أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]
المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3319-5
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٤١
وأفقدنيها الرّنق أمّا حفيّة |
|
إذا هي ضفّت (١) ألّفت بين رفدين (٢) |
تعنّفني أمّي على أن رثيتها |
|
بشعري (٣) وأن أتبعتها الدّم من عيني (٤) |
لها الفضل عندي أرضعتني أربعا (٥) |
|
وبالرغم ما بلّغتني رأس عامين (٦) |
محمد بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن نصر
الرئيس المتوثّب على الملك ، وحيّ كرسي الإمارة ، وعاقد صفقة الخسران المبين ، يكنى أبا عبد الله.
أوّليّته : معروفة.
حاله : «من نفاضة الجراب» (٧) وغيره : كان شيطانا ، ذميم الخلق ، حرفوشا ، على عرف المشارقة ، متراميا للخسائس ، مألفا للدّعرة والأجلاف والسّوّار وأولي الريب ، خبيثا كثير النّكر ، منغمسا في العهن ، كلفا بالأحداث ، متقلبا عليهم في الطرق ، خليع الرّسن ، ساقط الحشمة ، كثير التّبذّل ، قوّاد عصبة كلاب ، معالجا لأمراضها ، مباشرا للصّيد بها ، راجلا في ثياب منتاب الشّعر من الجلود والسوابل والأسمال ؛ عقد له السلطان على بنته لوقوع القحط في رجال بيتهم ، ونوّههه بالولاية ، وأركبه ، وأغضى له عن موبقات تقصر به ، إلى أن هلك ؛ وحاد الأمر عن شقيق زوجه ، واستقرّ في أخيه ، وثقل على الدولة ، لكراهة طلعته ، وسوء الأحدوثة به ، فأمر بترك المباشرة ، والدخول للقلعة ، وأذن له في التّصرف في البلد والفحص ، وأبقيت عليه النعمة ، فداخل أمّ زوجه ، وضمن لها تمام الأمر لولدها ، وأمدّته بالمال ، فنظر من المساعير شيعة ، من كسرة الأغلاق ، وقتلة الزقاق ، ومختلسي البضائع ، ومخيفي السّابلة ، واستضاف من أسافلة الدولة ، من آسفته بإقصار قصد ، أو مطل وعد ، أو حطّ رتبة ، أو عزل عن ولاية ، فاستظهر منهم بعدد ولا ، كالشّقيّ الدّليل الموروري ، الغريب الطّور ، وإبراهيم بن أبي الفتح المنبوذ بالإضليع ، قريع الجهل ، ومستور العظيمة ، وارتادوا عورة القلعة فاهتدوا منها إلى ما شاؤوا وتألّفوا بخارج. ثم تسلّلوا
__________________
(١) في الأصل : «حفت» والتصويب من الذخيرة. وضفّت : حلبت باليد كلها لكبر ضرع البقرة.
(٢) في الأصل : «وفدين» والتصويب من الذخيرة. والرّفد : القدح الضخم.
(٣) كلمة «بشعري» ساقطة في الإحاطة ، وقد أضفناها من الذخيرة.
(٤) في الأصل : «من عين» والتصويب من الذخيرة.
(٥) كلمة «أربعا» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها من الذخيرة.
(٦) في الأصل : «بلغتني وأمي حولين» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من الذخيرة.
(٧) هذا النص لم يرد في نفاضة الجراب المطبوع.
ببطن الوادي المعروف ب «هدارّه» ، إلى أن لصقوا بجناح السّور الصّاعد ، الراكبة قوسه جرية النهر ، وصعدوا مساوقين جناحه المتّصل بسور القلعة ، وقد نقص كثير من ارتفاعه ، لحدثان إصلاح فيه ، فتسوّروه عن سلّم ، ودافع بعض محاربيهم بعضا في استباق أدراجه ، فدخلوا البلد في الثّلث الأخير من ليلة الأربعاء الثامن والعشرين لرمضان عام ستين وسبعمائة ، ثم استغلظوا بالمشاعل ، وقتلوا نائب الملك رضوانا النّصري ، سايس الأمر ، وبقيّة المشيخة ، واستخرجوا السلطان الذي هو يزيفه ، فنصبوه للناس ، وتمّ الأمر ، بما دلّ على احتقار الدنيا عند الله ؛ وانخرط هذا الخبّ في طور غريب من التنزّل للسلطان ، والاستخدام لأمّه ، والتهالك في نصحه ، وخلط نفسه فيه ، وتبذّل في خدمته ؛ يتولّى له الأمور ، ويمشي في زيّ الأشراط بين يديه ، ويتأتّى لشهواته ، ويتظاهر بحراسته. ولمّا علم أن الأمر يشقّ تصيّره إليه من غير واسطة ، بغير انقياد الناس إليه ، من غير تدريج كاده (١) ، فألطف الحيلة في مساعدته على اللذّات ، وإغرائه بالخبائث ، وشغله بالعهر ، وقتله بالشّهوات المنحرفة ، وجعل يتبرّأ من دنّيته وينفق بين الناس من سلع اغتيابه ، ويرى الجماهير الإنكار لصنيعه ، ويزيّن لهم الاستعاضة منه بعد ما غلظت شوكته ، وضمّ الرجال إلى نفسه موريا بحفظه ؛ والاستظهار على صونه. وفي الرابع من شعبان عام أحد وستين وسبعماية ، ثار به في محلّ سكناه في جواره ، واستجاش أولياء غدره ؛ وكبس منزله ، مداخلا للوزير المشؤوم ، عاقدا معه صفقة الغدر. وامتنع السلطان بالبرج الأعظم ، فاستنزله وقتله ، كما مرّ في اسم المذكور قبل ، واستولى على الملك ، فلم يختلف عليه اثنان. واشتغل طاغية الروم بحرب ، كان بينه وبين القطالنيّين (٢) ، فتمالأ لمسالمته ، فاغتبط الصنيع وتهنّا المنحة ، وتشطّط على الروم في شروط غير معتادة ، سامحوه بها مكيدة واستدراجا ، واجتاز أمير المسلمين المصاب بغدره إلى الأندلس ، طالبا لحقّه ، ومبادرا إلى ردّ أمره ، فسقط في يده ، ووجّه الجيش إليه بمثواه من بلد رندة ، فانصرف عنها خائبا ، ورجع أدراجه ، يشكّ في النجاة ، وتفرّغ إليه الطاغية ، ففضّ عليه جمّه ؛ وقد أجرت عليه شوكته وقيعة نصر الله فيها الدّين ، وأملى لهذا الوغد ، فلم يقله العثرة بعدها ، ونازل حصونه المهتضمة ، واستولى على كثير منها ، وحام فلم يصحر غلوة ، وأكذب ما موّه به من البسالة ، وظهر للناس بلبس الصوف ، وأظهر التّوبة على سريرة دخلة ، وفسق مبين ، وقلّ ما بيده ، ونفد بيت ماله ، فلم يجد شيئا يرجع إليه ، من بعد ما سبك الآنية والحلية ، وباع العقار لتبذيره ، وسحّه المال سحّا ، في أبواب الأراجيف
__________________
(١) كاده : أخضعه وغلبه.
(٢) هم سكان قطلونية.
والاختلاف ، والبهج بالغنا ، فشرف الإنقاب إلى الفرار ، وأزمع إلى الانسلال. وعندما تحرّك السلطان إلى غربي مالقة ، ونجع أهلها بطاعته ودخلوا في أمره ، وسقط عليه الخبر ، اشتمل على الذخيرة جمعاء ، وهي التي لم تشتمل خزائن الملوك مطلقا على مثلها ، من الأحجار واللؤلؤ والقصب ، والتفّ عليه الجمع المستميت ، جمع الضلال ومردّ الغيّ ، وخرح عن المدينة ليلة الأربعاء السابع عشر من جمادى الآخرة ، وصوّب وجهه إلى سلطان قشتالة ؛ مكظوم تجنيه ، وموتور سوء جواره ، من غير عهد ، إلّا ما أمل من التبقّي عنده من التّذميم به ، وضمان إتلاف الإسلام ، واستباحة البلاد والعباد بنكرته.
