأ إلى الله من ذلك ، كما أبرأ من قميصي هذا) (٦).
وبعد التحكيم لقيه سويد بن غفله ، فقال له : (إنّ الله إذا قضى أمرا لم يغالب عليه) (٧). وقيل إنّه قال له : (يا أبا موسى ، أتذكر مقالتك؟). قال : (سل ربّك العافية).
__________________
(١) ابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ١٣ / ٣١٥.
(٢) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٢ / ٣٤٦.
(٣) أبو حذيفة بن اليمان : صحابي ، عارفا بالمنافقين ، أخبره النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بأسمائهم ، وقبره في المدائن مع سلمان الفارسي.
(٤) البرنس : قلنسوة طويلة ، كان النساك يلبسونها في صدر الإسلام.
(٥) ابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ١٣ / ٣١٥.
(٦) تاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ١٦٧.
(٧) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٣٩٢.
وعند ما بويع الإمام عليّ عليهالسلام بالخلافة سنة (٣٦) بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفّان ، جاء أهل الكوفة إلى أبي موسى الأشعري ، وقالوا له : (لم لم تبايع عليّا ، وتدعو الناس إلى مبايعته ، وقد بايعه المهاجرون والأنصار؟).
فقال أبو موسى : (حتّى أنظر ما يكون ، وما يصنع الناس بعد هذا). فقال رجل من أهل الكوفة أبياتا مطلعها (١) :
أبايع غير مكترث عليّا |
|
ولا أخشى أميرا أشعريا |
أبايعه وأعلم أنّ سأرضي |
|
بذاك الله حقّا والنبيا |
وعند ما أراد الإمام عليّ عليهالسلام الذهاب إلى البصرة ، كتب إلى أبي موسى الأشعري ، أن يحثّ الناس للّحاق به في البصرة ، إلّا أنّ أبا موسى ، منع أهل الكوفة من الذهاب إلى البصرة وخطب فيهم قائلا : (أما بعد يا أهل الكوفة ، إن تطيعوا الله باديا ، وتطيعوني ثانيا ، تكونوا جرثومة من جراثيم العرب ، يأوي إليكم المضطر ، ويأمن فيكم الخائف. إنّ عليا ، إنّما يستنفركم لجهاد أمّكم عائشة (٢) وطلحة والزبير حواري رسول الله ، ومن معهم من المسلمين ، وأنا أعلم بهذه الفتن ، إنّها إذا أقبلت شبّهت ، وإذا أدبرت أسفرت ، فثلّموا سيوفكم ، وقصّفوا رماحكم ، وانصلوا سهامكم ، وقطّعوا أوتاركم ، وخلّوا قريشا ترتق فتقها ، وترأب صدعها ، فإن فعلت فلأنفسها ما فعلت ، وإن أبت فعلى نفسها ما جنت ، استنصحوني ولا تستغشوني ، وأطيعوني ولا تعصوني ، يتبيّن لكم رشدكم ، ويصلى هذه الفتنة من جناها) (٣).
فأرسل إليه الإمام عليّ عليهالسلام كتابا جاء فيه :
(من عبد الله عليّ أمير المؤمنين ، إلى عبد الله بن قيس ، أما بعد ، يا ابن
__________________
(١) ابن أعثم الكوفي ـ الفتوح. ج ٢ / ٢٥٠.
(٢) عائشة وطلحة والزبير : ذهبوا إلى البصرة لمحاربة الإمام عليّ عليهالسلام
(٣) ابن أبي الحديد ـ شرح النهج. ج ١٤ / ١٥.
الحائك ، يا عاضّ .. أبيه ، فو الله ، إنّي كنت لأرى بعدك عن هذا الأمر ، الّذي لم يجعلك الله له أهلا ، ولا جعل لك فيه نصيبا ، سيمنعك من ردّ أمري ، والافتراء عليّ ، وقد بعثت إليك ابن عبّاس (١) وابن أبي بكر (٢) ، فخلهما والمصر وأهله ، واعتزل عملنا ، مذموما مدحورا ، فإن فعلت ، وإلّا فإنّي قد أمرتهما أن ينابذاك على سواء ، إنّ الله لا يهدي كيد الخائنين ، فإذا ظهرا عليك قطّعاك إربا إربا ، والسلام على من شكر النعمة ، ووفي بالبيعة ، وعمل برجاء العاقبة) (٣).
ثمّ أمر الإمام عليّ عليهالسلام مالك الأشتر ، أن يذهب إلى الكوفة ، ويقيل أبا موسى الأشعري ، فذهب الأشتر إلى الكوفة ، ودخل (قصر الإمارة) وطرد منه الأشعري ، فأخذ الناس ينهبون متاع الأشعري ، فنهاهم الأشتر ومنعهم ، وقال لهم : (إنّي قد أخرجته وعزلته عنكم) ، عندها تركه الناس.
وتمرّ الأيّام سراعا ، ويذهب الإمام عليّ عليهالسلام إلى" صفّين" لمحاربة معاوية بن أبي سفيان وتستمرّ الحرب سجالا بين الطرفين ، فقتل فيها الكثير من الصحابة الأجلّاء ، ومن حفظة القرآن الكريم ، حتّى قيل إنّ عدد القتلى بين الطرفين بلغ سبعون ألفا ، خمسة وأربعون ألفا من الشام ، وخمسة وعشرون ألفا من أهل العراق ، وقيل إنّ عدد القتلى بلغ مائة وعشرة آلالف (خلال مدة مائة وعشرة أيّام) قتل من أهل الشام تسعون ألفا ، ومن أهل العراق عشرون الفا (٤).
