أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]
المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3319-5
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٤١
الذين رووا عن الملوك والأمراء ؛ والشيوخ الذين رووا عن الملوك والخلفاء القريب عهدهم ؛ ووصلت بها خاتمة ذكرت فيها فوائد مما رويته عن الملوك والأمراء ، وعن الشيوخ الذين رووا عن الملوك والأمراء ؛ وكتاب «اللّباس والصّحبة» وهو الذي جمعت فيه طرق المتصوّفة ، المدّعي أنه لم يجمع مثله ؛ وكتاب فيه شطر الحماسة لحبيب ، وهو غير مكمل ؛ ورجز (١) في الفرائض على الطريقة البديعة التي ظهرت ببلاد (٢) الشرق ؛ ورجز صغير في الحجب والسّلاح ، ورجز في الجدل ؛ ورجز (٣) في الأحكام الشرعية سمّاه ، ب «الفصول المقتضبة ، في الأحكام المنتخبة» ؛ وكتاب سمّاه ب «مثاليث (٤) القوانين ، في التّورية والاستخدام والتّضمين» ، وهو كله من نظمه ؛ وله تأليف سمّاه ب «فيض العباب ، وإجالة قداح الآداب ، في الحركة إلى قسنطينة والزّاب».
شعره : ومن شعره في المقطوعات (٥) : [الكامل]
طاب العذيب بماء (٦) ذكرك وانثنى |
|
فكأنما ماء العذيب سلافه |
واهتزّ من طرب للقياك الحمى |
|
فكأنّما باناته (٧) أعطافه |
ومن ذلك (٨) : [الطويل]
لي المدح يروى منذ كنت كأنما |
|
تصورت مدحا للورى وثناء |
وما لي هجاء فاعجبنّ لشاعر |
|
وكاتب سرّ لا يقيم هجاء |
ومن ذلك (٩) : [الطويل]
ولي فرس من علية الشّهب سابق |
|
أصرّفه يوم الوغى كيف أطلب |
غدوت (١٠) له في حلبة القوم مالكا |
|
يتابعني ما شئت في السّبق أشهب (١١) |
__________________
(١) في النفح : «وجزء».
(٢) في النفح : «بالمشرق».
(٣) في النفح : «وجزء».
(٤) في النفح : «مثالب».
(٥) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص ٢٦٦).
(٦) في الكتيبة : «بطيب».
(٧) في الأصل : «بأناته» وقد اخترنا هذه الكلمة كما في الكتيبة الكامنة لأنها أكثر ملاءمة للمعنى. والبانات : جمع بانة وهي التي يشبه بها الخصر الدقيق.
(٨) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص ٢٦٦) ، ونثير فرائد الجمان (ص ٣١٨) ، ونفح الطيب (ج ٩ ص ٣٣٤).
(٩) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص ٢٦٦).
(١٠) في الأصل : «عدوت» بالعين المهملة ، والتصويب من الكتيبة.
(١١) في الكتيبة : «فتابعني منه كما شاء أشهب».
وقال ، وقد وقف حاجب السلطان على عين ماء «فيض (١) الثغور» وشرب منها (٢) : [المتقارب]
تعجّبت من ثغر هذي البلاد |
|
وها أنت من عينه شارب (٣) |
فلله ثغر أرى شاربا |
|
وعين بدا فوقها حاجب |
ومن ذلك (٤) : [المتقارب]
وحمراء في الكأس مشمولة |
|
تحثّ على العود في كلّ بيت |
فلا غرو أن جاءني سابقا |
|
إلى الأنس خلّ (٥) يحثّ الكميت |
وقال مضمّنا ، وقد تذكر حمراء غرناطة ، وبابها الأحفل المعروف «بباب الفرج» (٦) : [المتقارب]
أقول وحمراء غرناطة تشوق |
|
تشوق النّفوس وتسبي المهج |
ألا ليت شعري بطول السّرى |
|
أرتنا الوجى واشتكت العرج |
وما لي في عرج رغبة |
|
ولكن لأقرع باب الفرج |
وقال ملغزا في قلم وهو ظريف (٧) : [الطويل]
أحاجيك (٨) ما واش يراد حديثه |
|
ويهوى الغريب النازح الدار إفصاحه |
تراه مع الأحيان أصفر ناحلا |
|
كمثل مريض وهو قد لازم الرّاحه (٩) |
وقال : [الطويل]
وقالوا رمى في الكأس وردا فهل ترى |
|
لذلك وجها؟ قلت أحسن به قصدا |
ألم تجد اللذّات في الكأس حلبة؟ |
|
فلا تنكروا فيها الكميت ولا الوردا |
__________________
(١) في نفح الطيب (ج ٩ ص ٣٣٧): «ببعض الثغور».
(٢) البيتان في نفح الطيب (ج ٩ ص ٣٣٧).
(٣) رواية عجز البيت في النفح هي :
ومولاي من عينها شارب
(٤) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص ٢٦٦) ، ونفح الطيب (ج ٩ ص ٣٣٧).
(٥) في الكتيبة : «حبّ».
(٦) كان باب الفرج في عهد بني نصر باب قصر الحمراء الرئيسي ، وليس له أثر اليوم.
(٧) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص ٢٦٧) ، ونفح الطيب (ج ٩ ص ٣٣٦).
(٨) في النفح : «سألتك».
(٩) في النفح :
تراه مدى الأيام أصفر ناحلا |
|
كمثل عليل وهو قد لازم الرّاحه |
وقال (١) : [الطويل]
كماة تلاقت تحت نقع سيوفهم |
|
وللهام رقص كلّما طلب الثّار |
فلا غرو أن غنّت وتلك رواقص |
|
لها (٢) فيهم في مارد الحرب أوتار |
وقال : [الرجز]
وعارض في خدّه نباته |
|
فحسنه بين الورى يسحرنا |
أجرى دموعي إذ جرت شوقا له |
|
فقلت هذا عارض ممطرنا |
وقال وقد توفي السلطان أبو يحيى بن أبي بكر ، صاحب تونس ، وولي ابنه أبو حفص بعد قتله لإخوته : [الطويل]
وقالوا أبو حفص حوى الملك غاصبا |
|
وإخوته أولى وقد جاء بالنّكر |
فقلت لهم كفّوا فما رضي الورى |
|
سوى عمر من بعد موت أبي بكر |
وقال مضمّنا ، وقد حضر الفتى الكبير عنبر قتالا ، وكان فارسا مذكورا عند بني مرين : [الكامل]
ولقد أقول وعنبر ذاك الفتى |
|
يلقى الفوارس في العجاج الأكور |
يا عاثرين لدى الجلاد لعا فقد |
|
بسقت لكم ريح الجلاد بعنبر |
وقال وقد اشتاق إلى السّبيكة (٣) خارج حمراء غرناطة : [مجزوء الرمل]
إنّ (٤) إفراط بكائي |
|
لم يرع مني عريكه |
قد أذاب العين لمّا |
|
زاد شوقي للسّبيكه |
وقال : [الكامل]
لمّا نزلت من السّبيكة صادني |
|
ظبي وددت لديه أن لم أنزل |
فاعجب لظبي صاد ليثا لم يكن |
|
من قبلها متخبّطا في أحبل |
__________________
(١) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص ٢٦٨).
(٢) بياض في الأصل ، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى معا ، وفي الكتيبة : «فبينهم في مأزق الحرب ...».
(٣) السبيكة : موضع خارج مدينة غرناطة ، وقد تغنّى بها عدد من الشعراء. راجع في ذلك : مملكة غرناطة في عهد بني زيري البربر (ص ٣٧).
(٤) في الأصل : «وإنّ» وهكذا ينكسر الوزن.