ولمّا استقرّ لديه نزله ، تقبّض عليه ، وعلى شرذمته المنيفة على ثلاثمائة فارس من البغاة ، كشيخ جنده الغربي إدريس بن عثمان بن إدريس بن عبد الله بن عبد الحق ، ومن سواه ؛ تحصّل بسببهم بيد الطّاغية ، كلّ ما تسمو إليه الآمال ، من جواد فاره ، أو منطقة ثقيلة ، وسلاح محلّى ، وجوشن رفيع ، ودرع حصينة ، وبلبلة منيعة ، وبيضة مذهّبة ، وبزّة فاخرة ، وصامت عتيد ، وذخيرة شريفة ، فتنخّل منهم متولّي التسوّر ، فجعلهم أسوة رأسهم في القتل ، خرّ بعضهم يومئذ على بعض ، في القتل ، وأخذتهم السيوف ، فحلّوا بعد الشّهرة ، والتمثيل في أزقّة المدينة ، وإشاعة النداء في الجزيرة ، ثاني رجب من العام المؤرّخ به ، وركب أسوق سائرهم الأداهم ، واستخلصهم الإسار ، وبادر بتوجيه رؤوسهم ، فنصبت من فوق العورة التي كان منها تسوّرهم القلعة ، فمكثت بها إلى أن استنزلت ووريت ؛ وانقضى أمره على هذه الوتيرة مشؤوما دبيرا ، لم يمتّعه الله بالنعيم ، ولا هنّاه سكنى المحلّ الكريم ، ولا سوّغه راحة ، ولا ملأه موهبة ، ولا أقام على فضله حجّة ، ولا أعانه على زلفة. إنما كان رئيس السرّاق وعريف الخراب ، وإمام الشّرار ، ندر يوما في نفسه ، وقد رفعت إلى امرأة من البدو تدّعي أنها سرقت دارها ، قال : إن كان ليلا بعد ما سدّ باب الحمراء عليّ وعلى ناسي ، فهي والله كاذبة ، إذ لم يبق سارق في الدنيا ، أو في البلاد ، إلّا وقد تحصل خلفه ، وقانا الله المحن ، وثبّتنا على مستقرّ الرّشد ، ولا عاقنا عن جادة الاستقامة.
وزراء دولته : استوزر الوزير المشؤوم ممدّه في الغيّ ، الوغد ، الجهول ، المرتاش من السرقة ، الحقود على عباد الله لغير علّة عن سوء العاقبة ، المخالف في الأدب سنن الشريعة ، البعيد عن الخير بالعادة والطبيعة ، دودة القزّ ، وبغل طاحونة الغدر ، وزقّ القطران ، محمد بن إبراهيم بن أبي الفتح الفهري ، فانطلقت يده على الإبشار ، ولسانه على الأعراض ، وعينه على النظر الشّزر ، وصدره على التأوّه والرّين ؛
يلقى الرجل كأنه قاتل أبيه ، محدّقا إلى كمّيه ، يحترش بهما خبيئة ، أو يظنّ بهما رشوة ، فأجاب الله دعاء المضطرين ، ورغبات السّائلين ، وعاجله بالأخذة الرّابية ، والبطشة القاضية ؛ فقبض عليه في ليلة السبت العاشر لرمضان من العام المذكور ، وعلى ابن عمّه العصر فوط وعلى الحيرا من نواهض بيتهما ، وأنفذ الأمر بتعريضهم ، فمضى حكم الله بهذه المنيّة الفرعونية فيهم ، لا تبديل لكلمات الله ، قاهر الجبابرة ، وغالب الغلاب ، وجاعل العاقبة للمتّقين.
واستوزر بعده ، أولي الناس وأنسبهم إلى دولته ، وأحقّهم بمظاهرته ، المسوس الجبّار اليأس والفطرة ، المختبل الفكرة ، القيل ، المرجّس ، الحول ، الشهير ، الضّجر ، محمد بن علي بن مسعود ؛ فيما بلي الناس على طول الحمرة ، وانفساح زمان التجربة ، أسوأ تدبيرا ، ولا أشرّ معاملة ، ولا أبذأ لسانا ، ولا أكثر شكوى ومعاتبة ، ولا أشحّ يدا ، ولا أجدب خوانا ، من ذلك المشؤوم ، بنعق البوم ، ينعق بما لا يسمع ، ويسرد الأكاذيب ، ويسيء السّمع ، فيسيء الإجابة ، ويقود الجيش فيعود بالخيبة ، إلى أن كان الفرار ، فصحبه إلى مصرعه ؛ وكان ممّن استؤثر به القيد الثقيل ، والأسر الشديد ، والعذاب الأليم ، عادة بذلك عبد «المالاخوينا» ، التي كان يحجب سمتها ، زمان ترفيهه ، فقضت عليه سيّىء الميتة ، مطّرح الجثّة. سترنا الله بستره ولا سلبنا في الحياة ولا في الممات ثوب عنايته.
كاتب سرّه : صاحبنا الفقيه الأهوج ، قصب الريح ، وشجرة الخور ، وصوت الصّدى ، أبو محمد عبد الحق بن عطية ، المستبدّ بتدبير الدّبير ، خطا فوق الرّقاع الجاهلة ، ومسارّة في الخلوات الفاسقة ، وصدعا فوق المنابر الكبيبة ، بحلّة لثّ الراية ، ويذبّ عنه ذبّ الوالدة ، ينتهي في الاعتذار عن هناته إلى الغايات القاصرة.
قضاته : شيخنا أبو البركات ، قيس ليلى القضاء ، المخدوع بزخرف الدنيا على الكبرة والعناء ، لطف الله به ، وألهمه رشده.
شيخ الغزاة على عهده : إدريس بن عثمان بن إدريس بن عبد الحق بن محيو ، بقية بيت الدّبرة ، ووشيجة الشجرة المجتثّة ، عذّب في الجملة من أهل بيته عند القبض عليهم ، واستقرّ في القبض الأشهب من قبيله بالمغرب ، مطلق الإقطاع ، مرموقا بعين التجلّة ، مكنوفا بشهرة الأب ، إلى أن سعي به إلى السلطان ، نسيج وحده ، فارس بن علي ، واستشعر البثّ فطار به الذّعر لا يلوي عنانا ، حتى سقط بإفريقيّة ، وعبر البحر
إلى ملك برجلونة (١) ، ثم اتّصل بالدولة النصرية ، بين إدالة الغدر ، وإيالة الشّرّ ، فقلّده الدائل مشيخة الغزاة ، ونوّه به ، فاستراب معزله يحيى بن عمر ، ففرّ إلى أرض الروم حسبما يذكر في اسمه ؛ فقام له بهذا الوظيف ، ظاهر الشّهرة والأبّهة ، مخصوصا منه بالتجلّة ، إلى أن كان ما كان من إزمانه وفراره ؛ فوفّى له وصحبه ركابه ، وقاسمه المنسجة شقّ الأبلة ، واستقرّ بعد قتله أسيرا عانيا علق الدهر ، لضنانة العدوّ بمثله ، إلى أن أفلت من دون الأغلاق ، وشدّ الوثاق. ولحق بالمسلمين في خبر لم يشتمل كتاب الفرج بعد الشدّة على مثله ، والإغراب منه ، يستقرّ في اسمه إلماع به ؛ ثم استقرّ بالمغرب معتقلا ، ثم مات رحمه الله.
من كان على عهده من الملوك : وأولا بمدينة فاس دار ملك المغرب ، السلطان ، الخيّر ، الكريم الأبوّة ، المودود قبل الولاية ، الليّن العريكة ، الشهير الفضل في الحياة ، آية الله في إغراب الصّنع ، وإغراب الإدبار ، أبو سالم إبراهيم بن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق ، أمير المسلمين ، المترجم به في حرف الألف. ولمّا قتل يوم الحادي والعشرين لذي قعدة من عام اثنين وستين ، قام بالأمر بعده أخوه المتحيّل أبو عامر تاشفين بن علي إلى أواخر صفر عام ثلاثة وستين ؛ ولحق بالبلد الجديد ، الأمير أبو محمد زيان بن الأمير أبي عبد الرحمن بن علي بن عثمان المترجم به في بابه ، ثم المتولّي من عام ثمانية وستين وسبعمائة السلطان أبو فارس عمّه المؤمّل للمّ الشّعث ، وضمّ النّشر ، وتجديد الأمر بحول الله ، ابن السلطان الكبير المقدّس ، أبي الحسن بن سعيد بن يعقوب بن عبد الحق ، وهو بعد متّصل الحال إلى اليوم.
