أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]
المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
الصفحات: ٤٢٤
وبالغ فيه كلّ أروع أصيد |
|
طويل المعالي والمكارم واليد |
وشادوا وجادوا سيّدا بعد سيّد |
|
فبادوا جميعا عن صنيع مخلّد |
يقوم عليه الثناء ويخطب |
||
مصابيحه مثل النجوم الشّوابك |
|
تمزّق أثواب النجوم الحوالك |
وتحفظه من كل لاه وسالك |
|
أجادل تنقضّ انقضاض النّيازك |
فإبشارهم بالطبطبية تنهب |
||
أجدك لم تشهد بها ليلة القدر |
|
وقد جاش برّ الناس منه إلى بحر |
وقد أسرجت فيه جبال من الزّهر |
|
فلو أن ذلك النّور يقبس من فجر |
لأوشك نور الفجر يفنى وينضب |
||
كأن للثّريّات (١) أطواد نرجس (٢) |
|
ذوائبه تهفو بأدنى تنفّس |
وطيب دخان النّدّ من كل معطّس |
|
وأنفاسه في كل جسم وملبس |
وأذياله فوق الكواكب تسحب |
||
إلى أن تبدّت راية الفجر تزحف |
|
وقد قضّى منهما (٣) الذي لا يسوّف |
تولّوا وأزهار المصابيح تقطف |
|
وأبصارها صونا تغضّ وتطرف |
كما تنصل الأرماح ثم تركّب |
||
سلام على غيابها وحضورها |
|
سلام على أوطانها وقصورها |
سلام على صخرائها وقبورها |
|
ولا زال سور الله من دون سورها |
فحسن دفاع الله أحمى وأرهب |
||
وفي ظهرها المعشوق كل مرفّع |
|
وفي بطنها الممشوق كل مشفع |
متى تأته شكوى الظّلامة ترفع |
|
وكل بعيد المستغاث مدفّع |
من الله في تلك المواطن يقرب |
||
وكم كربة ملء الجوانح والقلب |
|
طرقت وقد نام المواسون من صحب |
بروعتها قبر الوالي لي وهبّ |
|
وناديت في التّرب المقدّس يا ربّ |
فأبت بما يهوى الفؤاد ويرغب |
__________________
(١) في الأصل : «للثرياوات».
(٢) في الأصل : «من نرجس».
(٣) كلمة «منهما» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها ليستقيم الوزن والمعنى معا.
فيا صحبي حان قبلك مصرعي |
|
وكنت على عهد الوفا والرّضا معي |
فحطّ بضاحي ذلك السّرى مضجعي |
|
وذرني فجار القوم غير مروّع |
فعندهم للجار أهل ومرحب |
||
رعى الله من يرعى العهود على النّوى |
|
ويظهر بالقول المحبّر ما نوى |
ولبيته من مستحكم الودّ والهوى |
|
يرى كلّ واد غير واديه مجتوى |
وأهدى سبيله الذي يتجنّب |
كتابته : وكتابة ذي الوزارتين ، رحمه الله ، كالشمس شهرة ، والبحر والقطر كثرة ؛ ونحن نثبت له شيئا من ذلك لئلّا يخلو هذا الكتاب من شيء من بيانه. كتب يراجع الوزير أبا بكر بن عبد العزيز ، من رسالة كتب بها إليه مع حاج يضرب القرعة :
أطال الله بقاء وليّي وإمامي الذي له إكباري وإعظامي ، وفي سلكه اتّسامي وانتظامي ، وإلى ملكه انتسابي واعتزائي ، وبودّه افتخاري وانتزائي ، للفضائل مجيبا ومبديا ، وللمحامد مشتملا ومرتديا ، وبالغرائب متحفا ومهديا ، ولا زال الرّخاء وأزل ، وجدّ من المصافاة وهزل ، وسحت من المراعاة وجزل. وصل كتابه صحبة عرّاف اليمامة ، وفخر نجد وتهامة ، يقرّظه ويزكّيه ، ويصفه بالخبّ يفسّره ويجليه ، والخفيّ يظهره ويبديه. ولعله رائد ، لابن أبي صائد ، أو هاد للمسيح الدّجال قائد. أشهد شهادة إنصاف ، أن عنده لعضبا صاف ، ولو كان هناك ناظر صادق طاف ، ولله خفايا الألطاف ، لقلت هو باد غير خاف ، من بين كل ناعل وحاف. وسأخبرك ، أيّدك الله ، بما اتّفق ، وكيف طار ونعق ، وتوسّد الكرامة وارتفق ، طرق له وصفك ونعتك ، وثقّفه بريك ونحتك ، ورفعه للعيون جدّك وبختك ، وامتدت نحوه النواظر ، واستشرفه الغائب والحاضر ، وتسابق إليه النّابه والخامل ، وازدحم عليه العاطل والعامل. هذا يلتمس مزيدا ، وذاك يبتغي حظا جديدا ، وهذا يطلب تقليدا ، وذلك يسلّ إلى مغاليقه إقليدا. فكلما حزب ، وغلّ وجلب ، حلب واستدرّ ، وتلقاه وإن ساءه الغيب بما سرّ. وكنت واتغت جملة من الأعيان ، ووافقت ثلّة من جلّة الإخوان ، على تمشية أمره ، وتوشية ذكره ؛ فلمّا صدقت تلك الفرقة ، واستوت بهم تلك الفرقة ، أحضرناه للسّبار ، وأقعدناه للنّقد والاختيار ، وأردنا أن نقف على جلايا تلك الأخبار ، فأحضرنا طحنا ونطعا ، وسرينا عنه من الوحشة قطعا ، وقلنا له خذ عفوك ، ولا توردنا إلّا صفوك ، ولا تصانعنا في الكريهة التي نراها ، والحادثة تستفظع ذكراها ؛ فما عندنا جهل ، وما منّا إلّا محتنك كهل ، لا يتكاده حزن ولا يستخفّه سهل ، فسكن جائش فوره ، وضرب بلحيته على زوره ، ثم صعّد فينا النظر وصوّب ، واستهلّ صارخا وثوّب ، وتحرّج من الكذب
وتحوّب ، وقال : لست للعشرة خابطا ، ولا للطّرف غامضا ، ولا عن الصدق إذا صدع حائدا ، ولا للغدر ممّن وقع منه ذائدا ، ولا بمعجزات النبوّة لاعبا ، ولا لصريح الجدّ مداعبا ، ولا تطيبني مسألة ولا حلوان ، ولا تستفزّني نضائد كثيرة ولا ألوان. إنما هو رسم وخطّ ، ورفع وحطّ ، ونحس وسعد ، ونقد ووعد ، ويوم وغد. فقلنا له الآن صحّت الوفادة ، وأينعت الإرادة. ثم نظر إلينا نظر المستقلّ ، واجتذب النّطع اجتذاب المدلّ ، ونثل الطّحن وهاله ، وأداره حتى استدار هاله ، ثم قال : يا أيها الملأ هذا المبتدأ ، فأيكم يبدأ. فرمقني القوم بأبصارهم وفغروا وكبّروا ، وليتهم عند ذلك صفّروا ، فقلت : يا قوم قد عضضت على ناجذي حلما ، وقتلت شأني كلّه علما ، وعقدت بيني وبين غد سلما ، فكيف أستكشف عما أعرف ، وأسبقهم عمّا لا يستبهم. على الرحمن توكلت ، وعلى الشيطان تركّلت ، ومن كسبي أكلت ، وفي مبرك السّلامة بركت ، وجسيمات الأمور تركتني وتركت ، والنفس المطمئنة رجوت ، ولعلني قد نجوت ، وأصبت فيما نحوت. فلحظتني عند هذه المقالة عينه ، وطواني صدقه ومينه. ثم صار القوم دوني أنجية ، وأعدّ له كل تورية وتعمية. فقال قائل منهم : تعالوا نشترك في ضمير ، ونرمه بهذا الطاغية ابن رذمير ، ففي كل قلب منه ندب كبير ، والسؤال عنه دين وأدب ، فإن أصابه استرحنا من النّصب والشّخوص ، وحرنا من العموم إلى الخصوص ، وإن أخطأه فهو لما سواه أخطأ ، ولما يدّعيه ويريده منه أبطأ. فقالوا : نعم ما عرضت ، وأحسن بما رويت وفرضت. فلمّا رأيناه يثقل التّعريض ، ويحكم التقرير والتعويض ، قلنا له : حقّق ضميرك كل التحقيق ، وضع مسبحتك في الدقيق. فابتدر ما أمر ، وحسر عن ذراعه وشمّر ، ومرت أصبعه في خطّه مرّ الذّر المتهالك ، ووقعت وقع القطر المتدارك ، لا تمس الطّحن إلّا تحليلا ، وغمزا كالوهم قليلا ، فطورا يستقيم سبيلا ، وتارة يستدير إكليلا ، وآونة يأتي بالسماء ونجومها قبيلا. فكان هنالك لنعش من بنات ، وللثّريا من أخوات ، وطير قابضات ، وصافّات وأسراب ناشرات خافقات.
