أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي
المحقق: محمّد عبدالقادر عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-2943-0
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦٣٠
ونحن جندك يوم النعف من أحد |
|
إذ حزبت بطرا احزابها مضر |
فما ونينا ولا خمنا وما خبروا |
|
منا عثارا وكل الناس قد عثروا |
فدخل سعد بن عبادة على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله ، إن هذا الحى من الأنصار قد وجدوا عليك لما صنعت فى هذا الفيء الذي أصبت ، قسمت فى قومك وأعطيت عطايا عظاما فى قبائل العرب ولم يك فى هذا الحى من الأنصار منها شيء. قال : «فأين أنت من ذلك يا سعد؟» قال : يا رسول الله ، ما أنا إلا من قومى. قال :«فاجمع لى قومك فى هذه الحظيرة» ، فخرج سعد فجمع الأنصار فى تلك الحظيرة ، فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا وجاء آخرون فردهم ، فلما اجتمعوا له أعلمه سعد بهم فأتاهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : «يا معشر الأنصار ، ما قالة بلغتنى عنكم وجدة وجدتموها على فى أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله ، وعالة فأغناكم الله ، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟» قالوا : بل الله ورسوله أمن وأفضل ، ثم قال : «ألا تجيبوننى يا معشر الأنصار؟» قالوا : بما ذا نجيبك يا رسول الله ، لله ولرسوله المن والفضل ، فقال صلوات الله عليه : «أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم : أتيتنا مكذبا فصدقناك ، ومخذولا فنصرناك ، وطريدا فآويناك ، وعائلا فآسيناك ، أوجدتم يا معشر الأنصار فى أنفسكم فى لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى رحالكم ، فو الذي نفس محمد بيده لو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار ، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار» ، فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا : رضينا برسول الله صلىاللهعليهوسلم قسما وحظا. ثم انصرف رسول الله صلىاللهعليهوسلم وتفرقوا (١).
ثم خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الجعرانة معتمرا ، وأمر ببقايا الفيء فحبس بمجنة بناحية مر الظهران ، فلما فرغ من عمرته انصرف راجعا إلى المدينة واستخلف عتاب بن أسيد على مكة وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس فى الدين ويعلمهم القرآن ، وأتبع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ببقايا الفيء (٢).
ولما استعمل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عتابا على مكة رزقه فى كل يوم درهما ، فقام عتاب
__________________
(١) انظر الحديث فى : صحيح مسلم (٢ / ٧٣٥ ، ٧٣٦ ، ١٣٥) ، صحيح البخاري (٧ / ٤٣٣٧) ، مسند الإمام أحمد (٣ / ٧٦ ، ٧٧) ، مجمع الزوائد للهيثمى (١٠ / ٢٩).
(٢) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٤ / ٣٦٨) ، الحاكم فى المستدرك (٣ / ٣٧٠).
خطيبا فى الناس فقال : أيها الناس ، أجاع الله كبد من جاع على درهم ، فقد رزقنى رسول الله صلىاللهعليهوسلم درهما كل يوم فليست بى حاجة إلى أحد (١).
وكانت عمرة رسول الله صلىاللهعليهوسلم فى ذى القعدة ، وقدم المدينة فى بقيته أو فى أول ذى الحجة (٢).
وحج الناس تلك السنة على ما كانت العرب تحج عليه وحج عتاب بن أسيد بالمسلمين فيها وهى سنة ثمان ، وأقام أهل الطائف على شركهم وامتناعهم فى طائفهم ما بين ذى القعدة إذ انصرف رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى رمضان سنة تسع.
ولما قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم من سفره هذا منصرفا عن الطائف كتب بجير بن زهير بن أبى سلمى إلى أخيه كعب بن زهير يخبره أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه ، وأن من بقى من شعراء قريش ابن الزبعرى وهبيرة بن أبى وهب قد هربوا فى كل وجه ، فإن كانت لك فى نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فإنه لا يقتل أحدا جاء تائبا ، وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك من الأرض.
فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت به الأرض وأشفق على نفسه وأرجف به من كان فى حاضره من عدوه ، فقالوا : هو مقتول ، فلما لم يجد من شيء بدا قال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ويذكر فيها خوفه وإرجاف الوشاة به ، ثم خرج حتى قدم المدينة ، فنزل على رجل من جهينة كانت بينه وبينه معرفة ، فغدا به إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين صلى الصبح ، فصلى معه ثم أشار له إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : هذا رسول الله ، فقم إليه فاستأمنه ، فذكر أنه قام إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين جلس إليه فوضع يده فى يده ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم لا يعرفه ، فقال : يا رسول الله ، إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما ، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «نعم» ، قال : أنا يا رسول الله كعب بن زهير ، فوثب عليه رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله ، دعنى وعدو الله أضرب عنقه ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «دعه عنك ، فإنه قد جاءنا تائبا نازعا» (٣). فغضب كعب على الأنصار لما صنع به صاحبهم ومدح المهاجرين دونهم إذ لم يتكلم فيه رجل منهم إلا بخير.
__________________
(١) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٤ / ٣٦٨).
(٢) ذكره مسلم فى صحيحه كتاب الحج (٢ / ٢١٧ ، ٩١٦) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (٤ / ٣٦٨) ، أبو داود (١٩٩٤) ، الترمذى (٨١٥) ، أحمد فى المسند (١ / ٢٤٦ ، ٣٢١).
(٣) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٤ / ٣٦٩) ، مستدرك الحاكم (٣ / ٥٨٣) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٩ / ٣٩٣ ، ٣٩٤).
والقصيدة التي قالها كعب فى ذلك وذكر أنه أنشدها رسول الله صلىاللهعليهوسلم فى المسجد :
بانت سعاد فقلبى اليوم مبتول |
|
متيم عندها لم يجز مكبول |
وما سعاد غداة البين إذ برزت |
|
إلا أغن غضيض الطرف مكحول (١) |
تجلو عوارض ذى ظلم إذا ابتسمت |
|
كأنه منهل بالراح معلول (٢) |
شحت بذى شبم من ماء محنية |
|
صاف بأبطح أضحى وهو مشمول (٣) |
تنفى الرياح القذى عنه وأفرطه |
|
من صوب غادية بيض يعاليل (٤) |
وبلمها خلة لو أنها صدقت |
|
بوعدها أو لو أن النصح مقبول |
لكنها خلة قد سيط من دمها |
|
فجع وولع وإخلاف وتبديل |
فما تدوم على حال تكون بها |
|
كما تلون فى أثوابها الغول (٥) |
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا |
|
وما مواعيدها إلا الأباطيل |
فلا يغرنك ما منت وما وعدت |
|
إن الأمانى والأحلام تضليل (٦) |
أمست سعاد بأرض لا تبلغها |
|
إلا العتاق النجيبات المراسيل |
ولا يبلغها إلا عذافرة |
|
فيها على الأبن إرقال وتبغيل (٧) |
من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت |
|
عرضتها طامس الأعلام مجهول (٨) |
__________________
(١) الأغن : الصبى الصغير الذي فى صوته غنة ، وهى صوت يخرج من الخيشوم. غضيض الطرف : أى فاتر الجفن.
(٢) العوارض : الأسنان. ذى ظلم : الظلم ماء الأسنان وبريقها. الراح : اسم من أسماء الخمر.
(٣) شجت : مزجت. ذى شبم : أى الماء البارد. المجنية : منتهى الوادى.
(٤) القذى : أراد ما يقع فى الماء من تبن أو غيره. الصوب : المطر. غادية : السحابة التي تمطر بالغدو.
اليعاليل : هو رغوة الماء.
(٥) ذكر فى السيرة بعد هذه البيت بيت آخر لم يذكره هنا وهو :
وما تمسك بالعهد الذي زعمت |
|
إلا كما يمسك الماء الغرابيل |
انظر : السيرة (٤ / ١٣٢).
(٦) ذكر فى السيرة هذا البيت قبل البيت الذي يسبقه هنا. وهناك بيت آخر لم يذكره هنا ورد بعدهما وهو :
أرجو وآمل أن تدنو مودتها |
|
وما إخال لدينا منك تنويل |
انظر : السيرة (٤ / ١٣٢).
(٧) العذافرة : بضم العين هى الناقة الضخمة. الأين : الفتور والإعياء. الإرقال : ضرب من السير.