وبتلمسان الأمير أبو حمّو ، موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن بن زيان.
وبإفريقية الأمير الخليفة على عرفهم ، إبراهيم بن أمير المؤمنين أبي يحيى بن حفص.
وبقشتالة ، بطره بن الهنشه بن هرانده بن شانجه المصنوع له ، وليّ النعمة منه ، ومستوجب الشكر من المسلمين لأجله ، بإراحته منهم.
وبرغون ، بطره بن شانجه.
__________________
(١) برجلونة : هي برشلونة.
وبرندة ، مزاحمه بالملك الفخم ، أمير المسلمين حقيقة ، المرتّب الحقّ ، المعقود البيعة ، وصاحب الكرّة ، ووليّ حسن العاقبة ، مجتثّ شجرته الخبيثة ، وصارخ إيالته الدّنيّة ، أبو عبد الله محمد بن أمير المسلمين أبي الحجاج بن أمير المسلمين أبي الوليد بن نصر.
مولده : مولد هذه النّسمة المشؤومة أول يوم من رجب عام اثنين وثلاثين وسبعمائة.
وفاته : توفي قتيلا ممثّلا به بطيلاطة من ظاهر إشبيلية ، في ثاني يوم من رجب عام ثلاثة وستين وسبعمائة ، وسيقت رؤوس أشياعه ، الغادرين مع رأسه إلى الحضرة فصلبت بها. وفي ذلك قلت : [السريع]
في غير حفظ الله من هامة |
|
هام بها الشّيطان في كل واد |
لا خلّفت ذكرا ولا رحمة |
|
في فم إنسان ولا في فؤاد |
محمد بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف
ابن محمد بن أحمد بن خميس بن نصر الخزرجي (١)
أمير المسلمين بالأندلس بعد أبيه ، رحمه الله.
أوّليّته : معروفة.
حاله : كان معدودا في نبلاء الملوك (٢) ، صيانة ، وعزّا وشهامة ، وجمالا ، وخصلا ؛ عذب الشمائل ، حلوا لبقا ، لوذعيّا ، هشّا ، سخيّا ؛ المثل المضروب به في الشجاعة المقتحمة حدّ التهوّر حلس ظهور الخيل ، وأفرس (٣) من جال على ظهورها (٤) ، لا تقع العين ، وإن غصّت الميادين ، على أدرب بركض الجياد منه ، مغرما بالصّيد ، عارفا بسمات السّقار (٥) وشتات الخيل ؛ يحبّ الأدب ، ويرتاح إلى الشعر ، وينبّه على العيون ، ويلمّ بالنادرة الحارّة. أخذت له البيعة يوم مهلك أبيه ، وهو (٦) يوم الثلاثاء السابع والعشرين لرجب
__________________
(١) هذه الترجمة وردت كاملة في اللمحة البدرية (ص ٩٠ ـ ١٠٢) وجاء فيه الاسم هكذا : «محمد بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر بن قيس الخزرجي ، أمير المسلمين بالأندلس بعد أبيه ، يكنى أبا عبد الله».
(٢) في اللمحة البدرية (ص ٩٠): «الملوك وأبناء الملوك صرامة وعزّة وشهامة ...».
(٣) في اللمحة البدرية : «أفرس».
(٤) في اللمحة البدرية : «على صهوة».
(٥) في اللمحة البدرية : «الشّفار وشيات الخيل».
(٦) كلمة «وهو» ساقطة في اللمحة.
من (١) عام خمسة وعشرين وسبعمائة ، وناله الحجب ، واشتملت عليه الكفالة إلى أن شبّ (٢) وظهر ، وفتك بوزيره المتغلّب على ملكه ، وهو غلام لم يبقل خدّه ، فهيب شأنه ، ورهبت سطوته ، وبرز لمباشرة الميادين ، وارتياد المطارد ، واجتلاء الوجوه ، فكان ملء العيون والصدور.
ذكاؤه : حدّثني (٣) القائد أبو القاسم ابن الوزير عبد الله بن عيسى وزير جدّه ، قال : تذوكر يوما بحضرته تباين قول (٤) المتنبي (٥) : [المتقارب]
ألا (٦) خدّد الله ورد الخدود |
|
وقدّ قدود الحسان القدود |
وقول امرئ القيس (٧) : [الطويل]
وإن كنت قد ساءتك منّي خليقة |
|
فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل (٨) |
وقول إبراهيم بن سهل (٩) : [البسيط]
إنّي له من دمي المسفوك معتذر (١٠) |
|
أقول حمّلته في (١١) سفكه تعبا |
فقال ، رحمه الله ، بديهة (١٢) : بينهما ما بين نفس ملك عربي وشاعر (١٣) ، ونفس يهودي تحت الذّمّة ، وإنما تتنفّس بقدر همّتها (١٤) ، أو كلاما هذا معناه. ولما (١٥) نازل مدينة قبرة ودخل جفنها عنوة (١٦) ، ونال قصبتها ، ورماها بالنّفط ، وتغلّب عليها ، وهي ما هي عند المسلمين ، وعند النصارى (١٧) ، من الشّهرة والجلالة ، بادرناه (١٨) نهنّئه بما
__________________
(١) كلمة «من» ساقطة في اللمحة.
(٢) في اللمحة البدرية (ص ٩١): «شدا وظهر ، وشبّ عن الطوق. وفتك ...».
(٣) في اللمحة : «حدّثني ابن وزير جدّه القائم أبو القاسم بن محمد بن عيسى قال ...».
(٤) في اللمحة : «تباين معنى قول ...».
(٥) ديوان المتنبي (ص ٤٧).
(٦) في الديوان واللمحة : «أيا».
(٧) ديوان امرئ القيس (ص ١٣) واللمحة البدرية (ص ٩١).
(٨) يقول : إذا لم تعجبك خليقتي فأخرجي أمري من أمرك. ويقال : نسل الريش : سقط.
(٩) ديوان ابن سهل الإسرائيلي (ص ١٥) واللمحة البدرية (ص ٩١).
(١٠) في الأصل : «معتذرا» والتصويب من الديوان واللمحة البدرية.
(١١) في الديوان واللمحة : «من».
(١٢) في اللمحة : «بديها» ـ على حداثته ـ : بينهم.
(١٣) في اللمحة : «وشاعر عربي».
(١٤) في اللمحة : «هممها ، أو ما معناه هذا».
(١٥) في اللمحة : «لمّا».
(١٦) في اللمحة : «ودخلها عنوة ، وهي ما هي ...».
(١٧) في اللمحة : «والنصارى».
(١٨) في اللمحة : «بادرنا».
نسّق (١) له ، فزوى (٢) وجهه عنّا ، وقال : ما ذا تهنّونني به ، كأنكم رأيتم تلك الخرقة بكذا (٣) ـ يعني العلم الكبير ـ في منار إشبيلية (٤) ، فعجبنا من بعد همّته ، ومرمى عزمه (٥).
شجاعته : أقسم أن يغير على باب مدينة بيّانة في عدّة قليلة عيّنها الميمن (٦) ، فوقع البهت وتوقّعت الفاقرة ، لقرب الصّريخ ، ومنعة الحوزة ، وكثرة الحامية ، واتصال تخوم البلاد ، ووفور الفرسان بذلك الصّقع ؛ وتنخّل أهل الحفاظ ، وهجم (٧) على باب الكفّار نهارا ، وانتهى إلى باب المدينة ، وقد برزت الحامية ، وتوقع فرسان الرّوم الكمناء ، فأقصروا عن الإحصار ، وحمي المسلمون فشدّ عليهم ، فأعطوهم الضّمّة ودخلوا أمامهم المدينة ؛ ورمى السلطان أحد الرجال النّاشبة بمزراق كان بيده محلّى السّنان رفيع القيمة ، وتحامل (٨) يريد الباب فمنع الإجهاز (٩) عليه ، وانتزاع الرّمح الذي كان يجرّه خلفه ، وقال : اتركوه يعالج به رمحه (١٠) إن كان أخطأته المنيّة ، وقد أفلت من أنشوطة خطر عظيم.