وحينما رأى معاوية ، أن جيشه قد ضعف عن القتال ، وأنّ الهزيمة آتية
__________________
(١) ابن عبّاس : هو عبد الله بن عبّاس بن عبد المطلب ، وهو ابن عمّ الإمام علي عليهالسلام.
(٢) ابن أبي بكر : هو محمّد بن أبي بكر أخو عائشة" أم المؤمنين"
(٣) ابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ١٤ / ١٠.
(٤) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٣٩٣.
لا ريب فيها ، طلب من عمرو بن العاص أن يتدبر الأمر ، فرفعت المصاحف بإيعاز من عمرو بن العاص ، فتوقف جيش الإمام عليّ عليهالسلام عن القتال ، وصاح الناس : (ما الحكم إلّا للقرآن ، فسمع عليّ عليهالسلام وطلب من القوم الاستمرار بالقتال وقال لهم : (إنّكم لمنتصرون بإذن الله ، وإنّها لخدعة) ، ولكنّ ضعاف النفوس ، وضعاف الإيمان" وضعاف الطاعة" أصرّوا إلّا الاحتكام ، وعندها خضع الإمام عليهالسلام لمطاليب القوم (١). ويقال إنّ عدد المصاحف الّتي رفعت في جيش معاوية بلغت خمسمائة مصحف وفي ذلك قال النجاشي بن الحارث (٢) :
فأصبح أهل الشام قد رفعوا القنا |
|
عليها كتاب الله خير قرآن |
ونادوا عليا يا بن عمّ محمّد |
|
أما تتقي أن يهلك الثقلان |
ثمّ انتخب عمرو بن العاص ممثلا عن جيش معاوية ، وأبو موسى الأشعري عن جيش عليّ عليهالسلام ودار حديث طويل بين الممثلين ، قام بعده أبو موسى الأشعري وقال : (أيّها الناس ، إنّا نظرنا في أمرنا ، فرأيناه أقرب ما يحضرنا من الأمن والصلاح ، ولمّ الشعث ، وحقن الدماء ، وجمع الألفة ، فقد خلعنا عليا ومعاوية ، وقد خلعت عليا ، كما خلعت عما متي هذه). ثمّ هوى على عمامته فخلعها ثمّ قام عمرو بن العاص فقال : (أيّها الناس ، إنّ أبا موسى عبد الله بن قيس قد خلع عليا ، وأخرجه من هذا الأمر الّذي يطلب ، وهو أعلم به ، ألا وإنّي قد خلعت عليا معه ، وأثبت معاوية عليّ وعليكم ..) (٣).
__________________
(١) نصر بن مزاحم ـ وقعة صفّين. ج ٨ / ٥٧٨ وتاريخ الطبري. ج ٥ / ٥١.
(٢) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٣٩٠.
(٣) المصدر السابق. ج ٢ / ٣٩٨.
وهكذا انتهى التحكيم ، ولكن مساوئه لم تنته بعد ، فقد تباغض القوم جميعا وأخذ بعضهم يتبرأ من بعض ، فقد تبرأ الأخ من أخيه ، والإبن من أبيه ، عندها أمر الإمام عليّ عليهالسلام أصحابه بالرحيل والعودة إلى الكوفة (١).
ومما قيل شعرا في التحكيم ، فقد قال أيمن بن خزيم بن فاتك الأسدي (٢) :
لو كان للقوم رأي يعصمون به |
|
عند الخطوب رموكم بابن عبّاس |
لكن رموكم بوغد من ذوي يمن |
|
لم يدر ما ضرب أخماس بأسداس |
وقال ابن أعين في أبي موسى الأشعري (٣) :
أبا موسى ، بليت وأنت شيخ |
|
قريب العفو مخزون اللسان |
وما عمرو صفاتك يابن قيس |
|
فيا لله من شيخ يماني |
فأمسيت العيشة ذا اعتذار |
|
ضعيف الركن منكوب الجنان |
تعضّ الكف من ندم ، وماذا |
|
يرد عليك عضّك للبنان؟ |
وفي اختلاف الحكمين ، قال بعض من حضر ذلك (٤) :
رضينا بحكم الله لا حكم غيره |
|
وبالله ربّا والنبيّ والذكر |
وبالأصلع الهادي عليّ إمامنا |
|
رضينا بذاك الشيخ في العسر |
واليسر |
|
رضينا به حيّا وميّتا فإنّه |
إمام الهدى في موقف النهي والأمر |
وقيل جاء رجل إلى عمر بن الخطاب وشكا إليه : بأنّ أبا موسى الأشعري ، قد عاقبه بعقوبة لا يستحقها ، إذ جلده ، وحلق رأسه ، فكتب عمر إلى أبي
__________________
(١) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٣٩٤.
(٢) نصر بن مزاحم ـ وقعة صفّين. ج ٨ / ٥٧٥ والمسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٣٩٩.
(٣) المسعودي ـ مروج الذهب. ج ٢ / ٤٠٠.
(٤) نفس المصدر السابق.
موسى الأشعري : (أن يمكن الرجل من القصاص منه جلدا بجلد ، وحلقا بحلق) (١).
مات أبو موسى الأشعري سنة (٤٢) للهجرة ، وقيل سنة (٥٢) في خلافة معاوية بن أبي سفيان ودفن في مكّة ، وقيل مات بالكوفة ودفن فيها ، وقيل مات سنة (٤٤) (٢) وعمره بضع وستون سنة (٣).