فلمّا استوفى عدده ، وبلغ أمده ، وختم طرائقه وقدده ، وأعطى الأصول وفروعها ، وتدبّر تفاريقها وجموعها ، فجمع وتقبّض ، وفتر ثم انتفض ، وصعّد ذهنه وتسافه ، وأخذ الطّحن فسافه ؛ وزفر وشهق ، وعشّر ونهق ، وألصق بظهره حشاه ، وكتم الرّبو ثم أفشاه ، وقال : هذا الذي كنت أخشاه ، عميتم الأثر ، وكتمتم حقيقة الخبر ، وعثرتم خاطي فما عثر ، ونثرتم نظام الحدس فما انتثر. سألتم عن روح شارد ، وشيطان مارد ، وصادر مع اللّحظات وارد ، لا يوطن دارا ، ولا يأوي قرارا ، ولا يطعم النّوم إلّا غرارا (١). نعم أمره عندي مستقر ، هو زنديق مستتر ؛ وشهاب من شهب الكفر مستمر.
__________________
(١) الغرار : السهم. لسان العرب (غرر).
ثم رجّع البصر واختصر ، وعاد إلى الحساب يتقرّاه ، والصواب يتحرّاه ، وتتبّع أديم الطّحن ففراه ، وقال : أعوذ بالله من شرّ ما أراه. إلى كم أرى في غلاء وبلاء؟ كأني لست ذا أمرار وأحلاء ، تالله لو كانت قرعة رفعة وعلاء ؛ ما غاب عني اللّحياني ذو السّبلة ، ولواجهنا البياض ذو الغرّة المستقلّة مواجهة حسان لجبلة. النّحس على هذه الروح قد رتّب ؛ وكتب عليه من الشقاء ما كتب ، وأخرج النّصرة الداخلة من العتب. ثم أشار إلى الحمرة ، وكأنما وضع يده على جمرة ، وقال : كوسج نعيّ ، وسناط الوجه شقيّ ، وثقاف وطريق ، وجماعة وتفريق ، وقبض خارج ، ومنكوس مارج. ثم وضع عمامته ، ولولب هامته ، وأمال وجهه فجرا طلقا ، ثم عرضه مجنا مطرقا ، وعقد أنامله عضّا ، وأدمى صدره دعّا ورضّا ، وقطع بصره لمحا وغضّا ، وتكفّأ وتقلّع ، وأدلع لسانه فاندلع. فقلنا : شرّ تأبّطه ، أو شيطان يتخبّطه ، أو قرين يستنزله ويختله ، أو رؤى في الذرة والغاب يفتله. ثم تجاحظ وتحاذر ، وتضاءل وتنازر ، وقال : والذي أحيا عازر ، وأخرج إبراهيم من آزر ، وملك عنان الريح وأذعن له كل شيء بالسجود والتّسبيح ، إنه لمن عبّاد المسيح ، هيهات هيهات ، لا أضعضع بظنّ ، ولا يقعقع لي بشنّ ، ولا أنازع من هذه الفنون في فنّ. قد ركبت أثباج البحار ، وقطعت نياط المفاوز والقفار. وشافهني الحرم والبيت ، وصافحني الحجر الكميت ، وأحرمت ولبّيت ، وطفت ووفيت ، وزرت المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وتحفّيت. ثم ملت على عدن ، وانحدرت عن اليمن ، واستسقيت كل راعدة ، وأتيت كل قاعدة ؛ ورأيت صاحب الجمل قسّ بن ساعدة ، ووردت عكاظ ، وصدّقت الحفّاظ ، وقدت العصية بنسع ، ومسحت الشامات بأخمس وتسع ، ووقفت حيث وقف الحكمان ، وشهدت زحف التّركمان ، وكيف تصاولت القروم ، وغلبت الرّوم ، وهزم المدبر المقبل ، واكتسحت الجحاش الإبل. فقلنا : لله أنت ، لقد جليت عن نفسك ، وأربى يومك على أمسك ، ولقد صدق مطريك ، ووفت صحيفة تزكّيك ، وما كانت فراستنا لتخيب فيك. فماذا تستقري من اللوح ، وترى في ذلك الروح؟ بعيشك ألا ما أمتعتنا بالإفشاء والبوح! فرجع في البحث أدراجه ، وطالع كواكبه وأبراجه ، وظلّ على مادة الطّحن يرقم ويرمق ، ويفتق ويرتق. ثم جعل يبتسم ، وقال : أحلف بالله وأقسم ، لقد استقام النّسم ، وإنه لكما أرسم وأسم ، وإني لا أجده إلّا لاغبا مبهورا ، ومنكودا مقهورا ، ولن يلبث إلّا شهورا. قد أفل طالع جدّه ، وفلّ حدّه ، وأتي عليه نقي خدّه ، وصيّ لم يملك أبوه وملك جدّه ، فقلنا : صرّحت وأوضحت ، وشهرت هذا المستور وفضحت ، وإن ساعدك قدر ، وكان لك عن هذا الورود صدر ، فحظك مبتدر ، وخطّك صاف لا يشوبه كدر. فقال : هذا أمر قد آن أو كان ، وسيأتيكم الخبر الآن ، فانفصلنا وأصغينا الآذان ، وجعلنا نتلقى الرّكبان ، فلم يرعنا إلّا النّعمى الناجمة ، والبشرى الهاجمة ، بما
بان ، فأدهنا في شانه ، ولم يكن يعاوده خوف طغيانه ، فإذا الخبر لم يخط صماخه ، وكأنما كان عودا وافى مناخه ، أو طائرا أمّ أفراخه. فلم ينشب أن أقبل يصمد نحونا أي صمد ، ويتعرضنا على عمد ، تعرّض الجوزاء للنجوم ؛ وينقضّ انقضاض نيازك النجوم ، وقال : ألم يأن أن تدينوا لي بالإكبار ، وتعلموا أني من الجهابذة الكبار؟ فقلنا : منك الإسجاح ، فقد ملكت ومنك ولك النجاح ، أيّة سلكت. فأطرق زهوا ، وأعرض عنا لهوا ، وقال : اعلموا أن القرعة لو طوت أسرارها ، ومنعتني أخبارها ، لمزّقت صدارها ، وذروت غبارها ، ولكان لي عنها أوسع منتدح ، وأنجد زناد يقدح ، أين أنتم عن رصدي الأحلاك ، وعلمي بالأفلاك؟ أنا في مرج الموج ، وأوج الأوج ، والمتفرد بعلم الفرد والزّوج ، ومسترط السّرطان ، ومستدير الدّبران ، وبائع المشتري بالميزان ، والقابض بيوم الحساب والعمل ، على روق الثّور وذنب الحمل ، أعقد نصل العقرب ، وأقيّد الأبعد والأقرب ، لصيد أوابدها بالدقائق والدّرج ، حتى اضطرّ سارحها إلى الحرج ، وأصبحها في أضيق منعرج ، أنا استذكرت بالأنبار ، فرحة الإقبال وترحة الإدبار ، وطالعت أقليدس فاستنبطته ، وصارعت المجسطي فجسطنته ، وارتمطت إلى الأرتماطيقا ، وأطقت الألوطيقا ، ولحظت التحليل بحلّ ما عقده ، وانتضيته ما مطل به الجهابذة فنفّذه. وعاينت زحل ، حين استقلّ على بعيره ورحل ، وضايقته في ساحته ، وحصرته في مساحته ، وحضرت قرانه ، وشهدت تقدّمه ومرانه ، وشاهدته شفرا بشفر ، وناجاني برقا يعدّ في الكفر ، وتخريبه لملك الصّفر ، وتفريقه لبلاد اللّطينة ، وإنجاز الوعد في فتح قسنطينة. أنا عقدت رشا الدّلو ، وذروت غبار الحوت للفلو. أنا اقتدحت سقط الجوزهر ، فلاح بعد خفائه وظهر. أنا استثرت الهلال من مكامن سرره ، وأخذت