جهاده ومناقبه : كان له وقائع في الكفّار ، على قلّة أيامه ، وتحرّك ونال البلاد ، وفتح قبرة ، ومقدّم جيش العدو الذي بيّت بظاهرها وأثخن فيه ، وفتح الله على يده مدينة باغوة ، وتغلب المسلمون على حصن قشتالة ، ونازل حصن قشرة (١١) بنفسه لدى قرطبة ، فكاد أن يتغلّب عليه ، لو لا مدد اتّصل للنصارى به. وأعظم مناقبه تخليص جبل الفتح ، وقد أخذ الطاغية بكظمه ، ونازله على قرب العهد من تملّك المسلمين إياه ، وناخ (١٢) بكلكله ، وهدّ بالمجانيق أسواره ، فدارى الطّاغية ، واستنزل
__________________
(١) في اللمحة : «تسنّى».
(٢) في اللمحة : «فزوى عنّا وجهه قائلا : وما ذا ...».
(٣) في اللمحة : «الكذا».
(٤) المراد منار جامع إشبيلية الذي بناه المنصور يعقوب بن يوسف الموحدي سنة ٥٩٣ ه ، ويعرف باسم «لا جيرالدا» la giralda. البيان المغرب ـ قسم الموحدين (ص ٢٢٧ ـ ٢٢٨).
(٥) في اللمحة : «أمله».
(٦) في اللمحة البدرية (ص ٩٢): «في عدة يسيرة من الفرسان عيّنتها اليمين».
(٧) في اللمحة البدرية : «وهجم عليها فانتهى إلى بابها وحمل على أضعافه ...».
(٨) في اللمحة البدرية : «وتحامل الطعين يريد ...».
(٩) في اللمحة البدرية «من الأجهاز».
(١٠) في اللمحة البدرية : «جرحه إن أخطأته ...».
(١١) في اللمحة البدرية : «قشرة لأول أمره وهدّ سوره ، وكاد يتغلب عليه لو لا مدد دخله ، فارتحل وقد دوّخ الصقع».
(١٢) في اللمحة البدرية (ص ٩٣): «وأناخ عليه بكلكله».
عزمه وتحفه (١) ، ولحق في موضع اختلاله ، إلى أن صرفه عنه ، وعقد له صلحا ، ففازت به قداح الإسلام ، وتخلّصه من بين ناب العدو وظفره ؛ فكان الفتح عظيما لا كفاء له.
بعض الأحداث في دولته : وفي شهر المحرم (٢) من عام سبعة وعشرين وسبعمائة ، نشأت بين المتغلّب (٣) على دولته ، وزيره ، وبين شيخ الغزاة وأمير القبائل العدوية ، عثمان بن أبي العلاء ، الوحشة وألحقت ريحها السعايات ، فصبّت على المسلمين شؤبوب فتنة عظم فيهم أثرها (٤) معاطبا ، وسئم الانصراف عن الأندلس ، فلحق (٥) بساحل ألمريّة ، وأحوزته المذاهب وتحامت جواره الملوك ، فداخل (٦) أهل حصن أندرش ، فدخل في طاعته ، ثم استضاف (٧) إليه ما يجاوره ، فأعضل الدّاء ، وتفاقمت اللأواء ، وغامت سماء الفتنة (٨) ، واستنفد خزائن الأموال المستعدة لدفاع العدو ، واستلحق الشيخ أبو سعيد عمّ السلطان ، وقد استقرّ بتلمسان ، فلحق به ، وقام بدعوته في أخريات صفر عام (٩) سبعة وعشرين وسبعمائة ؛ واغتنم الطاغية فتنة المسلمين فنزل ثغر بيرة (١٠) ، ركاب الجهاد ، وشجى العدو ، فتغلّب عليه ، واستولى على جملة من الحصون التي تجاوره ، فاتّسع نطاق الخوف (١١) ، وأعيا داء الشّر ، وصرف إلى نظر (١٢) ملك المغرب ، في أخريات العام ، رندة ومربلّة وما يليهما (١٣) ، وتردّدت الرسائل بين السلطان وبين شيخ الغزاة ، فأجلت (١٤) الحال عن مهادنة ، ومعاودة للطاعة ، فصرف أميرهم أدراجه إلى العدوة ، وانتقلوا إلى سكنى وادي آش على رسم الخدمة والحماية على شروط مقرّرة ؛ وأوقع السلطان بوزيره ، وأعاد الشيخ إلى محلّه من حضرته ؛ أوائل عام ثمانية وعشرين بعده ، واستقدم القائد الحاجب أبا النعيم رضوان من أعاصم حباليه
__________________
(١) في اللمحة البدرية : «وتاحفه إلى أن صرفه عنه ففازت به قداح الإسلام».
(٢) في اللمحة البدرية : «محرّم».
(٣) في اللمحة البدرية : «بين وزيره المتغلّب على أمره محمد بن أحمد المحروق وبين شيخ الغزاة عثمان بن أبي العلى فصبّت ...».
(٤) في اللمحة البدرية : «أثرها فخرج مغاضبا وهمّ للانصراف ...».
(٥) في اللمحة البدرية : «ولحق».
(٦) في اللمحة البدرية : «ثم داخل».
(٧) في اللمحة البدرية : «واستضاف».
(٨) في اللمحة البدرية : «المحنة. واستلحق المذكور عمّ السلطان ...».
(٩) في اللمحة البدرية : «من عام».
(١٠) في اللمحة البدرية : «ونازل ثغر وبرة».
(١١) في اللمحة البدرية : «الضرّ».
(١٢) في اللمحة البدرية : «نظر السلطان ملك».
(١٣) في اللمحة البدرية : «إليهما».
(١٤) في اللمحة البدرية : «وأجلت الحال إلى مهادنة عثمان بن أبي العلى ، وصرف ...».
قتيله ، فقام بأمره أحسن قيام. وعبر البحر بنفسه بعد استقرار ملكه في الرابع والعشرين من شهر ذي حجة من (١) عام اثنين وثلاثين وسبعمائة ، فاجتمع مع ملك المغرب السلطان الكبير أبي الحسن بن عثمان ، فأكرم نزله ، وأصحبه إلى الأندلس ، وحباه بما لم يحب به ملك تقدّمه ، من مغربيّات (٢) الخيل ، وخطير الذخيرة ، ومستجاد العدّة ؛ ونزل (٣) الجيش على أثره جبل الفتح ؛ وتوجّه الحاجب أبو النعيم بأكبر إخوة السلطان ، مظاهرا على سبيل النّيابة ، وهيّأ الله فتحه. ثم استنقاذه بلحاق السلطان ، ومحاولة أمره كما تقدّم ، فتمّ ذلك يوم (٤) الثلاثاء الثاني عشر لذي (٥) حجة من عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة.
وزراء دولته : وزر له وزير أبيه (٦) ، وأخذ له البيعة ، وهو مثخن (٧) بالجراحات التي أصابته يوم الفتك بأبيه السلطان أبي الوليد ، ولم ينشب أن أجهز (٨) جرح تجاوز عظم الدماغ ، بعد مصابرة ألم العلاج الشديد ، حسبما يأتي في اسمه ، وهو أبو الحسن علي بن مسعود بن يحيى بن مسعود المحاربي. وترقى إلى الوزارة والحجابة وكيل أبيه محمد بن أحمد (٩) المحروق ، من أهل غرناطة ، يوم الاثنين غرّة شهر رمضان من (١٠) عام خمسة وعشرين وسبعمائة ، ويأتي التعريف بهم. ثم اغتيل (١١) بأمره ، عشيّ ثاني يوم من محرم فاتح تسعة وعشرين وسبعمائة. ثم وزر له القائد (١٢) أبو عبد الله بن القائد أبي بكر عتيق بن يحيى بن المول من وجوه الدولة ، وصدور من يمتّ بوصله ، إلى السابع عشر من رجب من العام ؛ ثم صرف إلى العدوة. وأقام رسم الوزارة والحجابة والنيابة (١٣) أبو النعيم مولى أبيه ، إلى آخر مدته ، بعد أن التأث أمره
__________________
(١) كلمة «من» ساقطة في اللمحة البدرية (ص ٩٤).
(٢) في اللمحة البدرية : «مقربات».
(٣) في اللمحة البدرية : «ونازل على أثره ...».
(٤) في اللمحة البدرية : «في يوم».
(٥) في اللمحة البدرية : «من شهر ذي حجة عام ...».