٩ ـ جبير بن مطعم
هو جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ، وكنيته : أبو محمّد وقيل أبو عدي (٤) وقيل أبو سعيد (٥) القرشيّ ، النوفلي المكّي ، وهو شيخ قريش في زمانه ، وهو من الطلقاء ، الّذين حسن إسلامهم وكان من أهل الحلم ، ونبل الرأي مثل أبيه مطعم.
ولّاه عمر بن الخطاب إمارة الكوفة بعد عزل عمّار بن ياسر ، وطلب منه كتمان الخبر ، وأن لا يخبر أحدا بذلك ، كان ذلك سنة (٢١) للهجرة (٦).
وقد سمع المغيرة بن شعبة من أحدهم بأنّ الخليفة عمر قد اختلى وهمس في أذن جبير بن مطعم ، ولا أحد يعرف ماذا قال له. فذهب المغيرة إلى زوجته ، وطلب منها أن تذهب إلى زوجة جبير بن مطعم ، وتساعدها في تهيأة مستلزمات سفر زوجها ، وبهذه الحيلة عرفت بأن الخليفة قد ولّى جبير بن مطعم إمارة الكوفة ، ثمّ عادت إلى المغيرة فأخبرته بذلك ، عندها
__________________
(١) خالد محمّد خالد ـ بين يدي عمر. ص ١١٣.
(٢) ابن العماد ـ الشذرات. ج ١ / ٢٣٤ وابن حبان ـ مشاهير علماء الأمصار. ص ٦٥.
(٣) ابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ١٣ / ٣١٦ وابن سعد ـ الطبقات. ج ٤ / ١١٦.
(٤) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٦ / ٥
(٥) ابن حبان ـ الثقات. ج ٣ / ٥٠.
(٦) تاريخ ابن خياط. ج ١ / ١٤٩ والذهبي ـ تاريخ الإسلام. ج ٣ / ٤٢.
ذهب المغيرة إلى عمر وقال له (أتولّي الكوفة رجلا لا يكتم سرا ، ولا يصلح للإمارة ، فعزله عمر ، وولّى المغيرة مكانه (١).
وقيل إنّ جبير بن مطعم قد تولّى إمارة الكوفة ، بعد عزل سعد بن أبي وقّاص ، إلّا أنّه عزل قبل أن يذهب اليها ، فولّى عليها المغيرة بن شعبة (٢).
وجبير بن مطعم ، من علماء قريش وسادتها ، وعارفا بأنسابها ، وروى (٦٠) حديثا عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم. أسلم بعد معركة بدر الكبرى (٣).
وعن ابن عبّاس أنّه قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : (إنّ بمكّة أربعة نفر من قريش ، أربأبهم عن الشرك ، وأرغب لهم في الإسلام) (٤). فقيل : ومن هم يا رسول الله. قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : (عتاب بن أسيد ، وجبير بن مطعم ، وحكيم بن حرام ، وسهيل بن عمرو) (٥).
وقيل : كان أبو بكر أعرف الناس بالأنساب ، ثمّ يأتي بعده عمر ، ثمّ جبير بن مطعم ، ثمّ سعيد بن المسيّب ، ثمّ محمّد بن سعيد بن المسيّب ، وقيل إنّ سعيد بن المسيّب أخذ النسب عن جبير بن مطعم (٦).
وعند ما جيء بسيف النعمان بن المنذر إلى عمر بن الخطاب ، فأعطى السيف إلى جبير بن مطعم وقال له : يا جبير ، إلى من ينتمي النعمان؟ قال ابن مطعم : من أشلاء قنص بن معد (٧).
وقيل إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أعطى للمؤلفة قلوبهم ، فأعطى جبير بن
__________________
(١) ابن حبان ـ الثقات. ج ٢ / ٢٣٤ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٢ / ٢٠ وتاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ١٣٣.
(٢) تاريخ ابن خياط. ج ١ / ١٥٤.
(٣) ابن منظور ـ مختصر تاريخ دمشق. ج ٥ / ٦ و٩
(٤) نفس المصدر السابق.
(٥) نفس المصدر اعلاه.
(٦) الجاحظ ـ البيان والتبيين. ج ١ / ٣١٨.
(٧) نفس المصدر السابق.
مطعم مائة من الإبل (١). وقيل إنّ جبير بن مطعم ، ذهب إلى المدينة في فداء الأسارى من قومه في معركة (بدر) ثمّ أسلم بعد ذلك عام خيبر ، وقيل يوم فتح مكّة (٢).
وكان أبوه (مطعم) هو الّذي نقض (القطيعة) (٣) وكان يحنو ويعطف على (الشعب) (٤) ويصلهم سرّا ، وقد قال فيه الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم بدر : (لو كان المطعم بن عدي حيّا ، وكلّمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له) (٥).
وعن جبير بن مطعم أنّه قال : (لقد رأيت قبل هزيمة القوم (٦) ، والناس يقتتلون مثل" البجاد الأسود" (٧) جاء من السماء ، وسقط بيننا وبين القوم ، فنظرت وإذا به نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي ، فلم أشك بأنها الملائكة ، ولم يكن إلّا هزيمة القوم (٨).
مات جبير بن مطعم بالمدينة سنة ٥٧ للهجرة (٩) ، وقيل ٥٨ وقيل ٥٩.
__________________
(١) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٣ / ٩٧.
(٢) نفس المصدر السابق والعسقلاني ـ تهذيب التهذيب. ج ٢ / ٥٦.
(٣) القطيعة : كانت قريش والقبائل الموالية لها من المشركين قد قاطعوا آل أبي طالب بما فيهم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلم يبايعوهم ، ولم يشاروهم ، وكتبوا صحيفة بذلك وعلقوها بأستار الكعبة ، ثمّ حصروهم في واد ومنعوا الناس من الاتصال بهم ، وكان ذلك الوادي يسمى بالشعب ، أو" شعب أبي طالب".