عليه ثنايا سفره ، وقددت قلامته من ظفره ، ودللت طير الصّاير على شجره ، فجنيت المرّ من ثمره ، أنا طرقت الزّهرة في خدرها ، وصافحتها من الفكرة بيد لم تدرها. أنا أذكيت على ذكاء فظلّت تلتهب ، وأحرزتها من الوهم شطنا أجذبها به فتنجذب. أنا أنعى للمعتبرين حياتها ، فيشبهون الحسنة ويتحرّون أوقاتها ، حتى تنتشر بعد الطيّ حياتها ، وتستقيل من العثار آياتها. أنا انتضيت للشباب شرخا ، وأضرمت للمرّيخ عقارا ومرخا ، حتى أتغانى بملاحم حروبه ، وحوادث طلوعه وغروبه ، وتلمّظه إلى النّجيع ، وولوغه في مهجة البطل السّجيع. أنا أبرى من اللّمم ، وأشفى من الصّمم ، وأنقل العطس إلى الشّمم. فقلنا : أمّا الأولى ، فقد سلّمنا لك جميعها ، وأمّا هذه الثلاثة فلن تستطيعها. قال : فلم تعجزون ولا تستخزون؟ فقلنا : من كان له علاج فبنفسه يبدأ ، ونغب بغيره. ولسنا نريدك ، ولكن تهتزّ يدك. قال : أما من بينهم روي ، وألقى في روعه ما ألقى في روعي ، فمثله كالصّارم ، حسنه في فرنده ، لا غمده ، وجماله في حدّه لا في خدّه ،
والمرء كما قيل بأصغريه ، لا بمنخريه ، والشأن في الحيزوم ، لا في الخيشوم ، وفي الذّكرين ، لا في الأنثيين ، وبعد ، فهو كلام ظاهره إجمال ، وباطنه احتمال ، وسأنبّئكم بغزارة سيله ، وفجر ليله. أما الأفطس فيدلي الضّغنة ، ويتزوج في آل جفنة. فإن الله أتمّ ، جاء الولد أتمّ ، وإن نام عرق خاله ، بقي الولد بحاله. وأما الأصمّ ، فيخرج عن الغلام ، وبلا فال ، ويطلب في بني السّميعة بركة الاسميّة والفال ، فإن الله أراد ، ظفر بالمراد ، وجاء ابنه أسمع من قراد (١). فأحسّ من بعض الحاضرين تمريضا ، وعاين طرفا غضيضا ، فتعكّر وتشذّر ، وطوّف وحذّر ، وقال صاحب الشريعة ، سمّاهم بني السّميعة ، قوموا يا بني اللّكيعة ، فقد قطعتم رزقي ، وآذيتم طرقي ، وأذللتم ضربي وطرقي ، وسددتم طوقي ، وأخذتم على أفقي غربي وشرقي. ذروني للتي هي للبليّة تجني ، ثم الوجد يعني ، لو شرب نواديه إثر تجنّي. ثم نجا بعزمته سميلا ، وأرسل بنات نعش ذيلا ، وقد أفاد بما استصحب من ميامنك ليلا ، كذّبني أيّدك الله عند نواه ، ولم يطلعني طلع ما نواه ؛ وما ذاك إلّا لمطمع لواه ، ومغنم هواه. فرفعت لي بعد وداعه نجوة ، ورمتني بشخصه فجوة ، فقلت : ما أراك إلّا غائل ، أورثت عنك الحبائل. فسراك سرى قين ، وحديثك مين ، ألم تعبر دجيلا ، ويمّمت سهيلا؟ فقال : طربت إلى الأصفية الصّغار ، وشاقني الشوق بين الطّواغيت والأصفار. فقلت له : هلمّ إلى خطّ نعيده ، وحظّ نستفيده. فقال : لو لا أن تقولوا الساعة متى ، وتطالبوني بإحياء الموتى ، لما أجمعت إلى الغرب غروبا ، ولأريتكم من الحذق ضروبا. ثم قال : إن لي بالحضرة أفراخا ، وأمّا استصرخت عليها استصراخا ، وانسلخت منها انسلاخا ، وأعيا عليّ أمره فلم أعلم له ظعنا ولا مناخا. فلبثت كذلك أياما ، ثم اعتمّ عليّ أمره اعتياما ، ولم أعرف له إنجادا ولا اهتماما ، فإذا به وقد أضمرت عنه بأسا ، ولم أطمع فيه رأسا ، قد أشبّ لي شبابا ، ولمعت صلعته شهابا ، تكتنفه صرّة ، وبيمناه قوصرة (٢) ، وتؤود يسراه جرّة. فقلت له : قاتلك الله ، ما أشدّ فقداتك إلّا فقدتك ، وما أذكر وجداتك إلّا وجدتك ، أين أفراخك ، والأمّ التي جذبها استصراخك؟ فقال : الصعلوك ، لو أعلم مذاهبه ، تحرّم مناهبه ، وتحدم مراهبه. ذرني وعلاجي ، أحاجي وأداجي ، وأعاين وأناجي ، وأتقلب في بركة دعاء الباجي. فقلت له : مالك وللميت ، ورحم الله من سمّيت. قال : لمّا أذن الله فالتأمت الشّيمة ، وتمزّقت عني المشيمة ، هممت بالسّرق ، ولففت في
__________________
(١) منه المثل : «أسمع من قراد» ، وذلك أنه يسمع صوت أخفاف الإبل من مسيرة يوم ، فيتحرك لها. مجمع الأمثال (ج ١ ص ٣٤٩ ، رقم المثل ٨٧٨).
(٢) القوصرة : وعاء للتّمر. محيط المحيط (قوصر).
الخرق ، وفارقت من الضيق منتداه ، وأفلتتني يداه ؛ فحنّكني السعد بتمر المدينة ، وسقاني من ماء البلدة الأمينة ، وعوّذني بدعوات متينة. فها أنا كما ترى أتهادى وأجتذب ، وأستحلي وأستعذب. فقلنا : لعمرك إنه لفضل عميم ، لو لا الصّميم ، وإنها لمنقبة ، لو لا العقبة ، وأثرة ملتمسة ، لو لا العطسة ، فقال : دعنا من زخاريفك ، وأغضض من عنان تصاريفك. البازل (١) لا يكون إلّا ذميما ، والليث لا يوجد إلّا شميما. ثم قام وحمل ، وابتدر وارتجل : [مجزوء الخفيف]
عيشنا كلّه خدع |
|
فاترك اللوم عنك ودع |
أنا كالليث والليو |
|
ث بأرسائها ترع |
ولها الأوجه السّي |
|
مه من يلقها يرع |
أيّ حسن لمازن |
|
بيد الدّلّ يخترع؟ |
أنا كالسّيف حدّه |
|
لا يبالي بما وقع |
إنما الحسن للمها |
|
ة وللظّبي يا لكع |
فقلت : تبّا لك سائر اليوم ، إنك لتريش وتبري ، وتقدّ وتفري ، وتحاسن وتقابح ، وتهارش وتنابح ، وتحبّ وتتأمل ، وتحسن وتغلغل ، وتشاعر وتراجز ، وتناطح وتناجز. وأنت على هذا كله مصرّ ، ما جزاؤك إلّا ريح فيها صرّ ، فما هو إلّا أن غفلت عنه لمحة طرف ، أو نفحة عرف ، ثم التفتّ وإذا به قد أفلس ، وكأنما كان برقا خلّس ، ولم أدر أقام أو جلس.
ومحاسنه القطر الذي لا يعدّ ، والأمر الذي يأخذه الحدّ. وكفى بهذه الرسالة دليلا على جلالة مقداره ، وتدفّق بحاره وفخاره ؛ لما اشتملت عليه من بلاغة وبيان ، وبساط حال أنت على خبره بعيان ، وعلوم ذات افتنان ، خلّد الله عليه الرحمة ، وضاعف له المنّة والنعمة.
مولده : بأوائل ربيع الثاني عام خمسة وستين وأربعمائة (٢).