(٦) في اللمحة البدرية : «أبيه أبو الحسن بن مسعود ، وأخذ ...».
(٧) في اللمحة البدرية : «مثخن بما أصابه من الجراحات يوم ...».
(٨) في اللمحة البدرية : «أن أجهزت عليه عدواها ...».
(٩) في اللمحة البدرية : «أحمد بن محمد بن المحروق».
(١٠) كلمة «من» ساقطة في اللمحة.
(١١) في اللمحة البدرية : «ثم قتل ثاني يوم ...».
(١٢) في اللمحة البدرية : «القائد محمد بن أبي بكر بن يحيى بن مول ، المعروف بالقيجاطي ، من وجوه الدولة إلى سابع عشر من شهر رجب ...».
(١٣) في اللمحة البدرية : «والنيابة مولى أبيه القائد أبو النعيم رضوان الشهير الديانة والسعادة إلى آخر مدته ...».
لديه ، وزاحمه بأحد المماليك المسمى (١) بعصام حسبما يأتي ذكره في موضعه إن شاء الله.
رئيس كتّابه : كتب له (٢) كاتب أبيه قبله ، وأخيه بعده ، شيخنا نسيج وحده ، أبو الحسن علي بن الجيّاب الآتي ذكره في موضعه إن شاء الله.
قضاته : استمرّت الأحكام لقاضي أبيه ، أخي (٣) وزيره ، الشيخ الفقيه أبي بكر (٤) بن مسعود ، رحمه الله ، إلى عام سبعة وعشرين وسبعمائة ، ووجّهه (٥) رسولا عنه إلى ملك المغرب ، فأدركته (٦) وفاته بمدينة سلا ، فدفن بمقبرة سلا (٧). رأيت قبره بها ، رحمه الله. وتخلّف ابنه (٨) أبا يحيى مسعود (٩) عام أحد وثلاثين وسبعمائة ؛ وتولّى الأحكام الشرعية القاضي أبو عبد الله محمد بن يحيى بن بكر الأشعري (١٠) ، خاتمة الفقهاء ، وصدر العلماء ، رحمه الله ، فاستمرّت له الأحكام إلى تمام مدة أخيه بعده.
أمه : روميّة اسمها «علوة» وكانت أحظى لدّاتها عند أبيه ، وأمّ بكره ، إلى أن نزع عنها في أخريات أمره ، لأمر جرّته الدّالّة ، وتأخّرت وفاتها عنه إلى مدة أخيه.
من كان على عهده من الملوك بأقطار المسلمين والنصارى :
فبفاس (١١) ، السلطان الكبير ، الشهير ، الجواد ، خدن العافية ، وحلف السعادة ، وبحر الجود ، وهضبة الحلم ، أبو سعيد عثمان بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق ، الذي بذل المعروف ، وقرّب الصلحاء والعلماء ، وأدنى مكانهم ، وأعمل إشارتهم ، وأوسع بأعطيته المؤمنين المسترفدين ، وعظم قدره ، واشتهر في الأقطار صيته ، وفشا
__________________
(١) في اللمحة البدرية : «يسمى عصاما أياما يسيرة بين يدي وفاته».
(٢) في اللمحة (ص ٩٥): «عنه كاتب أبيه وأخيه شيخنا الإمام العلّامة الصالح أبو الحسن بن الجياب رحمه الله إلى آخر مدته».
(٣) في اللمحة البدرية : «وأخي».
(٤) في اللمحة البدرية : «أبي بكر يحيى بن مسعود المحاربي ، رحمه الله ...».
(٥) في اللمحة البدرية : «فتوجّه رسولا إلى ...».
(٦) في اللمحة البدرية : «وأدركته الوفاة ...».
(٧) في اللمحة البدرية : «شالّة».
(٨) في اللمحة البدرية : «ولده».
(٩) في اللمحة البدرية : «مسعودا نائبا عنه ، فاستمرّت له الأحكام ...».
(١٠) في اللمحة البدرية : «الأشعري المالقي».
(١١) في اللمحة البدرية ص (٩٥): «وأولا بالمغرب السلطان الشهير الكبير الجواد وليّ العافية وحليف السعادة أبو سعيد ...».
معروفه ، وعرفت بالكفّ عن الدماء والحرمات عفّته ، إلى أن توفي يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة (١) عام أحد وثلاثين وسبعمائة. ثم صار الأمر إلى ولده السلطان ، مقتفي (٢) سننه في الفضل والمجد ، وضخامة السلطان ، مبرّا عليه بالبأس المرهوب ، والعزم الغالب ، والجدّ الذي لا يشوبه هزل ، والاجتهاد الذي لا تتخلّله (٣) راحة ، الذي بعد مداه ، وأذعن لصولته عداه ، واتصلت ولايته مدته ، ومعظم مدة أخيه الوالي بعده.
وبتلمسان الأمير عبد الرحمن بن موسى (٤) بن يغمراسن ، من بني عبد الواد ، مشيّد القصور ، ومروّض الغروس ، ومتبنّك التّرف ، واتّصل (٥) إلى تمام مدته ، وصدرا من مدة أخيه بعده.
وبتونس الأمير أبو يحيى ، أبو بكر بن الأمير أبي زكريا بن الأمير أبي إسحاق لبنة تمام قومه ، وصقر الجوارح (٦) من عشّه ، وسابق الجياد من حلبته ، إلى تمام المدة ، وصدرا كبيرا من دولة أخيه بعده.
ومن ملوك النصارى (٧) ، ملك على عهده الجفرتين القنيطية والتاكرونية ، الطاغية المرهوب الشّبا ، المسلط على دين الهدى ، ألهنشة بن هراندة بن شانجه بن ألفنش بن هراندة ، الذي احتوى على كثير من بلاد المسلمين حتى الجفرتين. واتصلت أيامه إلى أخريات أيام أخيه ، وأوقع بالمسلمين على عهده ، وتملّك الجزيرة الخضراء وغيرها.
وبرغون ، ألفنش بن جايمش بن ألفنش بن بطره (٨) بن جايمش الذي استولى على بلنسية ، ودام إلى آخر مدته ، وصدرا من مدة أخيه. وقد استقصينا من العيون أقصى ما سحّ به الاستقصاء ، وما أغفلناه أكثر ، ولله الإحاطة.
مولده : في الثامن من شهر المحرم من عام خمسة عشر وسبعمائة.
__________________
(١) في اللمحة البدرية : «قعدة».
(٢) في اللمحة البدرية : «المقتفي سننه في المجد والفضل ...».
(٣) في الأصل : «يتخلّله».
(٤) في الأصل (ص ٩٦): «موسى أبو تاشفين ، مشيّد ...».
(٥) كلمة «واتصل» غير واردة في اللمحة البدرية.
(٦) في اللمحة البدرية : «وصقر جوارح متأخريهم إلى تمام مدته وصدرا كبيرا من دولة أخيه».
(٧) في اللمحة البدرية : «النصارى ، وأولا بقشتالة : ألفونش بن هراندة بن شانجه بن ألفونش بن هراندة الذي ملك على عهده الجفرتين ...».
(٨) في اللمحة البدرية : «بيطره بن ألفونش بن بيطره بن جايمش المستولي على بلنسية إلى آخر ...».
وفاته : وإلى هذا العهد مات ؛ وغرت عليه من رؤوس الجند ، من قبائل العدوة ، الصّدور ، وشحنت عليه القلوب غيظا ؛ وكان شرها لسانه ، غير جزوع ولا هيّاب (١) ، فربما يتكلّم بملء فيه من الوعيد الذي لا يخفى على المعتمد به. وفي ثاني يوم من إقلاع الطاغية من الجبل (٢) ، وهو يوم الأربعاء الثاني (٣) عشر من ذي حجة ، وقد عزم على ركوب البحر من ساحل مربلة (٤) ، فهو مع وادي ياروا من ظاهر جبل الفتح ، تخفيفا للمؤونة ، واستعجالا للصّدور ، وقد أخذت على حركته المراصد ؛ فلمّا توسّط كمين القوم ، ثاروا إليه وهو راكب بغلا أثابه به ملك الروم ، فشرعوا في عتبه بكلام غليظ ، وتأنيب قبيح ، وبدأوا بوكيله فقتلوه ، وعجّل بعضهم بطعنه ، وترامى عليه مملوك من مماليك أبيه ، زنمة (٥) من أخابيث العلوج يسمّى زيانا ، صونع على مباشرة الإجهاز عليه ، فقضى لحينه بسفح (٦) الربوة الماثلة ، يسرة العابر للوادي ممّن يقصد جبل الفتح (٧) ، وتركوه بالعراء (٨) بادي البوار ، مسلوب البزّة ، سييء المصرع ، قد عدت عليه نعمه ، وأوبقه سلاحه ، وأسلمه أنصاره وحماته.