(٤) نفس الهامش أعلاه.
(٥) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٩٧ وصحيح البخاري. ج ٥ / ١١٠.
(٦) هزيمة القوم في معركة حنين.
(٧) البجاد : الكساء.
(٨) تاريخ الطبري ـ. ج ٣ / ٧٧.
(٩) تاريخ خليفة بن خياط. ج ١ / ٢٧٢ وابن حبان ـ الثقات. ج ٣ / ٥٠ وابن الأثير ـ الكامل. ج ٣ / ٥١٤ والذهبي ـ العبر في خبر من غبر. ج ١ / ٥٩ وابن العماد ـ الشذرات. ج ١ / ٦٤ والزركلي ـ ترتيب الأعلام على الأعوام. ج ١ / ١٣٨.
١٠ ـ المغيرة بن شعبة
هو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتب بن مالك ، وهو من ثقيف ، وكنيته : أبو عبد الله (١). ولّاه الخليفة عمر بن الخطاب إمارة الكوفة سنة (٢١) للهجرة (٢) ، بعد عزل عمّار بن ياسر ، وقيل تولّى إمارة الكوفة سنة (٢٢) للهجرة بعد عزل (أبو موسى الأشعري) وبقي أميرا على الكوفة إلى أن مات عمر) (٣).
وكان المغيرة بن شعبة من دهاة العرب ، وذوي الرأي والحيل ، ويقال له في الجاهلية والإسلام (مغيرة الرأي) ويقال : (ما اعتلج في صدر مغيرة أمران ، إلّا اختار أحسنهما). وصحب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وشهد معه الحديبية ، وفتح اليمامة وفتوح الشام ، كما اشترك في معركة القادسيّة مع سعد بن أبي وقّاص (٤).
وقيل : عند ما عزل عمّار عن إمارة الكوفة ، عزله عمر وولّى مكانه جبير بن مطعم ، وأمره بكتمان الخبر ، إلّا أنّ المغيرة قد تمكّن بحيلة ودهائه من معرفة الخبر ، إذ أرسل زوجته إلى زوجة جبير بن مطعم لتساعدها فيما يحتاج إليه المسافر ، فقالت امرأة جبير (لإمرأة المغيرة) بأنّ زوجها عيّن أميرا للكوفة ، وإنّها لتشكرها على مساعدتها ، ثمّ ذهبت زوجة المغيرة وأخبرت زوجها بذلك ، عندها ذهب المغيرة إلى عمر وقال له : (إنّ جبير بن مطعم لا يكتم سرا ولا يصلح للإمارة).
__________________
(١) أبو عبد الله : كناه الخليفة عمر بن الخطاب ، وكانت كنيته سابقا (أبي عيسى). أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٦ / ٧٩.
(٢) ابن الأثير ـ الكامل. ج ٢ / ٢٠ وتاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ١٣٣.
(٣) تاريخ الطبري. ج ٤ / ١٦٣.
(٤) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٦ / ٧٩ وتاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ١٤٦.
عند ذلك عزل جبير عن الكوفة ، وولّاها المغيرة (١). وبقي المغيرة أميرا على الكوفة إلى سنة (٢٤) للهجرة حيث عزله الخليفة عثمان بن عفّان ، وولّى مكانه سعد بن أبي وقّاص (٢).
وعند وصول المغيرة بن شعبة إلى الكوفة ، سأل عن هند بنت النعمان ابن المنذر (٣) ، فقيل له : إنّها في" دير" لها بالحيرة مترهّبة ، فذهب اليها ، فوجدها عمياء ، وقد بلغت من العمر عتيّا ، فسلّم عليها ، وقال لها : (أنا المغيرة بن شعبة). فقالت له : أنت عامل هذه المدرة (٤)؟. قال : نعم.
قالت فما حاجتك؟ قال : جئتك خاطبا.
قالت هند : (أما والله لو كنت تبغي جمالا ، أو دينا ، أو حسبا ، لزوجناك ، ولكنك أردت أن تجلس في موسم من مواسم العرب ، فتقول : تزوجت بنت النعمان بن المنذر ، وهذا والصليب لا يكون أبدا ، أو ما يكفيك فخرا أن تكون في ملك النعمان بن المنذر ، وتدير بلاده كيف تشاء). (٥)
وقيل إنّها قالت له : (وإلّا فأيّ فخر في اجتماع شيخ أعور وعجوز شمطاء .. إذهب). ثمّ أخذت تبكي.
فخرج المغيرة وهو يقول (٦)
__________________
(١) ابن حبان ـ الثقات. ج ٢ / ٢٣٤.
(٢) تاريخ الطبري. ج ٤ / ٢٤٤.
(٣) هند : وهي بنت النعمان بن المنذر" ملك الحيرة". تزوجت من عدي بن زيد بن حماد الشاعر وعمرها (١١) سنة. فقال فيها عدي :
مستسر فيه نصب وأرق |
|
علق الأحشاء من هند علق |
ثمّ قتله النعمان بن المنذر ، عندها ترهبت وحبست نفسها في الدير المعروف باسمها في الحيرة (دير هند). أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ٢ / ١٣٠.
(٤) المدرة : المنطقة ، الناحية ، ونقصد بها الكوفة.
(٥) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٦ / ٨٥ والعمري ـ مسالك الأبصار. ج ١ / ٣٢٥.
(٦) المصدر الاول السابق. ج ١٦ / ٨٩.