وقال وهو ظريف : [الكامل]
قد قارب العشرين ظبي لم يكن |
|
ليرى الورى عن حبّه سلوانا |
وبدا الربيع بخدّه فكأنما |
|
وافى الربيع ينادم النّعمانا |
وقال (١) : [الطويل]
أتوني فعابوا من أحبّ جماله |
|
وذاك على سمع المحبّ خفيف |
فما فيه عيب غير أنّ جفونه |
|
مراض وأنّ الخصر منه ضعيف |
وقال : [المتقارب]
أيا عجبا كيف تهوى الملوك |
|
محلّي وموطن أهلي وناسي |
وتحسدني وهي مخدومة |
|
وما أنا إلّا خديم بفاس |
نثره : ونثره تلو نظمه في الإجادة ، وقد تضمّن الكتاب المسمى ب «نفاضة الجراب» منه ذكر كل بديع ؛ فمما ثبت فيه ، مما خاطبته به ، وقد ولّي خطّة القضاء بالإقليم ، أداعبه ، وأثير ما تستحويه عجائبه : [السريع]
يا (٢) قاضي العدل الذي لم تزل |
|
تمتار شهب الفضل من شمسك |
قعدت للإنصاف بين الورى |
|
فاطلب لنا الإنصاف من نفسك |
«ما للقاضي ، أبقاه الله ، ضاق ذرع عدله الرّحيب ، عن العجيب ؛ وهمّ عن العتب ، وضنّ على صديقه حتى بالكتب ؛ أمن المدوّنة الكبرى ركب هذا التحريج ، أم من المبسوطة ذهب إلى هذا الأمر المريج ؛ أم من الواضحة امتنع عن الإمام ببديع الوفاء والتعريج؟ من أمثالهم ارض من أخيك بعشر ودّه إذا ولّي ، وقد قنعنا والحمد لله بحبّة من مدّه ، وإشارة من درجه ، وبرّة وصاعة معتدلة ، من زمان بلوغ أشدّه ؛ فما باله يمطل مع الغنى ، ويحوج إلى العنا ، مع قرب الجنى ؛ المحلة حلّة ضالع ، ومطمع وطامع ، ومرأى ورأي ، ومستمع وسامع ، والكنف واسع ، والمكان لا ناء ولا شاسع ؛ والضّرع حافل ؛ والزّرع كاف كافل ؛ والقريحة وارية الزّند ، والإمالة خافقة البند ؛ وهب أن البخل يقع بها في الخوان على الإخوان ، فما باله يسمح بالبيان ، وليس الخبر كالعيان ؛ ويتعدّى حظّ الجنان ، لا خطّ البنان ؛ أعيذ سيدي من ارتكاب رأي ذميم ، ينقل إلى نميرها بيت تميم ؛ ويقصد معناه بتميم ، وهلّا تلا حم ؛ وعهدي بالسياسة القاضوية ، وقد نامت في مهاد أهل الظرف ، نوم أهل الكهف ، ولم تبال بمردّد الويل
__________________
(١) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص ٢٦٩).
(٢) في الأصل : «أيا» وهكذا ينكسر الوزن.
واللهف ، أو شربة لحفظ الصّحة بختجا ، ودقّت لإعادة الشّبيبة عفصا ورد سختجا ؛ وغطّت الصبح بالليل إذا سجا ، ومدّت على ضاحي البياض صلّا سجسجا ؛ وردّت سوسن العارض بنفسجا ، ولبس بحرها الزّاخر من طحلب البحر منتسجا ؛ وأحكام العامّة ، ومزين المرأة ينصح ويرشد ، ويطوي المحاسن وينشد ، حتى حسنت الدّارة ، وصحّت الاستدارة ، وأعجبه الوجه الجميل ، والقدّ الذي يميد في دكّة الدّار ويميل ، وأغرى بالسّواك السّميم والتكميل ، وولج بين شفرتي سيد الميل ، وقيل لو صاح اليمين خاب فيك التّأميل ؛ وامتدّ جناح برنس السّرق ، واحتفل الغصن الرّطيب في الورق ، ورشّ الورد بمائه عند رشح العرق. وتهيّأ لمنطلق ، فقرأت عليه نساء أعوانه ، وكتبة ديوانه ، سورة الفلق ؛ من بعد ما وقف الإمليق حجّابه على إقدامهم ، وسحبهم جلاوزته من أقوامهم ؛ فمثلوا واصطفّوا ، وتألّفوا والتفّوا ، وداروا وحفّوا ، وما تسلّلوا ولا خفوا ؛ كأنما أسمعتهم صيحة النّشر ، وأخرجوا لأول الحشر ، فعيونهم بملتقى المصراع معقودة ، وأذهانهم لمكان الهيبة مفقودة ، وحبالتهم قبل الطلب بها منقودة ؛ فبعد ما فرش الوساد ، وارتفع بالنّفاق الكساد ، وذارع البكا وتأرّج الحسّاد ، واستقام الكون وارتفع الفساد ، وراجعت أرواحها الأجساد ؛ جاءت السّادة القاضوية فجلست ، وتنعّمت الأحداق بالنظر فيها واختلست ، وسجّت الأكفّ حتى أفلست ؛ وزانت شمسها ذلك الفلك ، وجلت الأنوار ذلك الحلك ، وفتحت الأبواب وقالت هيت لك ؛ ووقفت الأعوان سماطين ومثلوا خطّين ، وتشكّلوا مجرّة تنتهي منك إلى البطين ، يعلنون بالهديّة ويجهرون ، و (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ)(١) ؛ من كل شهاب ثاقب وطائف غاسق واقب ، وملاحظ مراقب ؛ كميش الإزار ، بعيد المزار ، حامل للأوبار ، خصيم مبين ، وارث سوفسطائيّا عن رثين ، مضطلع بفقه البين وحريمها ، فضلا عن تلقين الخصوم وتعليمها ، يرأسهم العريف المقرّب ، والمقدّم المدرّب ، والمشافه المباشر ، والنّابح الشاكر ، والنّهج العاشر ؛ الذي يقتضي خلاص العقد ، ويقطع الكالي والنّقد ، ويزكّي ويجرّح ، ويمسك ويسرّح ويطرح ، ويحمل من شاء أو يشرّح ، والمسيطر الذي بيده ميزان الرّزق ، وجميع أجزاء المفترق ، وكافة قابلة ، وحم الدّواة الفاغرة ، ورشا بلالة الصّدور الواغرة ؛ فإذا وقف الخصمان بأقصى مطرح الشعاع ، أيّان يجتمع الرّعاع ، وأعلنّا النّداء ، وطلب الأعداء ، وصاحا : جعل الله أنفسنا لك الفداء ، ورفع الأمر إلى مقطع الحق ، والأولى بالمثوبة الأحق ، أخذتهما الأيدي دفعا في القفيّ ، ورفعا السّتر اللّطيف الخفيّ ، وأمسكا بالحجر والأكمام ، ومنعا المباشرة والإلمام ؛ فإذا أدلى بحجّته من
__________________
(١) سورة التحريم ٦٦ ، الآية ٦.