(٨) ذكر فى السيرة بعد هذا البيت بيت آخر لم يذكره هنا وهو :
ترمى النجاد بعينى مفرد لهق |
|
إذا توقدت الحزان والميل |
انظر : السيرة (٤ / ١٣٣).
ضخم مقلدها فعم مقيدها |
|
فى خلقها عن بنات الفحل تفضيل (*) |
حرف أخوها أبوها من مهجنة |
|
وعمها خالها قوداء شمليل (*) |
كأن أوب ذراعيها وقد عرقت |
|
وقد تلفع بالقور العساقيل (*) |
أوب يدى فاقد شمطاء معولة |
|
قامت فجاوبها نكد مثاكيل |
نواحة رخوة الضبعين ليس لها |
|
لما نعى بكرها الناعون معقول |
تفرى اللبان بكفيها ومدرعها |
|
مشقق عن تراقيها رعابيل |
تمشى الغواة بجنبيها وقولهم |
|
إنك يا ابن أبى سلمى لمقتول |
وقال كل صديق كنت آمله |
|
لا ألهينك إنى عنك مشغول |
فقلت خلوا طريقى لا أبا لكم |
|
فكل ما قدر الرحمن مفعول |
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته |
|
يوما على آلة حدباء محمول |
نبئت أن رسول الله أوعدنى |
|
والعفو عند رسول الله مأمول |
مهلا هداك الذي أعطاك نافلة ال |
|
قرآن فيها مواعيظ وتفصيل |
لا تأخذنى بأقوال الوشاة ولم |
|
أذنب ولو كثرت فى الأقاويل |
__________________
(*) ذكر فى السيرة بعد هذا البيت بيتان لم يذكرهم هنا وهما :
غلباء وجناء علكوم مذكرة |
|
فى دفها سعة قدامها ميل |
وجلدها من أطوم ما يؤيسه |
|
طلح بضاحية المتنين مهزول |
انظر : السيرة (٢ / ١٣٣).
(*) ذكر فى السيرة بعد هذا البيت أبيات أخرى لم يذكره هنا وهى :
يمشى القراد عليها ثم يزلفه |
|
منها لبان وأقراب زهاليل |
عيرانة قذفت بالنحض عن عرض |
|
مرفقها عن بنات الزور مفتول |
كأنما فات عينيها ومذبحها |
|
من خطمها ومن اللحيين برطيل |
تمر مثل عسيب النخل ذا خصل |
|
فى غارز لم تخونه الأحاليل |
قنواء فى حرتيها للبصير بها |
|
عتق مبين وفى الخدين تسهيل |
تخدى على يسرات وهى لا حقة |
|
ذوابل مسهن الأرض تحليل |
سمر العجايات يتركن الحصى زيما |
|
لم يقهن رءوس الأكم تنعيل |
انظر : السيرة (٤ / ١٣٤ ، ١٣٥).
(*) ذكر فى السيرة بعد هذا البيت بيتان لم يذكرهم هنا وهما :
يوما يظل به الحرباء مصطخدا |
|
كأن ضاحية بالشمس مملول |
وقال للقوم حاديهم وقد جعلت |
|
ورق الجنادب يركضن الحصاقيلوا |
انظر : السيرة (٤ / ١٣٥).
لقد أقوم مقاما لو يقوم به |
|
يرمى ويسمع ما قد أسمع الفيل |
[لظل ترعد من خوف بوادره |
|
إن لم يكن من رسول الله تنويل |
حتى وضعت يمينى ما أنازعها |
|
فى كف ذى نقمات قوله القيل |
فلهو أخوف عندى إذ أكلمه |
|
وقيل إنك منسوب ومسئول |
من ضيغم بضراء الأرض مخدره |
|
فى بطن عثر غيل دونه غيل |
إن الرسول لنور يستضاء به |
|
مهند من سيوف الله مسلول |
فى عصبة من قريش قال قائلهم |
|
ببطن مكة لما أسلموا زولوا |
زالوا فما زال انكاس ولا كشف |
|
عند اللقاء ولا ميل معازيل |
يمشون مشى الجمال الزهر يعصمهم |
|
ضرب إذا عرد السود التنابيل |
شم العرانين أبطال لبوسهم |
|
من نسج داود فى الهيجا سرابيل |
بيض سوابغ قد شكت لها حلق |
|
كأنها حلق القفعاء مجدول |
ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم |
|
قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا |
لا يقع الطعن إلا فى نحورهم |
|
ليس لهم عن حياض الموت تهليل |
ويروى أن كعبا لما أنشد رسول الله صلىاللهعليهوسلم :
إن الرسول لنور يستضاء به |
|
مهند من سيوف الله مسلول |
أشار رسول الله صلىاللهعليهوسلم بيده إلى الخلق : «أى اسمعوا». تعجبا بقوله.