أدركت ما منيت نفسي خاليا |
|
لله درك يا ابنة النعمان |
إنّي لحلفك بالصليب مصدّق |
|
والصلب أصدق حلفة الرهبان |
ولقد رددت على المغيرة ذهنه |
|
إنّ الملوك بطيئة الإذعان |
يا هند حسبك قد صدقت فأمسكي |
|
والصدق خير مقالة الإنسان |
وقيل اشتهر بالكوفة أربعة رجال بجمالهم ، وحسن منظرهم : (المغيرة ابن شعبة) و (الأشعث بن قيس) و (جرير بن عبد الله البجلي) و (حجر بن عدي الكندي) وكلّهم أعور (١).
واجتمع ذات يوم ، المغيرة والأشعث وجرير (بالكناسة) (٢) فشاهدوا أعرابيا ، فقال المغيرة : لنداعب هذا الأعرابي ، ونضحك معه ، فقالوا له : دعنا منه ، فللأعراب جوابا جارحا. فقال المغيرة : لا بدّ من ذلك ، ثمّ نادى على الأعرابي وقال له : هل تعرف المغيرة بن شعبة؟
فقال الأعرابي : نعم أعرفه : أعور زانيا.
فسكت المغيرة ، ثمّ قال للأعرابي : وهل تعرف الأشعث بن قيس؟
فقال الأعرابي : نعم ذلك رجل لا يعرّي قومه ، قال المغيرة وكيف ذلك؟
قال الأعرابي : لأنّه حائك بن حائك.
فقال المغيرة : وهل تعرف جرير بن عبد الله؟
فقال الأعرابي : وكيف لا أعرف رجلا ، لولاه ما عرفت عشيرته ، فسكتوا عنه وانصرف (٣).
__________________
(١) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٦ / ٨٩.
(٢) الكناسة : بالضم ، الكنس وهي ما يلقى فيها من القمام ، وهي محلة مشهورة بالكوفة ، وفيها صلب زيد بن عليّ.
(٣) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٦ / ٨٩ و٩٥ و١٠٠.
وعند ما كان المغيرة أميرا على البصرة (١) ، أتّهم بأنّ له علاقة بامرأة من بني ثقيف ، يقال لها (الرقطاء) وقيل من بني هلال يقال لها (أم جميل) زوجة الحجّاج بن عتيك الثقفي ، فلقيه ذات يوم (أبو بكرة) فقال له : إلى أين تريد؟!
قال المغيرة : أزور آل فلان ، فقال له أبو بكرة : (إنّ الأمير يزار ولا يزور) (٢). ثمّ رآه (أبو بكرة) مرّة ثانية خارجا من بيت تلك المرأة ، يريد الذهاب إلى المسجد لصلاة الظهر ، فمنعه (أبو بكرة) وقال له (لا والله ، لا تصلي بنا ، وقد فعلت ما فعلت). فتجمهر الناس وقالوا : (دعه فليصلي بنا فإنّه الأمير .. واكتبوا إلى الخليفة بذلك). فقال حسّان بن ثابت يهجو المغيرة في هذه القضية (٣) :
لو أنّ اللؤم ينسب كان عبدا |
|
قبيح الوجه أعور من ثقيف |
تركت الدين والإسلام لمّا |
|
بدت لك غدوة ذات النصيف |
وراجعت الصبا وذكرت عهدا |
|
من القينات والغمز اللطيف |
ثمّ ذهب (أبو بكرة) إلى الخليفة عمر ، وأعلمه بالقصّة ، عند ذلك غضب عليه عمر ، وأمر بعزله وعيّن مكانه أبو موسى الأشعري.
وقيل إنّ عمر قال للمغيرة بن شعبة (أنت رجل فاسق) ، فقال له المغيرة : (وما عليك منّي كفايتي ورجلي لك ، وفسقي على نفسي) ، فولّاه الكوفة.
وقيل إنّ عمر سأل أهل الكوفة عن المغيرة بن شعبة ، فقالوا له : (أنت أعلم به وبفسقه). فقال عمر : (ما لقيت منكم يا أهل الكوفة ، إن وليتكم
__________________
(١) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٦ / ٩٤.
(٢) المصدر السابق. ج ١٦ / ٩٥.
(٣) نفس المصدر. ج ١٦ / ١٠٠.
مسلما تقيّا ، قلتم : هو ضعيف ، وإن ولّيتكم مجرما قلتم : هو فاسق).
وقصّة عزل المغيرة عن إمارة البصرة ، وتعيينه أميرا على الكوفة ، أصبحت ندرة يتندر بها أهالي البصرة ، فكان الرجل يقول للآخر : (غضب الله عليك ، كما غضب أمير المؤمنين على المغيرة ، عزله عن البصرة ، فولّاه الكوفة) (١).
ثمّ أعيد المغيرة بن شعبة أميرا على الكوفة مرة ثانية سنة (٤٢) للهجرة من قبل معاوية بن أبي سفيان ، فأقام بها مدّة ثمّ عزله وولّى مكانه عبد الله بن عامر بن كرز (٢).
وفي سنة (٤٥) للهجرة ، ذهب المغيرة إلى دمشق وتحدث مع معاوية في موضوع إسناد ولاية العهد إلى ابنه يزيد ، ففرح معاوية ، وقال للمغيرة : (ارجع إلى عملك) (٣).