أدلى ، وسمعها دينه عدلا ، وحقّ القول ، واستقرّ الهول ، ووجبت اليمين ، أو الأداء الذي يفوت له الذخر الثمين ، أو الرهن أو الضّمين ، أو الاعتقال الذي هو على أحدهما كالأمين ؛ نهش الصّل ، الذي سليمه لا هل ، ولسبت العقارب ، التي لا يفلتها الهارب ، ولا تخفى منها المشارب ؛ وكم تحت ظلام الليل من غرارة يحملها غرّ ، وصدّه ريح فيها صرّ ؛ ويهدي ارتقاب قلّة شهد ، وكبش يجرّ بقرنيه ، ويدفع بعد رفع ساقيه ؛ ومعزى وجدي وقلائد ، وسرب دجاج ، ذوات بجاج ، يفضحن الطّارق ، ويشعثن المفارق ، فمتى يستفيق سيدي مع هذا اللّغط العائد بالصّلة ، واللهو المتّصلة ، وتفرغ يده البيضاء لأعمال ارتياض ، وخطّ سواد في بياض ، أو حنين لدوح أو رياض ؛ أو إمتاع طرف ، باكتشاف حرف ، أو إعمال عدل لرسول في صرف ، أو حشو طرف ، بتحفة ظرف ؛ شأنه أشدّ استغراقا ، ومثواه أكثر طراقا ، من ذكرى حبيب ومنزل (١) ، وأمّ معدّل ؛ وكيف يستخدم القلم الذي يصرف ماء الحبر ، بذوب التّبر ، في ترّهات عدم جناها ؛ وأقطع جانب الخيبة لفظها ومعناها ؛ اللهمّ إلا أن تحصل النفس على كفاية تحتم لها الصّدر ، ويشام من خلالها اللّجين الرفيع القدر ، أو يحيى للفكاهة والأنس ، أو ينفق لديها ذمام على الجنس ؛ فربما تقع المخاطبة المبرورة ، وتبيح هذا المرتكب الصعب الضرورة ؛ والمرغوب من سيّدنا القاضي أن يذكرنا يوما بالإغفال في نعيمه ، ولا يخيّب آمالنا المتعلّقة بأذيال زعيمه ، ويسهمنا حظّا من فرائد خطّه ، لا من فوايد خطّته ، ويجعل لنا كفلا من فضل بريته وحنطته لا من فضل هرّته وقطّته ؛ فقد غنينا عن الحلاوات بحلاوات لفظه ، وعن الطرف المجموعة ، بفنون حفظه ، وعن قصب السّكر ، بقصب أقلامه ؛ وعن جنى الرّوم بروامه ، وبهديه ، عن جديه ؛ وبمجاجته ، عن دجاجته ؛ وبدلجه عن أترجّه ؛ وعن البر ببرّه ، وعن الحبّ بحبّه ؛ ولا نأمل إلّا طلوع بطاقته ، وقد رضينا بوسع طاقته ؛ وإلّا فلا بدّ أن يجيش جيش الكلام إلى عتبه ، ونوالي عليه ضرايب الكتائب ، حتى يتّقي بضريبة كتبه ، والسلام».
فراجعني بما نصه : [الطويل]
فنيت عن الإنصاف منّي لأنني |
|
كما قلت لكم من فراقكم قاض |
فمن سمعنا أو من بعينك إنني |
|
بكلّ الذي ترضاه يا سيدي راض |
__________________
(١) يشير إلى قول امرئ القيس : [الطويل]
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل |
|
بسقط اللّوى بين الدّخول وحومل |
ديوان امرئ القيس (ص ٨).
«عمرك الله أيها الإمام الفذّ ، ومن بمدحه تطرب الأسماع وتلذّ ، أوحد الدنيا وحائز الرّتبة العليا ؛ ولو لا أنك فوق ما يقال ، والزّلّة إن لم تظهر العجز عن وصفك لا تقال ، لأطلت في القول ، وهدرت هدير قرع الشّول ، لكن تحصيل الحاصل محال ، ولكلّ في تهيّب كمالك مقال ، ومقام وحال ؛ ولو لا أنّ الدعاء مأمول ، وهو يظهر الغيب مقبول ، والزيادة من فضل الله لا تنتهي ، والنّعم قد توافيك ، فوق ما تشتهي ، لأريت أن ذلك أمر كفي ، وأمر ظهر فيه ما خفي : [البسيط]
إن قلت لا زلت مرفوعا فأنت كذا |
|
أو قلت زانك ربّي فهو قد فعلا |
إيه يا سيدي ، ما هذه الكلمات السّحريّة والأنفاس النّفيسة الشّجرية ، والألفاظ التي أنالت المرغوب وخالطت بشاشتها القلوب ، والنّزعات الرّائقة ، والأساليب الفائقة ، والفصاحة التي سلبت العقول ، والبلاغة التي أوجبت الذّهول ؛ والبيان الذي لا يضيق صحيفه ، ولا يبلغ أحد مدّه ونصيفه ؛ يمينا بما احتوى من المحاسن ، واللطائف التي لم يكن ماؤها بالآسن ، وقسما ببراعتك التي هي الواسي المطاع ، وطرسك الذي أبهجت به الأبصار والأسماع ؛ لقد عاد لي بكتابتك عيد الشّوق ، وجاد لي بخطابك جدّ التّوق ، ولعهدي بنفسي رهن أشجاني ، غير محلولة عقدة لساني ، أشدّ من الصخرة جلدا ، وأغلظ من الإبل كبدا ؛ حتى إذا بدت حقيدة القلب وهبّ نسيمه الرّطب ، وأفيح مورده العذب ، وأضاء بنوره الشّرق والغرب ، ولم يبق لي بثّ ولا شجن ، ولا شاقني أهل ولا وطن ؛ ومضى سيف اللسان بعد النبوّ ، ونهض طرف الفكر بعد البكر ، وهزّني الطّرب المثير للأفراح ، ومشى الجذل في أطرافي وأعطافي مشي الرّاح ؛ بيد أني خجلت ولا خجلة ربّة الخدر ، وتضاءلت نفسي لجلالة ذلك القدر ؛ وقلت ما لي بشربة من كأس بيانه ، وقطرة من بحور إحسانه ؛ حتى أؤدّي ولو بعض حقّك ، وأكتب عقد ملك رقيّ لرقك ، إنني على ما وليت من الصّدقة والصّداقة وبعد طلاقك ؛ لكني أقوم في حقك مستغفرا ، ولا أرضى أن أكون لذمّة المخدوم خفرا ؛ على أنني أقول ، قد كتبت فلم يردّ جوابي ، وجرمت فهاج الجوى بي ، ولعمري قد لزمت فيه خطّة الأدب ، ولم أر التّثقيل على المولى الرّفيع الرّتب ؛ فأما وقد نفقت عندك بضاعتي المزجاة ، وشملني من لدنك الحلم والإناة ، وشرّفتني بالخطاب الكريم ، والرسالة التي عرفت في وجهها نضرة النعيم ؛ فما أبغي إلّا إيرادها عليك وكلها خراج ، ولبردها في الإجادة إنهاج ؛ ولعلّك ترضى التّخريج من مدوّنة الأخبار ، والمبسوطة والواضحة ، لكن من الأعذار. وأمّا الولاية التي يقنع بسببها من الودّ بالعشر ، أو بحبّة من المدّ إلى يوم النّشر ، فلا بدّ أن يكون القانع محتاجا للوالي ، ومفتقرا إلى التفقّد المتوالي ؛ وأما إذا كان القانع هو الذي تولّى الخطّة ، وأكسب الهرّ
الذي أشار إليه والقطّة ، فهو قياس عكسه كان أقيس ، بل تعليم لمن وجد في نفسه خيفة وأوجس ؛ وهأنا قد فهمت وعلمت ، من حسن تأديبك ما علمت ، وعلى ما فرّطت في جنبك ندمت ، وإلى المعذرة والحمد لله ألهمت ؛ ومع ذلك أعيد حديث الشيخ القاضي ، وذكر عهدك به في الزمان الماضي ؛ فلقد أجاد في الخضاب بالسّواد ، واعتمد على قول المالكي الذي هدى إلى الرّشاد ، وأوجبه بعضهم في بلاد الجهاد ؛ وبيّن عمر منافع الخضاب الصادقة الإشهاد ، وخضب بالسّواد جماعة من الصّحابة الأمجاد ؛ وكان ذلك ترخيصا لم يعدّ شرعا ، لكنه دفع شرّا وجلب نفعا ؛ لا كأخيه الذي أبكى عين الحميم ، وأنشد قول الرّضيّ يوم السقيم ، وفجع قلوب أترابه ، ولم يأت بيت النّصف من بابه ؛ وإلّا فقد علم أن في الخير مشروع (١) ، وتعجّل الشيء قبل أوانه ممنوع ، وستغبط أخاك ولو بعد حين ، وما كل صاحب يحمد في إيضاح وتبيين ، وإني لأرجو أن تتزوجها بكرا ، تلاعبها وتلاعبك ، أو ثيّبا تقصر عن حبّها مآربك ؛ فلا جرم ترجع إلى الخضاب ، وحينئذ تمتّع برشف الرّضاب ؛ وإلّا قالت سيدي ، لا تعظم المنى ، ولا تجعل القطر قبل أن يموت عمر ؛ لعمر الله إن هذا الموقف صعب ، قد ملأ الروح منه روع ورعب ؛ وإن أضاف إلى ذلك غلبة الأوهام ، وظن الشيخوخة الصادرة عن نيل المرام ، سكن المتحرك المصلوب ، وتنغّص عند ذلك المحبوب ؛ والله يعينك أيّها المولى ، ويواليك من بسطه أضعاف ما ولى. وأما الأوصاف التي حسبتها أوصافي ، وأوجبت حكمها بالقياس على خلافي ، فهي لعمري أوصاف لا تراد ، ومراع لا شكّ أنها تراد ؛ غير أني بعيد العهد بهذه البلاد ، لا أمت لها إلّا بالانتساب والميلاد ، لا كالقضاة الذين ذكرت لهم عهدا ، ونظمت حلاهم في جيد الدهر عقدا ؛ ولو أنك بسرّك بصّرتني بشروط القضاء وسجايا أهل الصّرامة والمضاء ، لحقّقت المناط ، وأظهرت الزهد والاغتباط ؛ لكني جهلت والآن ألهمت ؛ وما علّم الإنسان إلّا ليعلم ، والله يهدينا إلى الذي يكون أحسن وأقوم ؛ وإني لأعلم سيدي بخبري ، وأطلع جلاله على عجري (٢) وبجري ؛ ولكني رحلت عن تلك الحضرة ، وعدمت النّظرة في تلك النّظرة ؛ لبست الإهمال ، واطّلعت في السفر والاعتمال ، فأقيم بادي الكآبة ، مهتاج الصّبابة ، قد فارقت السّكن ، وخلفت الدار مثيرة الشّجن : [الوافر]
وكانت جنّتي فخرجت منها |
|
كآدم حين أخرجه الضّرار |
__________________
(١) تقتضي قواعد الإعراب أن تنصب ؛ لأنها اسم إنّ.