ومن مستجاد شعر كعب بن زهير قوله أيضا يمدح النبيّ صلىاللهعليهوسلم :
تخذى به الناقة الأدماء معتجرا |
|
بالبرد كالبدر جلى ليلة الظلم |
وفى عطافيه أو أثناء بردته |
|
ما يعلم الله من دين ومن كرم |
ولما قال كعب فى لاميته المتقدمة : «إذا عرد السود التنابيل» ، يريد الأنصار وخص المهاجرين بمدحته دونهم غضب عليه الأنصار فقال بعد أن أسلم يمدحهم ويذكر بلاءهم مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم وموضعهم من اليمن ، ويقال : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم حضه على ذلك وقال لما أنشده القصيدة المتقدمة : «لو لا ذكرت الأنصار بخير فإن الأنصار لذلك أهل؟» (١) ، فقال كعب هذه الأبيات :
من سره كرم الحياة فلا يزل |
|
فى مقنب من صالح الأنصار |
ورثوا المكارم كابرا عن كابر |
|
إن الخيار هم بنو الأخيار |
__________________
(١) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٤ / ٣٧٤).
المكرهين السمهرى بأذرع |
|
كسوالف الهندى غير قصار |
والناظرين بأعين محمرة |
|
كالجمر غير كليلة الإبصار |
والبائعين نفوسهم لنبيهم |
|
للموت يوم تعانق وكرار |
يتطهرون يرونه نسكا لهم |
|
بدماء من علقوا من الكفار |
دربوا كما دربت ببطن خفية |
|
غلب الرقاب من الأسود ضوارى |
وإذا حللت ليمنعوك إليهم |
|
أصبحت عند معاقل الأغفار |
ضربوا عليا يوم بدر ضربة |
|
دانت لوقعتها جميع نزار |
لو يعلم الأقوام علمى كله |
|
فيهم لصدقنى الذين أمارى |
قوم إذا خوت النجوم فإنهم |
|
للطارقين النازلين مقارى |
فى الغر من غسان فى جرثومة |
|
أعيت محافرها على المحفار (١٠) |
وكان عبد الله بن الزبعرى السهمى شاعر قريش ولسانها فى مناقضة حسان بن ثابت وغيره من شعراء رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، له فى ذلك أشعار كثيرة ذكرها ابن إسحاق فى مواضعها وأضربنا نحن عنها وعن سائر أشعار الجاهلية لما فيها من تنقص الإسلام والنيل من أهله ، فلما كان عام الفتح فر ابن الزبعرى إلى نجران فرماه حسان بن ثابت ببيت واحد ما زاد عليه وهو :
لا تعدمن رجلا أحلك بغضه |
|
نجران فى عيش أحذ لئيم |
فلما بلغ ذلك ابن الزبعرى (١) خرج إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأسلم ، وقال فى ذلك أشعارا منها فى أبيات (٢) :
يا رسول الله المليك إن لسانى |
|
راتق ما فتقت إذ أنا بور |
إذ أبارى الشيطان فى سنن الغى |
|
ومن مال ميله مثبور |
وقال أيضا حين أسلم (٣) :
منع الرقاد بلابل وهموم |
|
والليل معتلج الرواق بهيم |
__________________
(١٠) انظر الأبيات فى : السيرة (٤ / ١٣٨ ـ ١٣٩).
(١) هو عبد الله بن الزبعرى بن قيس بن عدى بن سعد بن سهم القرشى السهمى. انظر ترجمته فى :الاستيعاب الترجمة رقم (١٥٥١) ، الإصابة الترجمة رقم (٤٦٩٧) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٩٤٦).
(٢) انظر الأبيات فى : السيرة (٤ / ٥٤).
(٣) انظر الأبيات فى : السيرة (٤ / ٥٥) ، وقال ابن هشام : وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها له.