وفاته : من خطّ الحافظ المحدّث أبي القاسم بن بشكوال ، رحمه الله : كان (٣) ممن أصيب أيام الهرج بقرطبة ، فعظم المصاب به ، الشيخ الأجلّ ، ذو الوزارتين ، السيد الكامل ، الشهير الأثير ، الأديب ، اللغوي ، السّري ، الكاتب البليغ ، معجزة زمانه
__________________
(١) البازل : ما بزل نابه من الإبل في السنة التاسعة. محيط المحيط (بزل).
(٢) قال في معجم الصدفي (ص ١٥٤): «ومولده سنة خمس ، وقيل : سنة ثلاث وستين وأربعمائة».
(٣) هذا النص غير وارد في الصلة. وجاء في الصلة بعض مما ذكر هنا.
وسابق أقرانه ، ذو المحاسن الجمة ، الجليلة الباهرة ، والأدوات الرفيعة الزكية ، الطاهرة الكاملة ، المجمع على تناهي نباهته ، وحمد خصاله وفصاحته ، من لا يشقّ غباره ، ولا تلحق آثاره ، معجزة زمانه في صناعة النثر والنظم ، أبو عبد الله بن أبي الخصال ، رحمه الله تعالى ورضي عنه ونضّر وجهه. ألفي مقتولا قرب باب داره بالمدينة ، وقد سلب ما كان عليه ، بعد نهب داره ، واستئصال حاله ، وذهاب ماله ، وذلك يوم السبت الثاني عشر من شهر ذي الحجة من سنة أربعين وخمسمائة. فاحتمل إلى الرّبض الشرقي بحومة الدرب ، فغسّل هنالك وكفّن ، ودفن بمقبرة ابن عباس عصر يوم الأحد بعده ، ونعي إلى الناس وهم مشغولون بما كانوا بسبيله من الفتنة. فكثر التفجّع لفقده ، والتأسّف على مصاب مثله ، وأجمعوا على أنه كان آخر رجال الأندلس علما وحلما ، وفهما ومعرفة ، وذكاء وحكمة ويقظة ، وجلالة ونباهة ، وتفننا في العلوم. وكان له ، رحمه الله ، اهتمام بها ، وتقدم في معرفتها وإتقانها. وكان ، رحمه الله ، صاحب لغة وتاريخ وحديث ، وخبر وسير ، ومعرفة برجال الحديث مضطلعا بها ، ومعرفة بوقائع العرب وأيام الناس ، وبالنثر والنظم. وكان جزل القول ، عذب اللفظ ، حلو الكلام ، عذب الفكاهة ، فصيح اللسان ، بارع الخطّ حسنه ومتقنه. كان في ذلك كله واحد عصره ، ونسيج وحده ، يسلّم إليه في ذلك كله ، مع جمال منظره ، وحسن خلقه ، وكرم فعاله ، ومشاركته لإخوانه. وكان مع ذلك كله جميل التواضع ، حسن المعاشرة لأهل العلم ، مسارعا لمهماتهم ، نهاضا بتكاليفهم ، حافظا لعهدهم ، مكرما لنبهائهم ، واسع الصدر ، حسن المجالسة والمحادثة ، كثير المذاكرة ، جمّ الإفادة. له تصانيف جليلة نبيهة ، ظهر فيها علمه وفهمه ، أخذها الناس عنه مع سائر ما كان يحمله ويتقنه ، عن أشياخه الذين أخذ عنهم ، وسمع منهم ، وقرأ عليهم.
وقال غيره : قتل بدرب الفرعوني بقرب رحبة أبان ، بداخل مدينة قرطبة ، قرب باب عبد الجبّار يوم دخلها النصارى مع أميرهم ملك طليطلة ، يوم قيام ابن حمدين ، واقتتاله مع يحيى بن علي بن غانية المسّوفي الملثّم المرابطي يوم الأحد لثلاث عشرة مضت من ذي الحجة عام أربعين وخمسمائة. قتله بربر المصامدة رجّالة أهل دولة اللثام لحسن ملبسه ، ولم يعرفوه ، وقتلوا معه ابن أخته عبد الله بن عبد العزيز بن مسعود ، وكان أنكحه ابنته ، فقتلا معا. وكان محمد خيرة الشيوخ ، وعبد الله خيرة الأحداث ، رحمهما الله تعالى.
محمد بن مفضل بن مهيب اللخمي
يكنى أبا بكر ، من أهل شلب من العليا.
حاله : قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير : كان منقبضا عن الناس ، أديبا ، شاعرا ، خمّس عشرينيات الفازازي ، رحمه الله تعالى. وذكره صاحب الذيل ، وقال لي شيخنا أبو البركات ، وهو جدّه ، أبو أبيه ، ما معناه : كان شريفا ، عالي الهمة ، عظيم الوقار ، ألوفا ، صموتا ، نحيف الجسم ، آدم اللون ، خفيف العارض ، مقطّب الوجه ، دائم العبوس ، شامخ الأنف ، إلّا أنه كان رجلا عالما راسخا ، عظيم النزاهة ، حافظا للمروءة ، شهير الذكر ، خطيبا مصقعا ، مهيبا كشهرته ، قديم الرياسة ، يعضّد حديثه قديمه. واستقرّ بألمرية ، لمّا تغلّب العدو على بلد سلفه. ولمّا توفي شيخ المشايخ ؛ أبو إسحاق بن الحجاج ، تنافس الناس من البلدين ، وغيرهم ، في خطبة بنته. قال شيخنا أبو البركات : ومن خطّه نقلت ، وكان ابن مهيب واحدا منهم في الإلحاح بالخطبة ، متقدما في حلبتهم ، بجيوش الأشعار. ورام غلبته ذوو اليسار ، من حيث كان بحمراء جيش الإعسار ، فأذلّهم بالمقابلة في عقر الدار ، فلم يراجعوا من الغنيمة إلّا بالفرار. قلت : وجلب في هذا المعنى شعرا كثيرا ، ناسب الغرض. ونال من المتغلب على ألمريّة ، على عهده ، حظوة ، فاستظهر به تارة على معقل مرشانة ، وتارة على الرسالة إلى الحضرة الحفصية بتونس. ولما آب من سفره إليها ، سعى به لديه بما أوجب أن يحجر عليه التّصرف ، وسجنه بمنزله. فلمّا قصد ألمرية الغالب بالله ، مستخلصا إياها من يد الرئيس أبي عبد الله بن الرّميمي ، ونزل بمدينتها ، وحاصر قصبتها ، وقع اختيار الحاصر والمحصور على تعيين ابن مهيب ، بمحاولة الأمر ، وعقد الصلح ، رضى بدينه وأمانته ، فعقد الصلح بينهما على أن يسلم ابن الرميمي القصبة ، ويعان على ركوب البحر بماله وأهله وولده ، فتأتّى ذلك واكتسب عند الغالب بالله ، ما شاء من عزّة وتجلة.
وقفني شيخنا أبو البركات على ظهير سلطاني ، صدر عن الأمير الغالب بالله ، يدل على جلالة قدره ، نصّه :
هذا ظهير كريم ، أظهر العناية الحافلة لمستوحيها ومستحقّها ، وأجراه من الرعاية الكاملة على الحبّ طرقها. أمر بإحكام أحكامه ، والتزام العمل بفصوله وأقسامه ، الأمير أبو (١) عبد الله محمد بن يوسف بن نصر نصر الله أعلامه ، وأدام لإقامة قسط العدل أيامه ، لوليّه العليّ المكانة ، وصفيّه المليء بأثرتي المعرفة
__________________
(١) كلمة «أبو» ساقطة في الأصل. وقد حكم أبو عبد الله محمد بن يوسف بن نصر غرناطة من سنة ٦٣٥ ه إلى سنة ٦٧١ ه. اللمحة البدرية (ص ٤٢).