ولمّا فرغ القوم من مبايعة أخيه السلطان (٩) أبي الحجاج ، صرفت الوجوه يومئذ (١٠) إلى دار الملك ، ونقل القتيل إلى مالقة ، فدفن على حاله تلك برياض تجاور منية السّيد ، فكانت وفاته ضحوة يوم الأربعاء الثالث عشر لذي (١١) حجة من عام ثلاثة (١٢) وثلاثين وسبعمائة. وأقيمت على قبره (١٣) بعد حين قبّة ، ونوّه بقبره. وهو اليوم (١٤) ماثل رهن غربة ، وجالب عبرة ، جعلنا الله للقائه على حذر وأهبة ، وبلوح الرخام الماثل عند رأسه مكتوب :
__________________
(١) في اللمحة البدرية : «هيابة».
(٢) في اللمحة البدرية : «عن جبل الفتح».
(٣) في اللمحة البدرية : «ثالث عشر من شهر ذي الحجة ...».
(٤) في اللمحة البدرية (ص ٩٧): «ساحل منزله بموقع وادي السقايين ، تماروا من ظاهر الجبل ...».
(٥) في اللمحة البدرية : «زنمة من أخابث المعلوجا اسمه زيان ، صونع ...». والزنمة : الوغد.
(٦) في اللمحة البدرية : «في سفح».
(٧) في اللمحة البدرية : «الجبل».
(٨) في اللمحة البدرية : «بالعراء مسلوب الساتر ، سييء ...».
(٩) في اللمحة البدرية : «السلطان يوسف صرفت ...».
(١٠) كلمة : «يومئذ» ساقطة في اللمحة.
(١١) كلمة : «من ذي حجة عام ...» ساقطة في اللمحة.
(١٢) في الأصل : «ثلاث» وهو خطأ نحوي.
(١٣) في الأصل : «وأقيمت عليه بعيد زمان قبة ...».
(١٤) في الأصل : «الآن ماثل بها رهن وحدة ، ومستدعى عبرة ، وعليه مكتوب».
هذا قبر السلطان الأجلّ ، الملك الهمام ، الأمضى الباسل ، الجواد ذي المجد الأثيل ، والملك الأصيل ، المقدّس ، المرحوم ، أبي عبد الله محمد بن السلطان الجليل ؛ الكبير ، الرفيع ، الأوحد ، المجاهد ، الهمام ، صاحب الفتوح المسطورة (١) ، والمغازي المشهورة ، سلالة أنصار النبي ، صلى الله عليه وسلّم ، أمير المؤمنين (٢) ، وناصر الدين ، الشهيد ، المقدّس ، المرحوم أبي الوليد بن فرج بن نصر ، قدّس الله روحه وبرّد ضريحه. كان مولده في الثاني (٣) لمحرم عام خمسة عشر وسبعمائة ، وبويع في اليوم الذي استشهد فيه والده رضي الله عنه السادس والعشرين لرجب عام خمسة وعشرين وسبعمائة ، وتوفي رحمه الله في الثالث عشر لذي حجة من عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة ، فسبحان من لا يموت : [الكامل]
يا قبر سلطان الشجاعة والنّدى |
|
فرع الملوك الصيد أعلام الهدى |
وسلالة السّلف الذي آثاره |
|
وضّاحة لمن اقتدى ومن اهتدى |
سلف لأنصار النبيّ نجاره |
|
قد حلّ منه في المكارم محتدا |
متوسّط البيت قد أسّست |
|
ه سادة الأملاك أوحد أوحدا |
بيت بناه (٤) محمّدون ثلاثة |
|
من آل نصر أورثوه محمّدا |
أودعت وجها قد تهلّل حسنه |
|
بدرا بآفاق الجلالة قد بدا |
وندّا يسحّ على العفاة مواهبا |
|
مثنى الأيادي السابغات وموحدا |
يبكيك مذعور بك استعدى على |
|
أعدائه فسقيتهم كأس الردى |
يبكيك محتاج أتاك مؤمّلا |
|
فغدا وقد شفعت يداك له اليدا |
أمّا سماحك فهو أسنى (٥) ديّة |
|
أما جلالك فهو أسمى مصعدا |
جادت ثراك من الإله سحابة (٦) |
|
لرضاه عنك تجود هذا المعهدا |
[وشرّ ما تبع هذا السلطان تواطؤ قتلته من بني أبي العلاء وأصهارهم وسواهم من شيوخ خدّامه ، كالوكيل في مدة أخيه بعد ، الشيخ الذهول مسافر بن حركات وسواه ، على اكتتاب عقد بعد وفاته ، بأمور من القول تقدح في أصل الديانة ، وأغراض تقتضي إلى الوهن في الدّين ، وهنات تسوّغ إراقة دمه الذي
__________________
(١) في الأصل : «المستورة».
(٢) في الأصل : «المسلمين».
(٣) في الأصل : «الثامن».
(٤) في اللمحة البدرية (ص ٩٨): «بنوه».
(٥) في اللمحة البدرية : «أهمى ديمة».
(٦) في اللمحة البدرية : «سحائب».
توفّرت الدواعي على حياطته ، والذّبّ عنه ، تولّى كبرها شيخنا أبو الحسن بن الجيّاب ، مرتكبا منها وصمة محت على غرر فضله إلى كثير من خدّامه ومماليكه ، وبعثوا بها إلى ملك المغرب ، فاقتطعت جانب التمهيل والتأخير واللبث عن الحكم ، والتعليل عن السّماع ، وبروز الأغراض ، واتّباع السيئة أمثالها. وقد كان ، رحمه الله ، من الجهاد وإقامة رسم الدين ، بحيث تزلّ عن هذه الهنات صفاته ، وتنكر هذه المذمّات صفاته ، وكان بمكان من العزّ ، وإرسال السّجية ، ربما عذله الشيخ في بعض الأمر ، فيسجم إضجارا وتمليحا بإخراجه ؛ ولم يمرّ إلّا الزمان اليسير ؛ وأوقع الله بالعصبة المتمالئة عليه من أولاد عبد الله ، فسفتهم رياح النّكبات ، واستأصلت نعمهم أيدي النّقمات ، ولم تقم لهم من بعد ذلك قائمة ، والله غالب على أمره](١).
وتبعت هذا السلطان نفوس أهل (٢) الحرية ، ممّن له طبع رقيق ، وحسّ لطيف ؛ ووفاء كريم ، ممّن كان بينه وبين سطوته دفاع ؛ وفي جوّ اعتقاده له صفاء ؛ فصدرت (٣) مراث مؤثرة ، وأقاويل للشجون مهيجة ، نثبت منها يسيرا على العادة. فمن ذلك ما نظمه الشيخ الكاتب (٤) القاضي أبو بكر بن شبرين ؛ وكان على (٥) فصاحة ظرفه ، وجمال روايته ، غراب قربه ، ونائحة مأتمه ، يرثيه ويعرّض ببعض من حمل عليه من (٦) ناسه وخدّامه : [مجزوء الرمل]
استقلّا ودعاني |
|
طائفا بين المغاني |
وانعما بالصبر إني |
|
لا أرى ما تريان |
ومن قوله (٧) : [الخفيف]
عين بكي لميّت غادروه |
|
في ثراه ملقى وقد غدروه |
دفنوه ولم يصلّ عليه |
|
أحد منهم ولا غسّلوه |
إنما مات يوم (٨) مات شهيدا |
|
فأقاموا رسما ولم يقصدوه |
__________________
(١) ما بين قوسين ساقط في اللمحة البدرية.
(٢) في اللمحة البدرية : «أولي».
(٣) في اللمحة البدرية : «فصدر فيه من التأبين أقاويل ...».
(٤) كلمة «الكاتب» ساقطة في اللمحة.