(٢) العجر : العيوب. والبجر : الأحزان. لسان العرب (عجر) و (بجر).
حتى إذا حططت رحلي بالقرى ، وقنعت بالزّاد الذي كفى معيارا والقرى ؛ أدخلت إلى دار ضيقة المسالك ، شديدة الظّلمة كالليل الحالك ، تذكّرني القبر وأهواله وتنسيني الذي أهواه ، بل تزيد على القبر برفل لا يتخلّص ، وبراغيث كزريعة الكتّان حين تمحّص ؛ وبعوض يطيل اللهز (١) ، ولا تغنّي حتى تشرب ، وبوق يسقط سقوط النّدى ، ويزحف إلى فراشي زحف العدا ؛ وأراقم خارجة من الكوى ، وحيّات بلدغها نزّاعة للشّوى ؛ وجنون يسمع عزيفها ، وسرّاق لا يعدم تخويفها ؛ هذا ولا قرق لمن بالقهر حبس ، إلّا حصير قد اسودّ من طول ما لبس ؛ لا يجتزى في طهارته بالنّضح ، ولا يحشد من جلس عليه إلّا بالجرح ؛ حتى إذا سجا الليل ، وامتدّ منه على الآفاق الذيل ، فارقني العون فراق الكرى ، ورأيت الدمع لما جرى قد جرى ؛ فأتوسّد والله ذراعي ، ولأحمد والله اضطجاعي ؛ فكلا ليليّ محمومين (٢) ، والوجع والسّهر محمولان على الرأس والعين ؛ حتى إذا طلع الصبح ، وآن لبالي وعيون الخصوم الفتح ، أتاني عون قد انحنى ظهره ظهره ، ونيّف عن المائة عمره ، لا يشعر بالجون الصّيّب ، ولا تسمعه كلمات أبي الطيّب ؛ بربري الأصل ، غير عارف بالفصل ؛ حتى إذا أذنت للخصوم ، وأردت إحياء الرسوم ، دخل عليّ غولان عاقلان ، وأثقل كتفي منهما مائلان ، قد أكلا الثّوم النّيء والبصل ، وعرقا في الزّنانير عرقا اتّصل ، يهديان إليّ تلك الروائح ، ويظهران لي المخازي والفضائح ؛ فإذا حكمت لأحدهما على خصمه ، وأردت الفصل الذي لا مطمع في فصمه ؛ هرب العون هربا ، وقضى من النجاة بنفسه أربا ؛ واجتمع إلى النصحاء ، وجاء المرضى والأصحّاء ، كلّ يقول أتريد تعجيل المنايا ، وإثكال الولايا ، وإتعاب صديقك السّيد العماد ، بمرتبة كما فعل مع القاضي الحدّاد ؛ فأقول هذا جهاد ، وما لي في الحياة مراد ، فأرتكب الخطر ، وأقضي في الحكم الوطر ، والله يسلّم ، ويكمل اللطف ويتمّم. وأما إذا جاء أحدكم لكتب عقد ، وطمعت في نسيئة أو نقد ، قطعت يومي في تفهّم مقصده ، مستعيذا بالله من غضبه وحرده ؛ حتى إذا ما تخلّصت منه ، وملأت السّجل بما أثبته عنه ، كشف عن أنياب عضل ، وعبس عبوس المحب لانقطاع وصل ؛ وقال : لقد أخطأت فيما كتبت ، ورسمت ما أردت وأحببت ؛ فأكتب عقدا ثانيا وثالثا ، وأرتقب مع كل كلام حادث حادثا ؛ فإذا رضي ، فأسأله كيف ؛ وسنّ السّالي الذي أظهره ، أو اسمه أو السيف ، أخرج من فمه درهما نتنا ، قد لزم ضرسا عفنا ؛ فأعاجله في البخور ، وأحكّه في الصّخور ، حتى إذا حمل لمن يبيع
__________________
(١) اللهز : الطّعن ، يقال : لهزه بالرمح إذا طعنه في صدره. لسان العرب (لهز).
(٢) تقتضي قواعد الإعراب أن ترفع هكذا : «محمومان».
خبز الذّرة منتنا ، ويرى أنه قد فضل بذلك أنسا وحسنا ، وجده ناقصا زائفا ، فيرجع حامله وجلا خائفا ، ويبقى القاضي فقيد الهجوع ، يشدّ الحجر على بطنه من الجوع ، على أنني أحمد خلاء البطن ، وما بجسمي لا يحكى من الوهن ؛ لتعذّر المرحاض ، وبعد ماء الحياض ، وكمون السّباع في الغياض ، وتعلّق الأفاعي بالرّداء الفضفاض ، ونجاسة الحجارة ، وكثرة تردّد السّيارة ، والانكشاف للريح العقيم ، والمطر المنصبّ إلى الموضع الذميم. هذه الحال ، وعلى شرحها مجال ، وقد صدقتك سنن فكري ، وأعلمتك بذات صدري ، فتجلّى الغرارة غرور ، وشهود الشّهد زور ، والطّمع في الصّرّة إصرار ، ودون التّبر يعلم الله تيّار. وأما الكبش ، فحظّي منه غباره إذا خطر ، والثّور بقرنه إذا العيد حضر ، كما أن حظّي من الجدي التأذّي بمسلكه ، وإنّ جدي السماء لأقرب لي من تملّكه ، وأنا من الحلاوة سالم ابن حلاوة ، ولا أعهد من طرف الطرف الدّماوة ، ودون الدّجاج كل مدجّج ، وعوض الأترجّ رجّة بكل معرج ، ولو عرفت أنك تقبل على علّاتها الهدايا ، وتوجب المزيد لأصحابك المزايا ، لبعثت بالقماش ، وأنفذت الرّياش ، وأظهرت الغنى ، والوقوف بمبنى المنى ، وأوردتها عليك من غير هلع ، مطّلعة في الجوف بعد بلع ، من كل ساحليّة تقرّب إلى البحر ، وعدوية لا تعدّ وصدر مجلس الصّدر ، حتى أجمع بين الفاكهة والفكاهة ، ويبدو لي بعد الشقف وجوه الوجاهة ، وأتبرأ من الصّدّ المذموم ، ولا أكون أهدأ من القطا لطرق اللّوم ؛ لأنك زهدت في الدنيا زهد ابن أدهم ، وألهمك الله من ذلك أكرم ما ألهم ؛ فيدك من أموال الناس مقبوضة ، وأحاديث اللها الفاتحة للها مرفوضة ؛ وإذا كان المرء على دين خليله ، ومن شأنه سلوك نهجه وسبيله ، فالأليق أن أزهد في الصّفراء والبيضاء ، وأقابل زخرف الدنيا بالبغضاء ، وأحقّق وأرجو على يدك حسن التخلّي ، والاطّلاع على أسرار التّجلّي ؛ حتى أسعد بك في آخرتي ودنياي ، وأجد بركة خاطرك في مماتي ومحياي ؛ أبقاك الله بقاء يسر ، وأمتع بمناقبك التي يحسدها الياقوت والدّر ، ولا زلت في سيادة تروق نعتا ، وسعادة لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، وأقرأ عليك سلاما عاطر العرف ، كريم التأكيد والعطف ، ما رثى لحالي راث ، وذكرت أدّاية حراث ، ورحمة الله وبركاته. وكتبه أخوك ومملوكك ، وشيعة مجدك ، في الرابع والعشرين من جمادى الأولى عام أربعة وستين وسبعمائة».