والدّيانة ، الحريّ بما اختصّه ، أيّده الله ، من الحفظ لمرتبته السامية والصّيانة. للشيخ الفقيه ، الجليل ، العالم ، الأوحد ، العلم ، الأتقى ، الأزهر ، الفاضل ، الخطيب الأرفع ، المحدّث الثقة ، الرّاوية ، الصالح ، السّني ، الحافظ ، الحافل ، الماجد ، السّري ، الطاهر ، المكرّم ، المبرور ، الكامل ، أبي بكر ابن الشيخ الوزير الأجلّ ، الفقيه ، الحسيب ، الأصيل ، الأمجد ، المكرم ، المبرور ، الأفضل ، المرحوم ، أبي عمرو بن مهيب ، أدام الله عزّة جانبه ، ووصل بالعلم والعمل ارتقاء مراتبه ، أقام به الشّواهد على اعتقاده ، أنه أخلص أوليائه ودّا ، وأفضلهم قصدا ، وأكرمهم عهدا ، حين ظهرت له ، أيّده الله ، آثار آرائه الأصيلة ، وبانت في الصلاح والإصلاح ميامن مناقبه الجميلة ، ووجب له من العناية والمزيّات أتمّ ما توجبه معارفه ، وتقتضيه مجادته ، وزهادته ، التي لا يفنّد في وصفها واصف. وأعلن بأنه دام عزّه ، أحقّ من حفظت عليه مرتبة صدور العلماء الراسخين في العلم ، وأبقيت مزيّة ما تميز به التّقى والورع الكافي والحلم ، وبرع بصلة العناية بجانبه ، لما أهّلته إليه معرفته من نفع المتعلمين ، وإرشاد من يسترشده في مسائل الدين من المسلمين ، وأفصح بأنه أولى مخصوص بالتجلّة والتوقير ، وأجدر منصوص على أن قدره لديه معتمد بالتكريم والتكبير. وأمر ، أعلى الله أمره ، أن يستمرّ له ولزوجه الحرّة الأصيلة الزكية ، التقية الصالحة ، المصونة المكرمة المبرورة ، عائشة بنت الشيخ الفقيه الجليل العالم الصالح السّني ، الزاهد الفاضل ، المرحوم المقدس ، الأرضى ، أبي إسحاق ابن الحاج ؛ ما اطّردت به العادة لهما قديما وحديثا ، وتضمنه الظهيران الكريمان ، المؤرخ أحدهما بالعشر الأواخر لشوال عام خمسة وثلاثين وستمائة ، من صرف النظر في أعشارهما وزكواتهما إليهما ، ليضعا ذلك في أحقّ الوجوه ، ويؤدّيا فيه حقّ لله تعالى ، ما مثلهما علما ودينا من يؤدّيه ، موكولا ذلك لله ، إلى ما لديهما ، من نشر الأمانة ، مصروفا إلى نظرهما الجاري مع العلم والديانة ، وتجديد أحكام ما بأيديهما من الظّهائر والأوامر القديمة والحديثة ، المتضمنة تسويغ الأملاك ، على اختلافها ، وتباين أجناسها وأوصافها ، لهما ولأعقاب أعقابهما ، على التأبيد والتّخليد ، والمحاشاة من اللّوازم ، والمعاوز والمغارم ، وأن يطّرد لشركائهما ، وعمرة أملاكهما ، ووكلائهما ، وحواشيهما ، ومن اتصل بهما ، جميل العناية ، وحفيل الرعاية ، وموصول الحماية ، الاستمرار الذي يطّرد العمل به مدى الأيام ، وتتوالى التّمشية له من غير انصرام على الدوام ، موفى بذلك ، ما يحقّ لجانب الفقيه العالم ، الأوحد الأسنى ، أبي بكر ، أدام الله عزته ، من حظوظ الإجلال ، منتهى فيه إلى أبعد آماد العنايات الشريفة ، الفسيحة المجال ، مقضى على حقّ ما انفرد به من العلم ، واتصف به من الديانة ، اللذين أضفيا عليه ملابس البهاء والجلال. فمن وقف على هذا الظهير الكريم من الولاة
والعمّال ، وسائر ولاة الأشغال ، وليتلقّه بغاية الائتمار والامتثال ، إن شاء الله. وكتب في الثاني عشر من ذي الحجة عام ثلاثة وأربعين وستمائة.
مشيخته : أخذ عن أبي العباس أحمد بن منذر الإشبيلي ، تلا عليه بإشبيلية ، وعلى عباس بن عطية أبي عمرو. وروى عن أبي محمد عبد الكبير الإشبيلي ، وصحب أبا الحسن بن زرقون ، وتفقّه عليه. وانتقل إلى ألمرية ، فصحب أبا إسحاق البليفيقي وأخذ عنه ، وتزوج ابنته. وأجاز له أبو عبد الله بن هشام الشّواش وغيره. ثم انتقل آخر عمره إلى سبتة.
شعره : نقلت من خطّ شيخنا أبي البركات قوله في غرض الوصية : [الطويل]
أليل النّوى ، هل من سبيل إلى فجر؟ |
|
ويا قلب ، كم تأسى ويا دمع ، كم تجري |
أبى القلب إلّا أن يهيم بحبّكم |
|
وأن تبرحوا إلّا القليل عن الفكر |
رحّلت عنكم لا بقلبي وإنما |
|
تركت لديكم حين ودّعتكم سرّي |
أعود بدهر الوصل من حين هجركم |
|
وربّ وصال مستعاد من الهجر |
لتلعاب (١) نفسي لست أنفق قربكم |
|
لزهدي فيكم بل حرصت على البرّ |
تقطّع أكباد عليكم صبابة |
|
فاصبر فإنّ (٢) الخير أجمع في الصبر |
وبالقلب من لا يصلح الصبر عنهم |
|
وإن كان خيرا فهو عنهم من الشّرّ |
فلولاهم ما كنت أحسب ساعة |
|
فقدتكم فيها عيانا من العمر |
ألا يا أخي فاسمع وصاتي (٣) فإنها |
|
أتتك (٤) ، لعمري ، من أخ سالم الصّدر |
يحبّك في ذات الإله ويبتغي |
|
بحبّك عند الله مدّخر الأجر |
ألا إنما التوفيق كنت من أهله (٥) |
|
مراعاة حقّ الله في السّرّ والجهر |
بتوحيده في ذاته وصفاته |
|
وأفعاله أيضا وفي النّدّ (٦) والأمر |
فثابر على القرار والأثر الذي |
|
يصحّ عن المختار والسّادة الغرّ |
وعدّ لك الخيرات عما سواها |
|
وكن بها مستمسكا أبد الدهر |
إذا يسلك الشيطان فجّا سوى الذي |
|
سلكت ولا يلفي سبيلا إلى مكر |
__________________
(١) في الأصل : «للعباب» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى معا.
(٢) في الأصل : «إن» وكذا ينكسر الوزن.
(٣) الوصاة ، بفتح الواو : الوصية. محيط المحيط (وصى).
(٤) في الأصل : «لبّتك» ، وهو ما لا معنى له.
(٥) في الأصل : «من أهله» وكذا ينكسر الوزن ، لذا جعلنا همزة القطع همزة الوصل.
(٦) في الأصل : «الندى» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى معا.
وفرّق من (١) الأجناس حاشا تقيّهم |
|
فقد ظهر الإفساد في البرّ والبحر |
ولا تنسني واذكر أخاك بدعوة |
|
فإنك منه يا أخي لعلى ذكر |
قال شيخنا أبو البركات : ومن شعره ، ومن خطّه نقلت : [الكامل]
للصالحين إلى الصلاح طريق |
|
رحبت بهم وغدت عليك تضيق |
صرفوا النفوس من الهوى عن صوبها |
|
فغدت إلى طلب النّجاة تتوق |
منها بعد أبيات :
يا قرّة العين استمع من ناصح |
|
في صدره قلب عليك شفيق |
أنت الشّقيق ولادة ولذلك لي |
|
روح لروحك في الخلوص شقيق |
لا تخدعنّك ترّهات أحدثت |
|
وخزعبلات للجهول تروق |
واعكف على القرآن دهرك واجتمع |
|
فالشّغل عنك لغيره تفريق |
إنّ الحديث وفقهه وعلومه |
|
هذا الذي للمؤمنين يليق |
واهجر بني الدنيا فإنّ بهجرهم |
|
يتضاعف الإيمان والتصديق |
والحق بقوم قد عنوا بتجارة |
|
نفقت لهم يوم القيامة سوق |
واحفظ لسانك عن أذيّة (٢) مسلم |
|
فسبابه قال الرسول فسوق |
لا تبك همّ الرزق فهو مقدّر |
|
والعبد طول حياته مرزوق |
ولترض بالرحمن ربّا حاكما |
|
ودع الفضول فمنه ضلّ فريق |
حلّوا عقال عقولهم وتحكّموا |
|
إنّ التحكم بالعقول مروق |
ولقد أتتك نصيحتي ولشمسها |
|
في أفق حبّك يا حبيب شروق |
فكن القريب مكانه من نفعها |
|
فمكان سدّتها إليك سحيق |
واصطد بباري العزم أطيار الرضا |
|
فأخوك غاية بازه التّحليق |
ولتجعل التسبيح شأنك إنه |
|
في الصّعب ممن شأنه التّصفيق |
واقنع بعلم الوحي علما ثم لا |
|
يذهب بك التّشقيق والتوفيق |
لا ترض فيه بالدنيّة ولتمت |
|
عطشا إذا لم تسق منه رحيق |
ما كلّ علم يهتدى بحصوله |
|
منه الرّكيك نعم ومنه رقيق |
__________________
(١) كلمة «من» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها ليستقيم الوزن.