وكان المغيرة بن شعبة (مزواجا) فقد تزوج بأكثر من ثمانين امرأة ، منهن ثلاث بنات لأبي سفيان بن حرب ، ومنهن حفصة بنت سعد بن أبي وقّاص ، وعائشة بنت جرير بن عبد الله البجلي. وقيل إنّه قال : (نكحت تسعا وثمانين امرأة ، فما أمسكت امرأة منهن على حبّ ، أمسكها لولدها ، ولحسبها ، ولكذا ولكذا) (٤).
وكان قدامة بن مضعون ، قد زوج (زينب) ابنة أخيه عثمان بن مضعون من عبد الله بن عمر بن الخطاب ، ولمّا سمع المغيرة بن شعبة بذلك ، زاد في
__________________
(١) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٣ / ٢٨ وتاريخ الإسلام. ج ٤ / ١٢١.
(٢) تاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ٢١٩.
(٣) نفس المصدر السابق وعليّ عبد الحسين الخطيب ـ تاريخ من دفن في العراق من الصحابة. ص ٤٥٤.
(٤) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٦ / ٨٧.
مهرها ، فأقنعتها أمها بالزواج من المغيرة (١).
ولمّا بويع الإمام عليّ بن أبي طالب عليهالسلام بالخلافة ، ذهب إليه المغيرة ابن شعبة : فقال له : (يا أمير المؤمنين ، إنّ لك عندي نصيحة) (٢).
فقال له (عليهالسلام) : وما هي؟
قال المغيرة : (إن أردت أن يستقيم لك الأمر ، فاستعمل طلحة بن عبيد الله على الكوفة والزبير بن العوّام على البصرة ، وابعث إلى معاوية بعهده على الشام ، تلزمه طاعتك).
فقال الإمام عليّ عليهالسلام : (أمّا طلحة والزبير ، فسأرى رأي فيهما ، وأما معاوية فلا والله لا يراني الله أستعين به ، ما دام على حاله أبدا ، فانصرف المغيرة مغضبا وقال (٣) :
نصحت عليّا في ابن هند مقالة |
|
فردت ، فلا يسمع لها الدهر ثانيه |
وقلت له : أرسل إليه بعهده |
|
على الشام ، حتّى يستقر معاويه |
ويعلم أهل الشام أن قد ملكته |
|
وأم ابن هند عند ذاك هاويه |
فلم يقبل النصح الّذي جئت به |
|
وكانت له تلك النصيحة كافيه |
وعند ما آل الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان (بعد الصلح مع الإمام الحسن (ع» سنة (٤٠) للهجرة ، وقيل سنة (٤١) للهجرة ، عيّن عبد الله بن عمرو بن العاص أميرا على الكوفة ، ولمّا سمع المغيرة بذلك ، ذهب إلى معاوية ، وقال له : (استعملت عبد الله بن عمرو على الكوفة ، وأباه عمرو على مصر ، فتكون أنت بين فكي الأسد). فعزل عبد الله وولّى مكانه المغيرة بن
__________________
(١) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٢ / ٢٦٩.
(٢) المسعودي ـ مروج الذهب ومعادن الجوهر. ج ٢ / ٣٧٤. وأبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٦ / ١٩١.
(٣) المسعودي ـ مروج الذهب ومعادن الجوهر. ج ٢ / ٣٧٤.
شعبة. فكان المغيرة أوّل أمير على الكوفة في عهد معاوية (١) ، وعند ما سمع عمرو بن العاص بذلك ، ذهب إلى معاوية ، وقال له : (استعملت المغيرة على الكوفة؟ فقال معاوية : نعم. فقال عمرو بن العاص : (إذا استعملت المغيرة على (بيت المال) فسوف لن تحصل منه شيئا ، استعمل على الخراج من يخافك ويهابك). عند ما عزل المغيرة عن الخراج ، واستعمله على الصلاة فقط.
ثمّ بعد مدّة تلاقيا عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ، فقال له عمرو : أنت الّذي أشرت على معاوية في عبد الله؟ قال المغيرة : نعم. فقال له عمرو : (إذن خذها فهذه بتلك) (٢) ، أي واحدة بواحدة.
وكان المغيرة بن شعبة ، عند ما يصعد على المنبر في الكوفة (أيّام توليتها من قبل معاوية) يذمّ عليّا ، وينال منه ، فيقوم إليه حجر بن عدي الكندي ، فيقول : (يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ، ولو على أنفسكم) (٣) وإنّي أشهد : (أنّ من تذمّون ، أحقّ بالفضل ممّن تطرون) (٤).
وعن الشعبي أنّه قال : سمعت المغيرة بن شعبة يقول : (ما غلبني أحد قطّ إلّا غلام من بني الحارث بن كعب ، ذلك أنّي خطبت امرأة من بني الحارث ، وعندي شاب منهم ، فقال لي : (أيّها الأمير ، لا خير لك فيها) فقلت له : (يا ابن أخي وما لها؟). فقال : (إنّي رأيت رجلا يقبلها) فتركتها ، ثمّ بلغني أنّ ذلك الفتى قد تزوجها ، فأرسلت إليه ، وقلت له : ألم تخبرني أنّك رأيت
__________________
(١) تاريخ الطبري. ج ٥ / ١٦٦ والخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج ١ / ١٩١.
(٢) نفس المصدر الاول السابق.
(٣) سورة النساء. الآية : ١٣٤.
(٤) أبو الفرج الأصبهاني ـ الأغاني. ج ١٧ / ١٣٣.
رجلا يقبلها؟. قال : نعم ، رأيت أباها يقبلها) (١).
وقال بعضهم ، وقد صحب المغيرة بن شعبة مدّة طويلة : (فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب ، لا يخرج من باب منها إلّا بمكر ، لخرج المغيرة من أبوابها الثمانية) (٢).