(٥) في اللمحة البدرية : «على ظرفه وحسن روائه غراب ندبة ونائحة حاتم يرثيه ...».
(٦) في اللمحة البدرية : «عليه من خدّامه».
(٧) الأبيات في اللمحة البدرية (ص ١٠٢).
(٨) في اللمحة البدرية : «حين».
محمد بن محمد بن محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد
ابن محمد بن نصر بن قيس الخزرجي (١)
ثالث الملوك من بني نصر ، يكنى أبا عبد الله.
أوّليّته : معروفة.
حاله : كان من أعاظم أهل بيته ، صيتا وهمّة ، أصيل المجد ، مليح الصورة ، عريق الإمارة ، ميمون النّقيبة ، سعيد النّصبة ، عظيم الإدراك ؛ تهنّأ العيش مدة أبيه ، وتملّى (٢) السياسة في حياته ، وباشر الأمور بين يديه ، فجاء نسيج وحده إدراكا ، ونبلا ، وفخارا ، وشأوا (٣). ثم تولّى الأمر بعد أبيه فأجراه على ديدنه ؛ وتقيّل (٤) سيرته ، ونسج على منواله. وقد كان الدهر ضايقه في حصّته ، ونغّصه ملاذّ الملك بزمانة (٥) سدكت (٦) بعينيه لمداخلة (٧) السّهر ، ومباشرة أنوار ضخام الشمع ، إذ كانت تتّخذ له منها جذوع في أجسادها مواقيت تخبر بانقضاء ساعات الليل ، ومضيّ الرّبع (٨) ، وعلى التزامه لكنّه وغيبوبته في كسر بيته ، فقد خدمته السّعود ، وأمّلت بابه الفتوح ، وسالمته الملوك ، وكانت أيامه أعيادا. وكان يقرض الشعر ويصغي إليه ويثيب عليه ، فيجيز الشعراء ، ويرضخ (٩) للندماء ، ويعرف مقادير (١٠) العلماء ، ويواكل الأشراف والرؤساء ، ضاربا في كل إصلاح (١١) بسهم ، مالئا (١٢) من كل تجربة وحنكة ، حارّ النّادرة ، حسن التوقيع ، مليح الخطّ ، تغلب (١٣) عليه الفظاظة والقسوة.
__________________
(١) هذه الترجمة وردت كاملة في اللمحة البدرية (٦٠ ـ ٦٩).
(٢) في اللمحة البدرية (ص ٦٠): «وتملأ السياسة حياته».
(٣) في اللمحة البدرية : «وفخامة وبأوا».
(٤) في الأصل : «وتقبل» والتصويب من اللمحة البدرية.
(٥) الزمانة : العاهة الدائمة. لسان العرب (زمن).
(٦) سدكت بعينيه : لزمتهما. لسان العرب (سدك).
(٧) في اللمحة البدرية (ص ٦١): «لمواصلة».
(٨) في اللمحة البدرية : «الهزيع».
(٩) يرضخ للندماء : يبذل لهم العطايا ؛ يقال : رضخ له من ماله يرضخ رضخا إذا أعطاه. لسان العرب (رضخ).
(١٠) في الأصل «مقادر» والتصويب من اللمحة البدرية.
(١١) في اللمحة البدرية : «اصطلاح».
(١٢) في اللمحة البدرية : «مليّا».
(١٣) في اللمحة البدرية : «يغلب».
شعره : كان (١) له شعر مستظرف من مثله ، لا بل يفضل به الكثير ممّن ينتحل الشعر من الملوك. ووقعت (٢) على مجموع له ، ألّفه بعض خدّامه ، فنقلت (٣) من مطوّلاته : [السريع]
واعدني وعدا وقد أخلفا |
|
أقلّ شيء في المليح (٤) الوفا |
وحال عن عهدي ولم يرعه |
|
ما ضرّه لو أنّه (٥) أنصفا |
ما بالها لم تتعطّف على |
|
صبّ (٦) لها ما زال مستعطفا |
يستطلع الأنباء من نحوها |
|
ويرقب البرق إذا ما هفا |
خفيت سقما عن عيون الورى |
|
وبان حبّي بعد ما قد خفا |
لله كم من ليلة بتّها |
|
أدير من ذاك اللّمى قرقفا (٧) |
متّعتني بالوصل منها وما |
|
أخلفت وعدا (٨) خلت أن يخلفا |
ومنها :
ملّكتك القلب وإني امرؤ |
|
عليّ ملك الأرض قد وقّفا |
أوامري في الناس مسموعة |
|
وليس منّي في الورى أشرفا |
يرهف سيفي في الوغى مصلتا (٩) |
|
ويتّقى عزمي إذا ما أرهفا |
وترتجى يمناي يوم النّدى |
|
تخالها السّحب غدت وكفا |
نحن ملوك الأرض من مثلنا |
|
حزنا تليد الفخر والمطرفا |
نخاف إقداما ونرجى ندى |
|
لله ما أرجى وما أخوفا |
لي راية في الحرب كم غادرت |
|
ربع العدا قاعا بها صفصفا |
يا ليت شعري والمنى جمّة |
|
والدّهر يوما هل يرى منصفا |
هل يرتجي العبد (١٠) تدانيكم |
|
أو يصبح الدهر له مسعفا |
__________________
(١) في اللمحة البدرية : «كان شعره مستطرفا من مثله ...».
(٢) في اللمحة البدرية (ص ٦٢): «وقفت».
(٣) في اللمحة البدرية : «فمن بعض المطوّلات».
(٤) في اللمحة البدرية : «الملاح».
(٥) في الأصل واللمحة : «أنه» وهكذا ينكسر الوزن.
(٦) في الأصل : «صاحب» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من اللمحة البدرية. والصّبّ : العاشق المشتاق. لسان العرب (صبب).
(٧) القرقف : الخمر.
(٨) في اللمحة : «عهدا خفت أن ...».
(٩) في الأصل : «متسلّطا» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من اللمحة البدرية.
(١٠) في اللمحة البدرية : «اليوم».
مناقبه : وأعظم مناقبه المسجد (١) الجامع بالحمراء ، على ما هو عليه ، من الظرف والتنجيد ، والتّرقيش ، وفخامة العمد ، وإحكام أتوار (٢) الفضة ، وإبداع ثراها (٣) ، ووقف عليه الحمّام بإزائه ، وأنفق فيه مال الجزية (٤) ، وأغرمها لمن يليه من الكفّار ، فدوا به (٥) زرعا ، نهد (٦) إليه صائفته لانتسافه ، وقد أهمّتهم فتنة ، فظهر بها منقبة يتيمة ، ومعلوّة فذّة ، فاق بها من تقدّمه ، ومن تأخّره من قومه.
جهاده : أغزى الجيش لأول أمره مدينة المنظر ، فاستولى عليها عنوة ، وملك (٧) من احتوت عليه المدينة ، ومن جملتهم الزّعيمة (٨) صاحبة المدينة ، من أفراد عقائل الروم ، فقدمت الحضرة في جملة السّبي (٩) ، نبيهة المركب ، ظاهرة الملبس ، رائقة (١٠) الجمال ، خصّ بها ملك المغرب ، فاتّخذها لنفسه ، وكان هذا الفتح عظيما ، والصّيت (١١) بمزايه عظيما بعيدا. أنشدني.
ما نقل عنه من الفظاظة والقسوة (١٢) :
هجم لأول أمره على طائفة من مماليك أبيه ، وكان سيّىء الرأي فيهم ، فسجنهم في مطبق الأريّ من حمرائه ، وأمسك مفتاح قفله عنده ، وتوعّد من يرمقهم بقوت بالقتل ، فمكثوا أياما ، وصارت أصواتهم تعلو بشكوى الجوع ، حتى خفتت ضعفا بعد أن اقتات آخرهم موتا من لحم من سبقه ؛ وحملت الشفقة حارسا كان برأس المطبق ، على أن طرح لهم خبزا يسيرا ، تنقص أكله ، مع مباشرة بلواهم ، ونمي إليه ذلك ، فأمر بذبحه على حافة الجبّ ، فسالت عليهم دماؤه ؛ وقانا الله مصارع السّوء ، وما زالت المقالة عنها شنيعة ، والله أعلم بجريرتهم لديه.