(٢) في الأصل : «إذاية».
كمدارك الأصوات منها طيّب |
|
تسلو النفوس به ومنه نهيق |
وعليكم منّي تحيّة من له |
|
قلب إليكم أجمعين (١) مشوق |
وقال : ألفيت بخطه ما نصّه : وكان بعض السفهاء قد كتب إليّ بيتين من شعر وهما : [الطويل]
إليك ، أبا بكر ، رفعت وسيلتي |
|
ومثلك من تلقى إليه الوسائل |
غرقت ببحر الذّل يوما وليس لي |
|
بأرضكم إلّا اهتمامك ساحل |
وأساء المحاولة في دفعها ، فصرفته ، ولم أقف عليهما ، فضرب عليهما ، وكتب في ظهرهما : [الطويل]
حللت ، أبا بكر ، بموطن عزة |
|
فأنسيت ما قد كنت فيه من الذّلّ |
وأصلك من كبر وكن متكبّرا |
|
وكيف يطيب الفرع من ذلك الأصل؟ |
وكتبت إليه صحبة دراهم وجّهت بها إليه : [الطويل]
جفوت وما زال الجفاء (٢) سجيّة |
|
لمثلك ما إن زال تبلى بها مثلي (٣) |
وما قلت في أصلي فكذبة فاجر |
|
رأى الفرع محمودا فعاب على الأصل |
وبالإفك ما عثرت لا بحقيقة |
|
فما الكبر من شأني ولا كنت في ذلّ |
وما زلت ، والله ، الحميد مكرّما |
|
وفي نائبات الدهر للعقد والحلّ |
ولو كنت من يتّقي الله لم تكن |
|
تمرّ (٤) متى تسخط وعند الرّضا تحلي (٥) |
أما قلت أني ساحل لك عندما |
|
غرقت ببحر الذّلّ في زمن المحل؟ |
وكيف نسخت المدح بالذّمّ قبل أن |
|
تبثّ لي الشكوى وتدلي بما تدلي (٦) |
ولكنّ لؤم الطّبع يحمل أهله |
|
على الصّعب من سبّ الكرام أو النّيل |
إذا (٧) كان بعض الكبر نقصا فإنه |
|
عليك من الأوغاد يحسب في الفصل |
وما الذّلّ إلّا ما أتى بك نحونا |
|
فقيرا من التّقوى سليبا من العقل |
ومطلوبك الدّنيا فخذها خسيسة |
|
توافي خسيس النّفس والقول والفعل |
__________________
(١) في الأصل : «أجمعه» وكذا ينكسر الوزن.
(٢) في الأصل : «الجفا» وهكذا ينكسر الوزن.
(٣) في الأصل : «مثل» وهكذا ينكسر الوزن ، وأعتقد أنه خطأ في الطبع.
(٤) في الأصل : «تمد» بالدال.
(٥) في الأصل : «تحل». يقول : يضرّ متى يسخط ، وعند الرضا ينفع.
(٦) في الأصل : «تدل» بدون ياء.
(٧) في الأصل : «إن» وكذا ينكسر الوزن.
وما الجود إلّا ما أصبت مكانه |
|
ومهما فقدت الأصل لا عار في البخل |
ومثلك من يجفي ويقلب خاسئا |
|
فلست لإسداء الصّنيعة بالأهل |
ولكنني عوّدت نفسي عادة |
|
من البذل لم أعدل بها قطّ عن نذل |
فخذها ، لحاك الله ، غير مبارك |
|
لسعيك فيها يا ابن خانية النّعل |
ومثلي من يؤذى فيحتمل الأذى |
|
ولكنه قد يدرأ (١) الجهل بالجهل |
وقد قال من لا شكّ في قوله من حك |
|
مة إنما القتل أذهب للقتل (٢) |
فإن زدتنا زدنا وإن كنت نادما |
|
قبلناك أخذا في أمورك بالعدل |
ففي كل شيء لست عنك مقصّرا |
|
بما شئت من قطع وما شئت من وصل |
قال الشيخ : قول الهاجي : وأصلك من كبر ، معناه التعريض يكون سلف أبي بكر بن مهيب ، علوا في أنفسهم وتكبروا ، فثاروا بسبب ذلك بطبيرة وجهاتها ، ثار منهم عبد الرحمن جدّ أبي بكر ، ثم حسن ، ثم عامر أخوه ، وإلى هذا أشار أبو بكر بن مهيب بقوله في بعض شعره : [الكامل]
إن لم أكن ملكا فكنت رئيسا (٣)
وأنشد في الصلة الزبيرية (٤) ، قوله رحمه الله : [الكامل]
أملي من الدنيا المباحة كسرة |
|
أبقي بها رمقي ودار نابيه |
قد أضرب الزمان عن سكانها |
|
فكأنها في القفر دار خاليه |
ومن شعره في المقطوعات : [الطويل]
ترحّل صبري والولوع مقيم |
|
وصحّ اشتياقي والسّلوّ سقيم |
فياليت شعري هل أفوز بعطف من |
|
زيّنت خدّي وردا عليه أقوم (٥)؟ |
ويا جنّة قد حيل بيني وبينها |
|
بقلبي من شوقي إليك جحيم |
دخوله غرناطة : قال الشيخ : دخل غرناطة مرتين ، أخبرني بذلك الشيخ القاضي أبو الحسن بن عبيدة ، وهو بصير بأخباره ، إذ هو من أصحاب سلفه ، وممن رافق جدّه في الكتب عن بعض الأمراء مدة ، وفي الخطابة بألمريّة أخرى.
__________________
(١) في الأصل : «يدر» وكذا لا يستقيم المعنى والوزن معا. ودرأ الجهل بالجهل : دفعه دفعا شديدا.
(٢) في الأصل : «... من الحكما القتل ...» وكذا لا يستقيم الوزن والمعنى معا.
(٣) في الأصل : «ريّسا» وكذا ينكسر الوزن.
(٤) أي كتاب «صلة الصلة» لابن الزبير.
(٥) عجز هذا البيت لا يستقيم وزنه ولا معناه.
وفاته : توفي بسبتة أول ليلة من جمادى الآخرة عام خمسة وأربعين وستمائة.
محمد بن عبد الله بن داود بن خطاب الغافقي
حاله : من صلة ابن الزبير : كان كاتبا بارعا ، شاعرا مجيدا ، له مشاركة في أصول الفقه وعلم الكلام ، وغير ذلك ، مع نباهة وحسن فهم ، ذو فضل وتعقل ، وحسن سمت. وورد على غرناطة ، واستعمل في الكتابة السلطانية مدة ، وكان معلوم القدر ، معظّما عند الكافة. ثم إنه رجع إلى مرسية ، وقد ساءت أحوالها ، فأقام بها مدة ، ثم انفصل عنها ، وقد اشتدّت أحوالها ، واستقر بالعدوة بعد مكابدة.
قلت : أخبرني شيخنا أبو الحسن الجياب ، رحمه الله ، قال : كان شكس الأخلاق ، متقاطبا ، زاهيا بنفسه ؛ ابتدأ يوما كتابا مصدّرا بخطبته ، فقال فيه يصف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم «عفوة العفوة» ، وتركه لأمر عرض له ، فنظر إليه الفقيه عمر اللّوشي ، وهو كاتب المقام السلطاني ، فظنّ لقصوره أنه وهم ، وأراد «الصفوة» فأصلحه ، فلمّا عاد ونظر إليه مزّقه ، وكسر الآلة ، وقال : لا أقيم بموضع بلغ فيه الجهل إلى هذا القدر ، ويتسوّر به الإصلاح على قلم يطمع بعد في مقامه. وانصرف ، واستقرّ بتلمسان ، كاتبا عن سلطانها أبي يحيى يغمراسن بن زيّان. وزعموا أن المستنصر أبا عبد الله ابن الأمير أبي زكريا ، استقدمه على عادته في استدعاء الكتّاب المشاهير والعلماء ، وبعث إليه ألف دينار من الذهب العين ، فاعتذر وردّ عليه المال ، وكانت أشقّ ما مرّ على المستنصر ، وطهر له علوّ شأنه ، وبعد همّته.