مولده : بغرناطة عام ثلاثة عشر وسبعمائة.
محنته : توجّه رسولا عن السلطان إلى صاحب تلمسان السلطان أحمد بن موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن بن زيّان ، وظفر بالجفن الذي ركبه العدو ، بأحواز جزيرة حبيبة ، من جهة وهران ، فأسر هو ومن بأسطول
سفره من المسلمين ؛ وبلغ الخبر فعظم الفجع ؛ وبينا (١) نحن نروم سفر أسطول يأخذ الثار ، ويستقري الآثار ، فيقيل العثار ؛ إذ (٢) اتّصل الخبر بمهادنة السلطان المذكور ، ففدي من أسر بذلك المال الذي ينيف على سبعة آلاف من العين في ذلك ؛ فتخلّص من المحنة لأيام قلائل ، وعاد ؛ فتولّى السلطان إرضاءه عمّا فقد ، وضاعف له الاستغناء وجدّد ؛ وكان حديثه من أحاديث الفرج بعد الشدّة محسوبا ، وإلى سعادة السلطان منسوبا. وأنشدته شعرا في مصابه ، بعدها ، وقد قضيت له من برّ السلطان على عادتي ، ما جبر الكسر ، وخفض الأمر : [المتقارب]
خلصت كما خلص الزّبرقان |
|
وقد محق النّور عنه السّرار (٣) |
وفي السّيّق والرار |
|
في هذا سرّ وفي ذا أسرار (٤) |
وكان تاريخ هذه المحنة المردفة المنحة ، حسبما نقلته من خطّه ؛ قال : «اعلموا يا سيدي أبقاكم الله تعالى ، أنّ سفرنا من ألمريّة ، كان في يوم الخميس السادس لشهر ربيع الآخر من عام ثمانية وستين وسبعمائة ، وتغلّب علينا العدو في عشيّة يوم الجمعة الثاني منه ، بعد قتال شديد ؛ وكان خروجنا من الأسر في يوم السبت الثاني والعشرين لربيع الثاني المذكور ، وكان وصولي إلى الأندلس في أسطول مولانا نصره الله ، في جمادى الآخرة من العام المذكور ، بعد أن وصلوا قرطاجنّة وأخذوا أجفانا ثلاثة من أجفان العدوّ ، وعمل المسلمون الأعمال الكريمة».
إبراهيم بن خلف بن محمد بن الحبيب بن عبد الله بن عمر
ابن فرقد القرشي العامري (٥)
قال ابن عبد الملك : كذا وقفت على نسبه بخطّه في غير ما موضع من أهل مورة (٦) ، وسكن إشبيلية.
حاله : كان متفنّنا في معارفه ، محدّثا ، راوية ، عدلا ، فقيها ، حافظا ، شاعرا ، كاتبا ، بارعا ، حسن الأخلاق ، وطئ الأكناف ، جميل المشاركة لإخوانه وأصحابه ، كتب بخطه الكثير من كبار الدّواوين وصغارها ، وكان من أصحّ الناس كتبا ، وأتقنهم
__________________
(١) في الأصل : «وبين».
(٢) في الأصل : «إذا».
(٣) في الأصل : «السّرا».
(٤) البيت منكسر الوزن ، ولا معنى له ، وخصوصا صدره.
(٥) ترجمة إبراهيم بن خلف العامري في التكملة (ج ١ ص ١٣١).
(٦) مورة ، بالإسبانيةMora : حصن بالأندلس من أعمال طليطلة. معجم البلدان (ج ٥ ص ٢٢١).
ضبطا وتقييدا ، لا تكاد تلقى فيما تولّى تصحيحه خللا ، وكان رؤوفا شديد الحنان على الضعفاء والمساكين واليتامى ، صليبا في ذات الله تعالى ، يعقد الشروط محتسبا ، لا يقبل ثوابا عليها إلّا من الله تعالى.
مشيخته : تلا بالسّبع على أبي عمران موسى بن حبيب ، وحدّث عن أبي الحسن بن سليمان بن عبد الرحمن المقرئ ، وعبد الرحمن بن بقّي ، وأبي عمرو ميمون بن ياسين ، وأبي محمد بن عتّاب ، وتفقّه بأبويّ عبد الله بن أحمد بن الحاجّ ، وابن حميد ، وأبي الوليد بن رشد ، وأجاز له أبو الأصبغ بن مناصف ، وأبو بكر بن قزمان ، وأبو الوليد بن طريف.
من روى عنه : روى عنه أبو جعفر ، وأبو إسحاق بن علي المزدالي ، وأبو أمية إسماعيل بن سعد السعود بن عفير ، وأبو بكر بن حكم الشّرمسي ، وابن خير ، وابن تسع ، وابن عبد العزيز الصدفي ، وأبو الحجاج إبراهيم بن يعقوب ، وأبو علي بن وزير ، وأبو الحسن بن أحمد بن خالص ، وأبو زيد محمد الأنصاري ، وأبو عبد الله بن عبد العزيز الذّهبي ، وأبو العباس بن سلمة ، وأبو القاسم بن محمد بن إبراهيم المراعي ، وأبو محمد بن أحمد بن جمهور ، وعبد الله بن أحمد الأطلس.
تواليفه : دوّن برنامجا ممتعا ذكر فيه شيوخه ، وكيفيّة أخذه عنهم ، وله رجز في الفرائض مشهور ، ومنظوم كثير ، وترسّل منوّع ، وخطب مختلفة المقاصد ، ومجموع في العروض.
دخوله غرناطة : قال المؤرّخ : وفي عام أربعة وخمسين وخمسمائة ، عند تغيّب الخليفة (١) بالمهديّة ، استدعى السيد أبو سعيد الوالي بغرناطة ، عند استقراره بها ، الحافظ أبا بكر بن الجدّ ، والحافظ أبا بكر بن حبيش ، والكاتب أبا القاسم بن المراعي ، والكاتب أبا إسحاق بن فرقد ، وهو هذا المترجم به ، فأقاموا معه مدّة تقرب من عامين اثنين بها.
شعره : مما ينقل عنه قصيدة شهيرة في رثاء الأندلس : [المتقارب]
ألا مسعد منجز ذو فطن |
|
يبكي بدمع معين هتن |
جزيرة أندلس حسرة |
|
لا غالب من حقود الزّمن |
ويندب أطلالها آسفا |
|
ويرثي من الشّعر ما قد وهن |
__________________
(١) هو الخليفة عبد المؤمن بن علي الموحدي الذي حكم الأندلس والمغرب حتى سنة ٥٥٨ ه.