وزراؤه : بقي (١٣) على خطة الوزارة وزير أبيه أبو (١٤) سلطان عزيز بن علي بن عبد المنعم الداني ، الجاري ذكره بحول الله في محلّه ، متبرّما ، بحياته [إلى أن توفي ،
__________________
(١) في اللمحة البدرية : «ابتناء المسجد الأعظم بالحمراء من غرناطة».
(٢) الأتوار : الأواني.
(٣) في اللمحة البدرية (ص ٦٣): «ثرياتها».
(٤) في اللمحة البدرية : «جزية أغرمها من يليه ...».
(٥) في اللمحة البدرية : «بها».
(٦) في اللمحة البدرية : «جهز جيشا صائفة ...». والصائفة : قوات الجيش التي تخرج صيفا للغزو.
(٧) في اللمحة البدرية : «وتملك من اشتملت عليه ، ومن ...».
(٨) في اللمحة البدرية : «العلجة».
(٩) في اللمحة البدرية : «من السّبي».
(١٠) في اللمحة البدرية : «رائعة».
(١١) في اللمحة البدرية : «والصيت لأجله بعيدا».
(١٢) هذه القطعة ساقطة في اللمحة البدرية.
(١٣) في اللمحة البدرية : «أبقى».
(١٤) في اللمحة البدرية : «وهو الشيخ الوزير أبو سلطان».
فأنشد عند موته : [السريع]
مات أبو زيد فواحسرتا |
|
إن لم يكن قد (١) مات من جمعه |
مصيبة لا غفر الله لي |
|
أن كنت أجريت لها دمعه](٢) |
وتمادى (٣) بها أمره ، [يقوم بها حاشيته ، وقد ارتاح إليها متولّيها بعده ، المترفّع بدولته ، القائد الشهير ، البهمة أبو بكر بن المول. حدّث قارىء العشر من القرآن بين يدي السلطان ، ويعرف بابن بكرون ، وكان شيخا متصاونا ظريفا ، قال : عزم السلطان على تقديم هذا الرجل وزيرا ، وكان السلطان يؤثر الفأل ، وله في هذا المعنى وساوس ملازمة ، فوجّه إليّ الفقيه الكاتب صاحب القلم الأعلى يومئذ ، أبو عبد الله بن الحكيم المستأثر بها دونه ، والمتلقّف لكرتها قبله ، وخرج لي عن الأمر ، وطلب مني أن أقرأ آيا يخرج فألها عن الغرض ؛ قال : فلمّا غدوت لشأني تلوت بعد التعوّذ قوله ، عزّ وجلّ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) إلى قوله : (بَيَّنَّا)(٤) ، فلما فرغت الآية ، سمعته حاد عن رأيه الذي كان أزمعه](٥) ، وقدّم (٦) للوزارة كاتبه أبا عبد الله بن الحكيم في ذي قعدة من عام ثلاثة وسبعمائة ، وصرف إليه تدبير (٧) ملكه ، فلم يلبث أن تغلّب على أمره ، وتقلّد جميع (٨) شؤونه ، حسبما يأتي في موضعه إن شاء الله.
كتّابه : استقلّ برئاسته (٩) وزيره المذكور ، وكان ببابه من كتّابه جملة تباهى بهم دسوت (١٠) الملوك ، أدبا وتفنّنا وفضلا وظرفا ، كشيخنا تلوه وولي (١١) الرّتبة الكتابية من (١٢) بعده ، وفاصل الخطبة على أثره ، وغيره ممّن يشار إليه في تضاعيف الأسماء ، كالشيخ الفقيه القاضي أبي بكر بن شبرين ، والوزير الكاتب أبي عبد الله بن عاصم ، والفقيه الأديب أبي إسحاق بن جابر ، والوزير الشاعر المفلق أبي عبد الله اللّوشي (١٣) ،
__________________
(١) كلمة «قد» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى معا.
(٢) ما بين قوسين ساقط في اللمحة البدرية.
(٣) في اللمحة البدرية : «وتمادى أمره برهة».
(٤) سورة آل عمران ٣ ، الآية ١١٨.
(٥) ما بين قوسين ساقط في اللمحة البدرية.
(٦) في اللمحة البدرية : «أنهض للوزارة كاتبه وكاتب أبيه الوزير الصدر الحاج المحدّث أبا عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن الحكيم اللخمي الرندي في ذي قعدة ...».
(٧) في اللمحة البدرية : «تدبيره وألقى في يده أزمّة الملك فلم يلبث ...».
(٨) في اللمحة البدرية : «كافة».
(٩) في اللمحة البدرية (ص ٦٤): «برياسة القلم الأعلى وزيره ، وكان كتّابه جملة ...».
(١٠) في اللمحة البدرية : «بهم الدول أدبا ...».
(١١) في اللمحة البدرية : «ولي».
(١٢) كلمة «من» ساقطة في اللمحة البدرية.
(١٣) في اللمحة البدرية : «اللوشي ، والرئيس أبي محمد ...».
من كبار القادمين عليه ، والفقيه الرئيس أبي محمد الحضرمي ، والقاضي الكاتب (١) أبي الحجاج الطرطوشي ، والشاعر المكثر أبي العباس القرّاق (٢) وغيرهم.
قضاته : استمرّت ولاية قاضي أبيه الشيخ الفقيه أبي عبد الله محمد (٣) بن هشام الألشي (٤) ، قاضي العدل ، وخاتمة أولي (٥) الفضل ، إلى أن توفي عام أربعة (٦) وسبعمائة. وتولّى له القضاء القاضي أبو جعفر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد القرشي المنبوز (٧) بابن فركون ، وتقدّم التعريف به ، والتنبيه على فضله ، إلى آخر أيامه.
من كان على عهده من الملوك بالأقطار (٨) :
وأول ذلك بفاس ؛ كان على (٩) عهده بها السلطان الرفيع القدر ، السامي الخطر ، المرهوب الشّبا ، المستولي في العزّ وبعد الصّيت على المدى ، أبو يعقوب يوسف بن يعقوب المنصور بن عبد الحق ، وهو الذي وطّد الدولة المرينيّة (١٠) ، وجبا الأموال العريقة (١١) ، واستأصل من تتّقى (١٢) شوكته من القرابة وغيرهم. وجاز إلى الأندلس في أيام أبيه وبعده ، غازيا ، ثم حاصر تلمسان ، وهلك عليها في أوائل ذي قعدة عام ستة وسبعمائة ، [فكانت دولته إحدى وعشرين سنة وأشهرا](١٣). ثم صار الأمر إلى حافده أبي ثابت عامر بن الأمير أبي عامر عبد الله بن يوسف بن يعقوب بعد اختلاف وقع ونزاع انجلى (١٤) عن قتل جماعة من كبارهم (١٥) ؛ منهم الأمير أبو يحيى بن السلطان أبي يوسف ، والأمير أبو سالم بن السلطان أبي يعقوب. واستمرّ الأمر للسلطان (١٦) أبي ثابت إلى صفر (١٧) من عام ثمانية وسبعمائة. وصار الأمر (١٨) إلى
__________________
(١) كلمة : «الكاتب» ساقطة في اللمحة البدرية.
(٢) في اللمحة البدرية : «بن القراق».
(٣) في اللمحة البدرية : «محمد بن محمد بن هشام ...».
(٤) نسبة إلى إلش Elche ، وهي مدينة من كور تدمير. الروض المعطار (ص ٣٠).
(٥) في اللمحة البدرية : «ألي».
(٦) في الأصل : «أربع» وهو خطأ نحوي.
(٧) في اللمحة البدرية : «المنبز».
(٨) في اللمحة البدرية : «من كان من الملوك على عهده».
(٩) في اللمحة البدرية : «كان ملكا بها على عهده السلطان ...».
(١٠) كلمة : «المرينية» ساقطة في اللمحة.
(١١) في اللمحة البدرية : «العريضة».
(١٢) في اللمحة البدرية : «يتّقي».
(١٣) ما بين قوسين ساقط في اللمحة.
(١٤) في اللمحة البدرية (ص ٦٥) «انجلى الأمر فيه عن ...».
(١٥) في اللمحة البدرية : «أكابرهم».
(١٦) في اللمحة البدرية : «بالسلطان».
(١٧) في اللمحة البدرية : «إلى شهر صفر عام ...».
(١٨) في اللمحة البدرية : «الأمر بعده إلى ...».