مشيخته : روى عن القاضيين أبي عيسى بن أبي السّداد ، وأبي بكر بن محرز ، وعن الأستاذ أبي بكر محمد بن محمد ، المعروف بالقرشي ، وقرأ وسمع على هؤلاء ببلده ، وأجاز له كتابة أبو الربيع بن سالم وغيره.
شعره : من ذلك قوله : [الكامل]
اقنع بما أوتيته تنل الغنى |
|
وإذا دهتك ملمّة فتصبّر |
واعلم بأنّ الرزق مقسوم فلو |
|
رمنا زيادة ذرّة لم نقدر |
والله أرحم بالعباد فلا تسل |
|
أحدا تعش عيش الكرام وتؤجر |
وإذا سخطت لبؤس حالك مرة |
|
ورأيت نفسك قد غوت فلتبصر |
وانظر إلى من كان دونك تدّكر |
|
لعظيم نعمته عليك وتشكر |
ومما قاله في صباه : [الكامل]
يا دعوة شاك (١) |
|
ما قد دهاه من لحاظ رشاك |
ظبي تصدّى للقلوب يصيدها |
|
من ناظريه في سلاح شاك |
ورمى وإن قالوا رنا عن فاتر |
|
ساج عليه سيمة (٢) النّسّاك |
قد كنت أحذر بطشه لو أنني |
|
أبصرت منه مخايل الفتّاك |
أو ما عليه ولا عليه حاكم |
|
يحمي ثغورك أو يحوط حماك |
أو ما لجارك ذمّة مرعيّة |
|
أبذا يظلّ دم الغريب طلاك؟ |
إني استنمت إلى ظلالك ضلّة |
|
فإذا ظباؤك ماضيات ظباك |
ما لي أخاطب بانة ما أن تعي |
|
قولا ولا ترثي لدمعة باك؟ |
أكريمة الحيّين ، هل لمتيّم |
|
رحمى لديك فأرتجي رحماك؟ |
أصبتني بعد المشيب وليس من |
|
عذر لمن لم يصبه ثراك |
لولاك (٣) ما جذبت عناني لوعة |
|
والله يشهد أنني لولاك |
لمّا دعا داعي هواك أجبته |
|
من لا يجيب إذا دعت عيناك؟ |
أصليتني نار الصّدود وإنّني |
|
راض بأن أصلى ولا أسلاك |
وأبحت ما منع التشرّع من دمي |
|
بالله من أفتاك قتل فتاك؟ |
وتركت قلبي طائرا متخبّطا |
|
بشباك (٤) ختلك أو بطعن سباك |
ومنعت أجفاني لذيذ منامها |
|
كي لا يتيح لي الكرى لقياك |
ولقد عجبت وأنت جدّ بخيلة |
|
كأن (٥) أعرت الشمس بعض حلاك |
إني لأيأس من وصلك تارة |
|
لكن أعلّل مطمعي بعلاك |
أسماك أنك قد خفضت مكانتي |
|
هلّا خلعت عليّ من سيماك؟ |
إني معنّاك المتيّم فليكن |
|
حظّي لديك مناسبا مغناك |
تثني معاطفك الصّبا خوطيّة |
|
وكذا الصّبا فصباك مثل حماك |
أبعدتني منها بطعنة رامح |
|
ألذاك سمّتك الورى بسماك؟ |
أأموت من عطش وثغرك مورد |
|
فيه الحياة استودعتها فاك؟ |
هلا تني عن حلوة فلعلّة |
|
وضعت أداة النفي في اسم لماك |
__________________
(١) صدر هذا البيت مختل الوزن والمعنى.
(٢) في الأصل : «سيم» وكذا لا يستقيم الوزن.
(٣) في الأصل : «لو لا» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(٤) في الأصل : «شباك» وكذا ينكسر الوزن.
(٥) في الأصل : «أن» وكذا ينكسر الوزن.
وقال يجيب أبا عبد الله بن خميس ، رحمه الله ، عن قصيدة بعث بها إليه أولها : [الكامل]
رد في حدائق مائها مرتاد |
|
قد لذّ مورود وطاب مراد |
زرق الأسنّة دون زرق حمامها |
|
وظبى كما رنت العيون حداد |
هذه الأبيات : [الكامل]
نعم المراد لمن غدا يرتاد |
|
مرعى يرفّ نباته ومهاد |
سالت على العافي جداوله كما |
|
صالت على العادي ظبى تناد (١) |
فشددت رحل مطيتي منه إلى |
|
حيث السيادة تبتنى وتشاد |
وركبت ناجية (٢) مبارية الصّبا |
|
خضراء (٣) فوق خضارة (٤) تعتاد |
يغتادها سكانها قلّب على |
|
من كان من سكانها استبداد |
عجبا لهم أحلامهم عاديّة |
|
تمضي عليهم حكمها أعواد |
خبّر تلمسانا بأني (٥) جئتها |
|
لمّا دعاني نحوها الرّواد |
وأعاقها (٦) سمعا ولم أر حسنها |
|
إلّا أناسا حدّثوا فأجادوا (٧) |
ولربّ حسن لا ثواه ناظر |
|
ويراه لا يخفى عليه فؤاد |
ودخلتها فدخلت منها جنّة |
|
سكانها لا تخفى ولا حياد (٨) |
ورأيت فضلا باهرا ومكارما |
|
وعلا تغاضر دونها التّعداد |
أهل الرّواية والدراية والنّدى |
|
في نورهم أبدا لنا استمداد |
فهم إذا سئلوا بحار معارف |
|
ولدى السكينة والنهى أطواد |
درجاتها ينحطّ عنها غيرهم |
|
ومن الورى قتر ومنه وهاد |
فأجلّهم وأحلّهم من مهجتي |
|
بمكانة ما فوقها مزداد |
وأودّ حين أخطّ أطيب ذكرهم |
|
لو أنّ أسود مقلتيّ مداد |
__________________
(١) في الأصل : «العادي بدا ناد» وكذا لا يستقيم الوزن ولا معنى له. والعادي : العدو.
(٢) الناجية : الناقة السريعة تنجو بمن ركبها. محيط المحيط (نجا).
(٣) في الأصل : «خضرا» وكذا ينكسر الوزن. والخضراء : السماء. محيط المحيط (خضر).
(٤) الخضارة : علم للبحر غير منصرف. محيط المحيط (خضر).
(٥) في الأصل : «بأنني» وكذا ينكسر الوزن.
(٦) في الأصل : «وعاقتها» وكذا لا يستقيم المعنى ولا الوزن.
(٧) في الأصل : «فأجاد».
(٨) عجز البيت مختل الوزن والمعنى معا.
وقال يخاطبه وقد وقف على بعض قصيدة : [الكامل]
رقّت حواشي طبعك ابن خميس |
|
فهفا قريضك بي وهاج رسيسي |
ولمثله يصبو الحليم ويمتري |
|
ما للشروق به وسير العيس |
لك في البلاغة والبلاغة بعض ما |
|
تحويه من أثر محلّ رئيسي |
نظم ونثر لا تبارى فيهما |
|
مهّدت (١) ذاك وذا بعلم الطّوس |
وقال عند وفاته وربما نسبت لغيره : [الخفيف]
ربّ أنت الحليم فاغفر ذنوبي |
|
ليس يعفو عن الذنوب سواكا |
ربّ ثبّت عند السؤال لساني |
|
وأقمني على طريق هداكا |
ربّ كن لي (٢) إذا وقفت ذليلا |
|
ناكس الرأي أستحي أن أراكا |
ربّ من لي والنار قد قربت لي |
|
وأنا قد أبحت عهد حماكا؟ |
ربّ مالي من عدّة لمآلي |
|
غير أني أعددت صدق رجاكا |
ربّ أقررت أنّني (٣) عبد سوء |
|
حلمك الجمّ غرّه فعصاكا |
ربّ أنت الجواد بالخير دوما |
|
لم تزل راحما فهب لي رضاكا |
ربّ إن لم أكن لفضلك أهلا |
|
باجترائي فأنت أهل لذاكا |
نثره : ومن نثره ما خاطب به صديقين له بمرسية من مدينة إشبيلية :
كتبته ، كتب الله لكما فوزا بالحسنى ، وأجناكما من ثمرات إحسانه أكثر ما يجنى. من إشبيلية ، وحالي بحمد الله حسنة ، ونفسي بحبّ قربكما مرتهنة ، وعليّ بما لديكما من السّراوة التي جبلتما على فطرتها ، وامتزتما في الاجتلاء بغرّتها ، علم لا يدخله الشكّ ، ونسبتي إلى ودّكما الذي لبسته معلما ، وتقلّدته محرما ، لا يعبّر عن معناها إلّا بما لا يزال ولا ينفكّ. فلنثن عنان القلم عن مداده ، ونأخذ في حديث سواه. وصلنا إشبيلية ضحوة يوم الثلاثاء خامس ربيع الآخر ، ولقينا الإفانت (٤) على ميلين ، وفزنا بما ظهر من بشره واعتنائه بقرار الخاطر ، وقرة العين ، ونزلنا في الأخبية
__________________
(١) في الأصل : «تمهدّت» وكذا ينكسر الوزن.