راجع البيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٧٩).
ويبكي الأيامى ويبكي اليتامى |
|
ويحكي الحمام ذوات الشّجن |
ويشكو إلى الله شكوى شج |
|
ويدعوه في السّرّ ثم العلن |
وكانت رباطا لأهل التّقى |
|
فعادت مناطا لأهل الوثن |
وكانت معاذا لأهل التّقى |
|
فصارت ملاذا لمن لم يدن |
وكانت شجى في حلوق العدا |
|
فأضحى لهم مالها محتجن |
وهي طويلة ، ولديّ خلاف فيمن أفرط في استحسانها. وشعره عندي وسط. ومن شعره وهو حجّة في عمره عند الخلاف في ميلاده ووفاته ، قال : [الطويل]
ثمانون (١) مع ستّ عمرت وليتني |
|
أرقت دموعي بالبكاء على ذنب |
فلا الدّمع في محو الخطيئة غنية |
|
إذا هاج من قلب منيب إلى الرّبّ |
فيا سامع الأصوات رحماك أرتجي |
|
فهب (٢) إنسكاب الدّمع من رقّة القلب |
وزكّ الذي تدريه من شيمة |
|
تعلّق بالمظلوم من شدّة الكرب |
وزكّ مثابي في العقود وكتبها |
|
لوجهك لم أقبل ثوابا على كتب |
ولا تحرمني أجر ما كنت فاعلا |
|
فحقّ اليتامى عندي من لذي صعب |
ولا تخزني يوم الحساب وهو له |
|
إذا جئت مذعورا من الهول والرّعب |
مولده : حسبما نقل من خط ابنه أبي جعفر ، ولد ، يعني أباه سنة أربع وثمانين وأربعمائة (٣).
وفاته : بعد صلاة المغرب من ليلة الثلاثاء الثامن عشر من محرم عام اثنين وسبعين وخمسمائة. ونقل غير ذلك.
إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن عبيدس بن محمود النفزي
أبّذي (٤) الأصل ، غرناطي الاستقرار ، ويكنى أبا إسحاق.
حاله : خاتمة الرّحّال بالأندلس ، وشيخ المجاهدات وأرباب المعاملات ، صادق الأحوال ، شريف المقامات ، مأثور الإخلاص مشهور الكرامات ، أصبر الناس على
__________________
(١) في الأصل : «ثمانون عاما مع ست ...» وهكذا ينكسر الوزن.
(٢) في الأصل : «فهب لي انسكاب ...» وهكذا ينكسر الوزن.
(٣) في التكملة (ج ١ ص ١٣٢): «ومولده بعد سنة ثمان وثمانين وأربعمائة».
(٤) نسبة إلى أبّذة ، وهي مدينة صغيرة بالأندلس على مقربة من النهر الكبير ، وهي بالإسبانية : Ubeda. الروض المعطار (ص ٦).
مجاهداته ، وأدومهم على عمل وذكر وصلاة وصوم ، لا يفتر عن ذلك ولا ينام ، آية الله في الإيثار ، لا يدّخر شيئا لغد ، ولا يتحرّف بشيء ، وكان فقيها حافظا ، ذاكرا للغة والأدب ، نحويّا ماهرا ، درس ذلك كلّه أول أمره ، كريم الأخلاق ، غلب عليه التصوّف فشهر به ، وبمعرفة طريقه الذي ندّ فيها أهل زمانه ، وصنّف فيها التصانيف المفيدة.
ترتيب زمانه : كان يجلس إثر صلاة الصبح لمن يقصده من الصالحين ، فيتكلم لهم بما يجريه الله على لسانه ، وييسّر من تفسير ، وحديث وعظة ، إلى طلوع الشمس ؛ فيتنفّل صلاة الضّحى ، وينفصل إلى منزله ، ويأخذ في أوراده ، من قراءة القرآن والذّكر والصلاة إلى صلاة الظهر ، فيبكّر فى رواحه ، ويوالي التنفّل إلى إقامة الصلاة ، ثم كذلك في كل صلاة ، ويصل ما بين العشاءين بالتنفّل ، هذا دأبه أبدا.
وكان أمره في التوكّل عجبا ، لا يلوي على سبب ، وكانت تجبى إليه ثمرات كلّ شيء ، فيدفع ذلك بجملته ، وربما كان الطعام بين يديه ، وهو محتاج ، فيعرض من يسأله ، فيدفعه جملة ، ويبقى طاويا ، فكان الضعفاء والمساكين له لياذا ينسلون من كل حدب ، فلا يردّ أحدا منهم خائبا ، ونفع الله بخدمته وصحبته ، واستخرج بين يديه عالما كثيرا.
مشيخته : أخذ القراءة عن أبي عبد الله الحضرمي ، وأبي الكوم جودي بن عبد الرحمن ، والحديث عن أبي الحسن بن عمر الوادي آشي ، وأبي محمد عبد الله بن سليمان بن حوط الله ، والنحو واللغة عن ابن يربوع وغيره. ورحل وحجّ ، وجاور وتكرّر. ولقي هناك غير واحد ، من صدور العلماء وأكابر الصوفية ، فأخذ صحيح البخاري سماعا منه سنة خمس وستمائة عن الشّريف أبي محمد بن يونس ، وأبي الحسن علي بن عبد الله بن المغرباني ، ونصر بن أبي الفرج الحضرمي ، وسنن أبي داود وجامع التّرمذي على أبي الحسن بن أبي المكارم نصر بن أبي المكارم البغدادي ، أحد السامعين على أبي الفتح الكروخي ، وأبي عبد الله محمد بن مستري الحمة ، وأبي المعالي بن وهب بن البنا ، وببجاية عن أبي الحسن علي بن عمر بن عطيّة.
من روى عنه : روى عنه خلق لا يحصون كثرة ؛ منهم أحمد بن عبد المجيد بن هذيل الغسّاني ، وأبو جعفر بن الزبير ، وغيره.
تواليفه : صنّف في طريقة التصوّف وغيرها تصانيف مفيدة ؛ منها «مواهب العقول وحقائق المعقول» ، و «الغيرة المذهلة ، عن الحيرة والتّفرقة والجمع» ، و «الرحلة العنوية» ، ومنها «الرسائل في الفقه والمسائل» ، وغير ذلك.
شعره : له أشعار في التصوّف بارعة ، فمن ذلك ما نقلته من خط الكاتب أبي إسحاق بن زكريا في مجموع جمع فيه الكثير من القول : [الوافر]
يضيق عليّ من وجدي الفضاء |
|
ويقلقني من الناس العناء |
وأرض الله واسعة ولكن |
|
أبت نفسي تحيط بها السماء |
رأينا العرش والكرسيّ أعلى |
|
فواليناهما حرم الولاء (١) |
فأين الأين منّا أو زمان |
|
بحيث لنا على الكلّ استواء |
شهدنا للإله بكلّ حكم |
|
فغاب القلب وانكشف الغطاء |
ويدعوني الإله إليه حقّا |
|
فيؤنسني من الخوف الرّجاء |
ويقبضني ويبسطني ويقضي |
|
بتفريقي وجمعي ما يشاء |
ويعي في وجود الخلق نحوا |
|
ينعت من تولّاه الفناء |
فكم أخفي وجودي وقت فقدي |
|
كأن الفقد والإحيا سواء |
فسكر ثم صحو ثم سكر |
|
كذاك الدهر ليس له انقضاء |
فوصفي حال من وصفي ولكن |
|
ظهور الحقّ ليس له خفاء |
إذا شمس النهار بدت تولّت |
|
نجوم الليل ليس لها انجلاء |
ومن شعره : [البسيط]
كم عارف سرحت في العلم همّته |
|
فعقله لحجاب العقل هتّاك |
كساه نور الهدى بردا وقلّده |
|
درّا ففي قلبه للعلم أسلاك |
كسب ابن آدم في التحقيق كسوته |
|
إنّ القلوب لأنوار وأحلاك |
كلّف فؤادك ما يبدي عجائبه |
|
إنّ ابن آدم للأسرار درّاك |
كيف وكم ومتى والأين منسلب |
|
عن وصف باريها والجهل تبّاك |
كبّر وقدّس ونزّه ما أطقت فلم |
|
يصل إلى ملك الأملاك أملاك |
كرسيه ذلّ والعرش استكان له |
|
ونزه الله أملاك وأفلاك |
كلّ يقرّ بأنّ العجز قيّده |
|
والعجز عن درك الإدراك درّاك |
وقال : وهو ما اشتهر عنه ، وأنشدها بعض المشارقة في رحلته في غرض اقتضى ذلك ، يقتضي ذكره طولا : [البسيط]
يا من أنامله كالمزن هامية |
|
وجود كفّيه أجرى من يجاريها |
__________________
(١) هنا اختلفت حركة الروي ، فجاءت مكسورة ، وهذا ما نسمّيه بالإقواء.