ولمّا حوصر عثمان بن عفّان في داره بالمدينة ، دخل عليه المغيرة بن شعبة وقال له : إنّك إمام الجماعة ، وقد حلّ بك ما ترى ، وإنّي أعرض عليك خصالا ثلاثة : إمّا أن تخرج فتقاتلهم ، وأنت على الحقّ ، وهم على الباطل ، وإمّا أن تخرج متنكرا وتذهب إلى مكّة ، فإنّهم لن يستحلوك بها. وإمّا أن تذهب إلى الشام ، فإنّهم أهل الشام وفيهم معاوية (٣).
فقال عثمان : (أمّا أن أخرج فأقاتل ، فلن أكون أوّل من خلّف رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في أمته بسفك الدماء. وأمّا أن أخرج إلى مكّة فإنّي سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : يلحد رجل من قريش بمكّة يكون عليه نصف عذاب العالم) فلن أكون أنا ، وأمّا أن ألحقّ بالشام ، فلن أفارق دار هجرتي ، ومجاورة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وكان بين المغيرة بن شعبة وبين مصقلة بن هبيرة الشيباني نزاع وخصام ، فتلاقيا ذات يوم ، فاستقبله المغيرة ببشاشة وتواضع ، فاستغلّ مصقلة ذلك الموقف ، وراح يستعلي على المغيرة ، ويتطاول عليه حتّى شتمه ، فذهب المغيرة إلى القاضي (شريح) وشكا مصقلة ، ثمّ أقام عليه البيّنة ، فأمر شريح بجلد مصقلة ، فأقسم مصقلة : بأنّه لا يقيم ببلدة فيها المغيرة ما دام حيّا فذهب إلى بني شيبان ، وبقي عندهم إلى أن مات المغيرة ، فرجع إلى
__________________
(١) ابن الكلبي ـ جمهرة النسب. ج ٢ / ٧٥.
(٢) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٣ / ٣٠.
(٣) السيوطي ـ تاريخ الخلفاء. ص ١٨٣.
الكوفة ، فرحبّ به أهله وأصحابه ، ثمّ سألهم عن مقابر ثقيف فدلّوه عليها ، وأثناء الطريق أخذ بعضهم يلتقط الحجارة ، فقال لهم مصقلة : ما هذا؟ قالوا ظنّنا أنّك تريد أن ترجمه ، فقال لهم : ألقوا ما في أيديكم ، ثمّ ذهب ووقف على قبر المغيرة فقال : (والله لقد كنت ، ما علمت نافعا لصديقك ، ضائرا لعدوك وما مثلك إلّا كما قال مهلهل في أخيه كليب (١) :
إنّ تحت الأحجار حزما وعزما |
|
وخصيما ألدّ ذا معلاق |
حيّة في الوجار أربد (٢) لا يد |
|
فع منه السليم (٣) نفث الراقي |
وقد ذكره المستشرق الألماني كارل بروكلمان فقال :(المغيرة بن شعبة : هو رجل انتهازي ، لا ذمّة له ولا ذمام ، اضطرّ في شبابه أن يغادر مسقط رأسه" الطائف" بسبب جريمة قتل ... الخ) (٤).
ومن أقوال المغيرة في الإمارة : أنّه قال :(أحبّ الإمارة لثلاث ، وأكرهها لثلاث : أحبّها لرفع الأولياء ، ووضع الأعداء ، واسترخاص الأشياء. وأكرهها : لروعة البريد (٥) ، وموت العزل ، وشماتة الأعداء) (٦).
وفي أواخر سنة (٤٩) للهجرة انتشر مرض الطاعون في الكوفة ، فهرب المغيرة" من الموت" وخرج من الكوفة ، ثمّ عاد إليها فطعن (٧) فمات في
__________________
(١) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٣ / ٣٢.
(٢) أربد : أسود.
(٣) السليم : الّذي لسعته أفعى.
(٤) كارل بركلمان ـ تاريخ الشعوب الإسلامية. ص ١٢١.
(٥) البريد : وهي الأخبار والأوامر الّتي ترد من الخليفة إلى الإمارة ، وكان الأمراء يخافون البريد لأنّه فيه عزلهم ، أو استدعائهم إلى الخليفة لأمرهام.
(٦) ابن عبد ربه ـ العقد الفريد. ج ١ / ٨١.
(٧) طعن : أي أصابه مرض الطاعون.
شهر رمضان من سنة (٥٠) للهجرة ، ودفن في مكان يقال له (الثويّة) وكان عمره (٧٠) سنة (١).
وقيل مات المغيرة بن شعبة في شهر شعبان من سنة (٥٠) للهجرة ، واستخلف على الكوفة ابنه عروة بن المغيرة ، وقيل استخلف جرير بن عبد الله البجلي (٢).
وقيل مات المغيرة سنة (٥١) للهجرة ، فولّى معاوية بن أبي سفيان مكانه زياد بن أبيه ، وضمّ إليه البصرة (٣).
وأثناء دفن المغيرة ، مرّ أعرابي ، فسأل الناس ، فقيل له : إنه المغيرة بن شعبة ، فقال الأعرابي :
أرسم ديار للمغيرة تعرف |
|
عليها دوي الأنس والجن تعزف |
فإن كنت قد لاقيت هامان بعدنا |
|
وفرعون فاعلم أنّ ذا العرش منصف |
ووقفت أمّ كثير الحارثية (٤) على قبر المغيرة فقالت (٥) :
الجلّ يحمله النقر |
|
قرم ، كريم المعتصر |
أبكي وأندب صاحبا |
|
لا عين منه ولا أثر |
قد خفت بعدك أن أضام |
|
وأن أساء ولا أسر |
أو أن أسأم بخطتي |
|
ضيما فآخذ أو أذر |
لله درك قد غنيت |
|
وأنت باقعة (٦) البشر |
__________________
(١) ابن سعد ـ الطبقات. ج ٦ / ٢٠٧ والخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد. ج ١ / ١٩٣.