(٢) كلمة «لي» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها ليستقيم المعنى والوزن معا.
(٣) في الأصل : «أني» وكذا ينكسر الوزن.
(٤) المراد : الإنفانت ، بالإسبانيةInfante ، وهو لقب كان يطلق على ولي عهد ملك قشتالة ، إذ كانت إشبيلية آنذاك تابعة لقشتالة لأنها سقطت في أيدي الإسبان سنة ٦٤٦ ه. وصارت عاصمة لقشتالة. راجع : الإحاطة (ج ٢ ص ٤٣١) تحقيق عنان ، حاشية رقم ٦.
خارج البلد ، موضعا يعرف بالقنب (١) ، قد تفجّر عيونا ، وجمع ماؤه وهواؤه من المحاسن فنونا ، وعرض علينا النزول في الدّيار داخل المدينة ، فرأينا المقام فيه أحد الأسباب المسعدة على حفظ الصحة المعينة ، ورغبنا عن المدينة لحرّها الوهاج ، وغبارها العجاج ، ومائها الأجاج. ولمّا ثاب من النشاط البارح ، واستقلّ من المطيّ الرازح ، طفت في خارجها وداخلها ، ووقفت على مبانيها المشيّدة ومنازلها ، ورأيت انسياب أراقشها ، وتقصيت آثار طريانتها (٢) وبراقشها ، فشاهدت من المباني العتيقة ، والمنارة (٣) الأنيقة ، ما يملأ أعين النّظّار ، وينفسح فيه مجال الاعتبار ، على أني ما رأيتها إلّا بعد ما استولى عليها الخسف ، وبان عنها الظّرف ، ونبا عنها الطّرف ، فلا ترى من مغانيها إلّا طللا دارسا ، ولا تلمح من بدائعها إلا محيّا عابسا ، لكن الرائي إذا قدّر وضعها الأول ، وركب وهمه من مبانيها ما تحلّل ، وتخيّل في ذهنه حسنها وتمثل ، تصور حسنا يدعو إلى المجون ، ويسلي عن الشجون ، لو لا أنها عرضت لأشمط راهب ، لما دان إلّا بدن ولا تقرّب بغير قارب ، وحسبي أن أصفها بما يقيها من القبول ، وأقول إنها في البلاد بمنزلة الربيع من الفصول ، ولو لا أن خاطري مقسّم ، وفكري حدّه مثلم ، لقضيت من الإطناب وطرا ، ولم أدع من معاهدها عينا إلّا وصفتها ولا أثرا.
وفاته : توفي بتلمسان يوم عاشوراء سنة ست وثمانين وستمائة.
محمد بن عبد الله بن محمد بن لب الأمي (٤)
يكنى أبا عبد الله ، ويعرف بابن الصايغ ، بالصاد المهملة ، والغين المعجمة ، من أهل ألمريّة.
حاله : من خطّ (٥) شيخنا أبي البركات في «الكتاب المؤتمن على أنباء أبناء الزمن» : كان سهلا ، سلس القياد ، لذيذ العشرة ، دمث الأخلاق ، ميّالا إلى الدّعة ، نفورا عن النّصب ، يركن إلى فضل نباهة وذكاء ، يحاسب بها (٦) عند التحصيل والدراسة والدّؤوب على الطلب ، من رجل يجري من الألحان على مضمار لطيف ،
__________________
(١) القنب : بالإسبانيةEl Campo ، وهو الحقل أو الميدان.
(٢) طريانة : بالإسبانيةTriana وهي ضاحية بإشبيلية على نهر الوادي الكبير.
(٣) هي منارة المسجد الجامع بإشبيلية ، وتعرف اليوم باسم La Giralda.
(٤) ترجمة ابن لب الأمي في الكتيبة الكامنة (ص ٨٨) وبغية الوعاة (ص ٦٠) والدرر الكامنة (ج ٤ ص ١٠٣) ونفح الطيب (ج ٨ ص ٣٥٨ وما بعدها).
(٥) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٥٩).
(٦) في النفح : «بهما».
ولم يكن له صوت رخيم ، يساوق (١) انطباعه في التّلحين ، يخبر (٢) ذلك بالأوتار. وحاول من ذلك بيده مع أصحابه ، ما لاذ به الظرفاء منهم. واستعمل بدار الأشراف بألمرية ، فأحكم تلك الطريقة في أقرب زمان ، وجاء زمامه يروق من ذلك العمل شأنه (٣). ثم نهضت به همّته إلى أرفع من ذلك ، فسار إلى غرناطة ، وقرأ (٤) بها العربية وغيرها ، وانخرط في سلك نبهاء الطلبة لأدنى مدة. ثم رحل إلى بلاد المشرق في حدود العشرين وسبعمائة ، فلم يتجاوز القاهرة لموافقة هوائها (٥) علّة كان يشكوها ، وأخذ في إقراء العربية بها ، وعرف بها إلى أن صار يدعى بأبي عبد الله النحوي. قال شيخنا المذكور : ورأى في صغره فأرة أنثى ، فقال : هذه قرينة ، فلقّب بذلك ، وصار هذا اللقب أغلب عليه (٦) من اسمه ومعرفته.
وجرى ذكره في التاج بما نصه (٧) : لجّ معرفة لا يغيض (٨) ، وصاحب فنون يأخذ فيها ويفيض. نشأ ببلده مشمّرا عن ساعد اجتهاده ، وشارك (٩) في قنن (١٠) العلم ووهاده ، حتى أينع روضه ، وفهق (١١) حوضه. ثم أخذ في إراحة (١٢) ذاته ، وشام بارقة (١٣) لذّاته ، ثم سار في البطالة سير الجموح ، وواصل الغبوق بالصّبوح ، حتى قضى وطره ، وسيم بطره ، وركب الفلك ، وخاض اللّجج الحلك ، واستقرّ بمصر على النعمة العريضة ، على شكّ في قضائه (١٤) الحجّة العريضة ، وهو اليوم (١٥) بمدرستها الصالحية ، نبيه المكانة ، معدود في أهل العلم والديانة.
مشيخته : قرأ بألمرية على المكتّب أبي عبد الله الميرقي ، وأخذ عن شيخ الجماعة أبي الحسن بن أبي العيش ، وقرأ بالحضرة على الخطيب أبي الحسن (١٦) القيجاطي وغيره. وأخذ بالقاهرة عن الأستاذ أبي حيّان ، وانتفع به وبجاهه.
__________________
(١) يساوق : يجاري ويوازي. لسان العرب (سوق).
(٢) في النفح : «فجبر».
(٣) في النفح : «من شأنه».
(٤) في النفح : «فقرأ».
(٥) في الأصل : «هواها» والتصويب من النفح.
(٦) كلمة «عليه» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها من النفح.
(٧) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٥٨ ـ ٣٥٩).
(٨) لا يغيض : لا ينضب. لسان العرب (غيض).
(٩) في النفح : «وسائرا».
(١٠) القنن : جمع قنّة وهي القمّة. لسان العرب (قنن).
(١١) فهق : امتلأ. لسان العرب (فهق).
(١٢) في النفح : «راحة».
(١٣) في النفح : «بارق».
(١٤) في النفح : «في قضاء حجة الفريضة».
(١٥) كلمة «اليوم» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها من النفح.
(١٦) في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٥٩): «على الخطيب أبي علي القيجاطي وطبقته».