بحقّ من خلق الإنسان من علق |
|
انظر إلى رقعتي وافهم معانيها |
أني فقير ومسكين بلا سبب |
|
سوى حروف من القرآن أتلوها |
سفينة الفقر في بحر الرّجا غرقت |
|
فامنن عليها بريح منك يجريها |
لا يعرف الشوق إلّا من يكابده |
|
ولا الصّبابة إلّا من يعانيها |
وقال القاضي أبو عبد الله بن عبد الملك ، وقد ذكره : على الجملة فبه ختم جلّة أهل هذا الشأن بصقع الأندلس ، نفعه الله ونفع به.
مولده : ولد بجيّان سنة اثنتين وستين وخمسمائة أو ثلاث وستين.
إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي بكر التّسوليّ (١)
من أهل تازيّ ، يكنى أبا سالم ، ويعرف بابن أبي يحيى.
حاله : من أهل «الكتاب المؤتمن» (٢) : كان (٣) هذا الرجل قيّما على «التّهذيب» ، و «رسالة ابن أبي زيد» ، حسن الإقراء لهما ؛ وله عليهما تقييدان نبيلان ، قيّدهما أيام قراءته إياهما على أبي الحسن الصّغير ، حضرت مجالسه بمدرسة عدوة الأندلس من فاس ، ولم أر في متصدّري بلده أحسن تدريبا (٤) منه. كان فصيح اللسان ، سهل الألفاظ ، موفيا حقوقها ، وذلك لمشاركته الحضر فيما في أيديهم (٥) من الأدوات ؛ وكان مجلسه وقفا على «التهذيب» و «الرسالة» ؛ وكان مع ذلك شيخا (٦) فاضلا ، حسن اللقاء ، على خلق بائنة من (٧) أخلاق أهل مصره. امتحن بصحبة السلطان ، فصار يستعمله في الرسائل ، فمرّ في ذلك حظّ كبير من عمره ضائعا ، لا في راحة دنيا ، ولا في نصيب (٨) آخرة. ثم قال : هذه (٩) سنّة الله فيمن خدم الملوك ، ملتفتا إلى ما يعطونه ، لا إلى ما يأخذون من عمره وراحته ، أن يبوؤا (١٠) بالصّفقة الخاسرة ، لطف الله بمن ابتلي بذلك ، وخلّصنا خلاصا جميلا.
__________________
(١) ترجمة إبراهيم بن عبد الرحمن التسولي في تاريخ قضاة الأندلس (ص ١٧٢) ، ونفح الطيب (ج ٧ ص ٣٦٢) ، وأزهار الرياض (ج ٥ ص ٥٧) وكنيته فيه : «أبو إسحاق».
(٢) عنوان هذا الكتاب هو : «الكتاب المؤتمن في أنباء أبناء الزمن» وهو من تأليف ابن الحاج البلفيقي ، شيخ لسان الدين ابن الخطيب.
(٣) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣٦٢ ـ ٣٦٣).
(٤) في النفح : «تدريسا».
(٥) في النفح : «بأيديهم».
(٦) في النفح : «سمحا».
(٧) في النفح : «على».
(٨) في النفح : «نصب».
(٩) في النفح : «وهذه».
(١٠) في النفح : «يبوء».
ومن كتاب «عائد الصلة» (١) : الشيخ ، الحافظ ، الفقيه ، القاضي ، من صدور المغرب ، مشاركا (٢) في العلم ، متبحّرا (٣) في الفقه ، كان وجيها عند الملوك ، صحبهم ، وحضر مجالسهم ، واستعمل في السفارة ، فلقيناه بغرناطة ، وأخذنا بها عنه ؛ تامّ السّراوة (٤) ، حسن العهد ، مليح المجالس ، أنيق المحاضرة ، كريم الطبع ، صحيح المذهب.
تصانيفه : قيّد (٥) على «المدوّنة» بمجلس شيخه القاضي (٦) أبي الحسن كتابا مفيدا وضمّ أجوبته على المسائل في سفر ، وشرح كتاب «الرسالة» شرحا عظيم الفائدة.
مشيخته : لازم (٧) أبا الحسن الصغير ، وهو كان قارىء كتب الفقه عليه ، وجلّ انتفاعه في التفقّه به. وروى عن أبي زكريا بن أبي ياسين (٨) ، قرأ عليه كتاب «الموطّأ» ، إلّا كتاب «المكاتب» ، وكتاب «المدبّر» ، فإنه سمعه بقراءة الغير ، وعن أبي عبد الله بن رشيد ، قرأ عليه «الموطأ» ، و «شفاء» عياض ، وعن أبي الحسن بن عبد الجليل السّداري (٩) ، قرأ عليه «الأحكام الصغرى» لعبد الحق ، وأبي الحسن بن سليمان ، قرأ عليه «رسالة ابن أبي زيد» ، وعن غيرهم.
وفاته : فلج بآخرة ، فالتزم منزله بفاس يزوره السلطان فمن (١٠) دونه ، وتوفي بعد عام ثمانية وأربعين وسبعمائة (١١).
إبراهيم بن محمد بن علي بن محمد
ابن أبي العاصي التّنوخي (١٢)
أصله من جزيرة طريف ، ونشأ بغرناطة واشتهر.
__________________
(١) النص أيضا في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣٦٣).
(٢) في النفح : «مشاركة».
(٣) في النفح : «وتبحّرا».
(٤) السراوة : السخاء في مروءة. لسان العرب (سرا).
(٥) النص أيضا في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣٦٣).
(٦) كلمة «القاضي» غير واردة في النفح.
(٧) النص في نفح الطيب (ج ٧ ص ٣٦٣ ـ ٣٦٤).
(٨) في النفح : «زكريا بن يس».
(٩) في النفح : «السدراتي».
(١٠) في النفح : «ومن».
(١١) في تاريخ قضاة الأندلس : توفي في حدود ٧٤٩ ه.
(١٢) ترجمة إبراهيم التنوخي في الكتيبة الكامنة (ص ٣٢) ، وبغية الوعاة (ص ١٨٥) وجاء في بغية الوعاة أنه ولد في حدود سنة سبع وسبعين وستمائة ، وتوفي سنة ٧٢٦ ه.