(٢) تاريخ خليفة بن خياط. ج ١ / ٢٢٧.
(٣) تاريخ اليعقوبي. ج ٢ / ٢٢٩.
(٤) أمّ كثير : زوجة المغيرة.
(٥) ابن بكار ـ الموفقيات. ص ٤٧٤.
(٦) الباقعة : الرجل الداهية ، والذكي العارف
١١ ـ سعد بن أبي وقّاص (١)
أعيد سعد بن أبي وقّاص أميرا على الكوفة سنة (٢٤ ـ ٢٥) للهجرة من قبل الخليفة عثمان بن عفّان ، بناء على وصية الخليفة عمر بن الخطاب.
١٢ ـ الوليد بن عقبة
هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن إبان بن أبي عمرو بن ذكوان بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي ، وكنيته : أبو وهب القرشيّ ، العبشمي ، وهو أخو الخليفة عثمان بن عفّان من أمّه أروى بنت كريز (٢).
ولّاه الخليفة عثمان بن عفّان إمارة الكوفة سنة (٢٥) للهجرة (٣) ، وقيل سنة (٢٦) (٤) بعد عزل سعد بن أبي وقّاص.
وكان الوليد من فتيان قريش وشعرائهم وشجعانهم وأجوادهم ، وكان فاسقا (٥). وقد أرسله النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم على صدقات بني المصطلق ، فخرجوا يستقبلونه ، فظنّ الوليد أنّهم جاءوا يقاتلونه ، فرجع وأخبر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بأنّهم قد ارتدوا عن الإسلام ، فبعث النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بخالد بن الوليد ، وأمره أن يتأكد من ذلك ولا يستعجل فذهب إليهم خالد ليلا ، وأرسل عيونه ، فرجعوا إليه ، فأخبروه بأنّهم لا زالوا متمسكين بالإسلام ، وأنّهم سمعوا آذانهم ورأوا صلاتهم ، ولمّا أصبح الصباح ذهب إليهم خالد فرأى صحّة ما أخبروه ، فعاد إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأخبره بذلك (٦). عندها نزلت الآية الشريفة :
__________________
(١) وقد تكلّمنا عن سعد في ص ٣٣ فنرجو ملاحظته.
(٢) الذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٣ / ٤١٢ وابن كثير ـ البداية والنهاية. ج ٤ / ٢١٤.
(٣) تاريخ خليفة بن خياط. ج ١ / ١٥٧ وابن العماد ـ الشذرات. ج ١ / ١٨٤.
(٤) تاريخ الطبري. ج ٥ / ٤٨٧ وابن حبان ـ الثقات. ج ٢ / ٢٤٥.
(٥) ابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ١٧ / ٢٤٥.
(٦) الأغاني ـ أبو الفرج الأصبهاني. ج ٥ / ١٤٠ والذهبي ـ سير أعلام النبلاء. ج ٣ / ٤١٤.
(إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(١) وجاء في تفسير هذه الآية عن ابن عبّاس ومجاهد وقتادة : أنّها نزلت في الوليد بن عقبة (٢).
وعن عبد الله الهمداني عن الوليد بن عقبة أنّه قال : (عند ما فتح رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مكّة جاءوا بصبيانهم إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فأخذ يدعو لهم بالبركة ويمسح على رؤوسهم ، وجيء بيّ إليه ، وأنا مخلّق (٣) ، فلم يمسسني ، وما منعه من ذلك إلّا من أجل الخلوق الّذي خلّقتني به أمّي) (٤).
وكان الوليد بن عقبة يحضر مجلس الخليفة عثمان بن عفّان ، ويجلس" هو والعبّاس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن حرب والحكم بن أبي العاص" على سرير الخليفة ، ولا يسمح لغيرهم بالجلوس عليه.
وفي أحد الأيّام جاء الوليد لعثمان ، فجلس ، ثمّ جاء الحكم ، فقام له عثمان وأجلسه في مكانه ، ولمّا خرج الحكم ، قال الوليد لعثمان : (والله يا أمير المؤمنين ، لقد تلجلج في صدري بيتان ، قلتهما حين آثرت عمّك على ابن أمّك) فقال له عثمان : (إنه شيخ قريش ، فما هما البيتان اللذان قلتهما؟ فقال الوليد (٥) :
رأيت لعمّ المرء زلفى قرابة |
|
دوين أخيه حادثا لم يكن قدما |
فأمّلت عمرا أن يشيب وخالدا (٦) |
|
لكي يدعواني يوم مزحمة عمّا |
__________________
(١) سورة الحجرات ـ الآية ٦.
(٢) الطبرسي ـ مجمع البيان في تفسير القرآن. ج ٩ / ١٣٢.
(٣) مخلّق : والخلوق : نوع من العطور ، أصفر اللون.
(٤) الأغاني ـ أبو الفرج الأصبهاني. ج ٥ / ١٤٢ وابن أبي الحديد ـ شرح نهج البلاغة. ج ١٧ / ٢٣٠.
(٥) المصدر الاول اعلاه. ج ٥ / ١٢٣ والمصدر الثاني. ج ١٧ / ٢٢٨.
(٦) عمرا وخالدا : ولدا عثمان بن عفّان.