حاله : من «عائد الصلة» : كان نسيج وحده حياء ، وصدقة ، وتخلّقا ، ومشاركة ، وإيثارا. رحل عند استيلاء العدو على جزيرة طريف ، عام أحد وسبعين وستمائة ، متحوّلا إلى مدينة سبتة ، فقرأ بها واستفاد. وورد الأندلس ، فاستوطن مدينة غرناطة ، وكتب في الجملة عن سلطانها ، وترقى معارج الرّتب ، حالّا محالا ، من غير اختلاف على فضله ، ولا نزاع في استحقاقه ، وأقرأ فنونا من العلم ، بعد مهلك أستاذ الجماعة أبي جعفر بن الزبير ، بإشارة منه به ؛ وولّي الخطابة والإمامة بجامعها منتصف صفر عام ستة عشر وسبعمائة ، وجمع بين القراءة والتدريس ، فكان مقرئا للقرآن ، مبرّزا في تجويده ، مدرّسا للعربية والفقه ، آخذا في الأدب ، متكلّما في التفسير ، ظريف الخط ، ثبتا محققا لما ينقله. وألقى الله عليه من المحبة والقبول ، وتعظيم الخلق له ، ما لا عهد بمثله لأحد ؛ بلغ من ذلك مبلغا عظيما ، حتى كان أحبّ إلى الجمهور من أوصل أهلهم وآبائهم ، يتزاحمون عليه في طريقه ، يتمسّحون به ، ويسعون بين يديه ، ومن خلفه ، ويتزاحم مساكينهم على بابه ، قد عوّدهم طلاقة وجهه ، ومواساته لهم بقوته ، يفرّقه عليهم متى وجدوه ، وربما أعجلوه قبل استواء خبزه ، فيفرّقه عليهم عجينا ، له في ذلك أخبار غريبة. وكان صادعا بالحق ، غيورا على الدين ، مخالفا لأهل البدع ، ملازما للسّنّة ، كثير الخشوع والتخلّق على علوّ الهمّة ، مبذول المشاركة للناس والجدّ في حاجاتهم ، مبتليا (١) بوسواس في وضوئه ، يتحمل الناس من أجله مضضا في تأخير الصلوات ومضايقة أوقاتها.
مشيخته : قرأ ببلده على الخطيب القاضي المقرئ أبي الحسن عبيد الله بن عبد العزيز القرشي ، المعروف بابن القارئ ، من أهل إشبيلية ، وقرأ بسبتة على الأستاذ إمام المقرئين لكتاب الله ، أبي القاسم محمد بن عبد الرحمن بن الطيّب بن زرقون القيسي الضرير ، نزيل سبتة ، والأستاذ أبي إسحاق الغافقي المريوني ، وقرأ على الشيخ الوزير أبي الحكم بن منظور القيسي الإشبيلي ، وعلى الشيخ الراوية الحاج أبي عبد الله محمد بن الكتامي التلمساني بن الخضّار ، وقرأ بغرناطة على الأستاذ أبي جعفر بن الزبير ، وأخذ عن أبي الحسن بن مستقور.
شعره : كان يقرض شعرا وسطا ، قريبا من الانحطاط. قال شيخنا أبو بكر بن الحكيم (٢) في كتابه المسمّى ب «الفوائد المنتخبة ، والموارد المستعذبة» : كتب إليه
__________________
(١) في الأصل : «مبتلي» ، وقد صوّبناه لأن قواعد اللغة تقتضي النصب ، كونه خبر كان.
(٢) هو محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن يحيى بن الحكيم اللخمي ، وسيترجم له ابن الخطيب بإفاضة في الجزء الثاني من كتاب الإحاطة.
شيخنا وبركتنا أبو جعفر بن الزيّات في شأن شخص من أهل البيت النبوي بما نصّه : [الخفيف]
رجل يدّعي القرابة للبي |
|
ت وإنّ الثريّا منه بمعزل |
سال (١) مني خطابكم وهو هذا |
|
ولكم في القلوب أرفع منزل |
فهبوه دعاءكم وامنحوني |
|
منه حظّا ينمي الثواب ويجزل |
وعليكم تحيّة الله مادا |
|
م أمير الهدى يولّي ويعزل |
فأجابه : [الخفيف]
يا إمامي ومن به قطركم ذا |
|
ك وحادي البلاد أطيب منزل |
لم أضع ما نظمتم من يدي حتى |
|
أنيل الشّريف تحفة منزل |
وحباه بكلّ منح جزيل |
|
من غدا يمنح الثّواب ويجزل |
دمتم تنشرون علما ثواب الله فيه لكم أعزّ وأجزل
تذكرون الله ذكرا كثيرا |
|
وعليكم سكينة الله تنزل |
وطلبتم منّي الدّعاء وإنّي |
|
عند نفسي من الشروط بمعزل |
لكن ادعو ولتدع لي برضا الله وأبدى فهم ذكر قد أنزل
وحديث الرسول صلّى عليه |
|
كل وقت وربّ لنا الغيث ينزل |
وعليكم تحيّتي كل حين |
|
ما اطمأنّت بمكة أمّ معزل |
قال : ومما أنشدني من نظمه أيضا في معرض الوصيّة للطلبة (٢) : [الكامل]
اعمل بعلمك تؤت علما إنما |
|
عدوى علوم المرء منح الأقوم (٣) |
وإذا الفتى قد نال علما ثم لم |
|
يعمل به فكأنما (٤) لم يعلم |
__________________
(١) في الأصل : «سأل» وكذا ينكسر الوزن.
(٢) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص ٣٣) ، وبغية الوعاة (ص ١٨٦).
(٣) في الكتيبة الكامنة : «... تؤت حكما إنما جدوى ... نهج الأقوم». وفي بغية الوعاة : «... تؤت حكمة إنما جدوى ... نهج الأقوم».
(٤) في الكتيبة والبغية : «فكأنه».
وقال موطئا على البيت الأخير (١) : [المتقارب]
أمولاي أنت الغفور الكريم |
|
لبذل النّوال مع المعذره (٢) |
عليّ ذنوب وتصحيفها |
|
ومن عندك الجود والمغفره |
إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن محمد
ابن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر بن قيس
الأنصاري الخزرجي (٣)
أمير المؤمنين (٤) بالأندلس ، رحمه الله.
أوّليّته : تقرّر عند ذكر الملوك من قومه في اسم صنو جدّه ، أمير المسلمين أبي عبد الله الغالب بالله.
حاله : من كتاب «طرفة العصر في تاريخ دولة بني نصر» من تصنيفنا (٥) : «كان ، رحمه الله ، حسن (٦) الخلق ، جميل (٧) الرّواء ، رجل جدّ ، سليم الصدر ، كثير الحياء ، صحيح العقل (٨) ، ثبتا في المواقف ، عفيف الإزار ، ناشئا في حجر الطهارة ، بعيدا عن (٩) الصّبوة ، بريئا من المعاقرة. نشأ مشتغلا بشأنه ، متبنّكا (١٠) نعمة أبيه ، مختصّا بإيثار السلطان جدّه أبي أمّه ، وابن عمّ والده ، منقطعا إلى الصّيد ، مصروف (١١) اللّذّة إلى استجادة سلاحه ، وانتقاء مراكبه ، واستفراه جوارحه ، إلى أن أفضى إليه الأمر ، وساعدته الأيام ، وخدمه الجدّ ، وتنقّل (١٢) إلى بيته الملك به ، وثوى في عقبه الذّكر ، فبذل العدل في رعيّته ، واقتصد في جبايته ، واجتهد في مدافعة
__________________
(١) البيتان في الكتيبة الكامنة (ص ٣٣). وقوله : «وقال موطئا على البيت الأخير» جاء في الكتيبة الكامنة بعد هذين البيتين مباشرة : [مخلع البسيط]
دنياك مهما اعتبرت فيها |
|
كجيفة عرضة انتهاب |
إن شئتها فاحتمل أذاها |
|
واصبر عليها مع الكلاب |
(٢) في الكتيبة الكامنة : «... أنت الكريم العفو ... وللمعذره».
(٣) ترجمة إسماعيل بن فرج في اللمحة البدرية (ص ٧٨).
(٤) في اللمحة البدرية (ص ٧٨): «أمير المسلمين». وهو اللقب الصحيح لسلاطين بني نصر.
(٥) النص في اللمحة البدرية (ص ٧٨).
(٦) في اللمحة البدرية : «جميل».
(٧) في اللمحة البدرية : «حسن».
(٨) في اللمحة البدرية : «العقد».
(٩) في اللمحة البدرية : «من».
(١٠) تبنّك بالمكان : أقام به وتأهل ، وتبنّك في عزّه : تمكّن.
(١١) في الأصل : «معروف» والتصويب من اللمحة البدرية.
(١٢) في اللمحة : «وانتقل به إلى بيت الملك وثوى ...».