مما أتانى أن أحمد لامنى |
|
فيه فبت كأننى محموم |
يا خير من حملت على أوصالها |
|
عيرانة سرح اليدين عشوم |
إنى لمعتذر إليك من الذي |
|
أسديت إذ أنا فى الضلال أهيم |
أيام تامرنى بأغوى خطة |
|
سهم وتأمرنى بها مخزوم |
وأمد أسباب الردى ويقودنى |
|
أمر الغواة وأمرهم مشئوم |
فاليوم آمن بالنبى محمد |
|
قلبى ومخطئ هذه محروم |
مضت العداوة فانقضت أسبابها |
|
ودعت أواصر بيننا وحلوم |
فاغفر فدى لك والداى كلاهما |
|
زللى فإنك راحم مرحوم |
وعليك من علم المليك علامة |
|
نور أغر وخاتم مختوم |
أعطاك بعد محبة برهانه |
|
شرفا وبرهان الإله عظيم |
ولقد شهدت بأن دينك صادق |
|
حق وأنك فى العباد جسيم |
والله يشهد أن أحمد مصطفى |
|
متقبل فى الصالحين كريم |
فرم علا بنيانه من هاشم |
|
فرع تمكن فى الذرى وأروم |
غزوة تبوك (١)
وأقام رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالمدينة بعد منصرفه عن عمرة الجعرانة ما بين ذى الحجة إلى رجب ثم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم ، وذلك فى زمان عسرة من الناس وشدة من الحر وجدب من البلاد ، وحين طابت الثمار والناس يحبون المقام فى ثمارهم وظلالهم ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه.
وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم قل ما يخرج فى غزوة إلا ورى عنها وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يعمد إليه ، إلا ما كان من غزوة تبوك ، فإنه بينها للناس لبعد الشقة وشدة الزمان وكثرة العدو الذي يصمد له ، ليتأهب الناس لذلك أهبته ، فأمر الناس بالجهاز ، وأخبرهم أنه يريد الروم. فقال صلىاللهعليهوسلم ذات يوم وهو فى جهازه للجد بن قيس أحد بنى سلمة : «يا جد هل لك العام فى جلاد بنى الأصفر؟» فقال : يا رسول الله ، أو تأذن ولا تفتنى ، فو الله لقد عرف قومى أنه ما من رجل أشد عجبا بالنساء منى ، وإنى أخشى إن رأيت
__________________
(١) راجع هذه الغزوة فى : المنتظم لابن الجوزى (٣ / ٣٦٢) ، المغازى للواقدى (٣ / ٩٨٩) ، طبقات ابن سعد (٢ / ١ / ١١٨ ، ١١٩) ، تاريخ الطبرى (٣ / ١٠٠) ، البداية والنهاية (٥ / ٢) ، الكامل (٢ / ١٤٩).
نساء بنى الأصفر أن لا أصبر. فأعرض عنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقال : «قد أذنت لك» ، ففيه نزلت : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) [التوبة : ٤٩] (١) أى إن كان إنما خشى الفتنة من نساء بنى الأصفر وليس ذلك به فما سقط فيه من الفتنة أكبر لتخلفه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم والرغبة بنفسه عن نفسه ، يقول : وإن جهنم لمن ورائه (٢).
وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض : لا تنفروا فى الحر : زهادة فى الجهاد وشكا فى الحق وإرجافا بالرسول ، فأنزل الله فيهم : (وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [التوبة : ٨١ ، ٨٢].
وبلغ رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن ناسا من المنافقين يجتمعون فى بيت سويلم اليهودى ، يثبطون الناس عنه فى غزوة تبوك ، فبعث إليهم طلحة بن عبيد الله فى نفر من أصحابه وأمره أن يحرق عليهم البيت وفعل طلحة ، فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت فانكسرت رجله واقتحم أصحابه فأفلتوا (٣) فقال الضحاك فى ذلك :
وكادت وبيت الله نار محمد |
|
يشيط بها الضحاك وابن أبيرق |
وظلت وقد طبقت كبس سويلم |
|
أنوء على رجلى كسيرا ومرفقى |
سلام عليكم لا أعود لمثلها |
|
أخاف ومن تشمل به النار يحرق |
ثم إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم جد فى سفره وأمر الناس بالجهاز والانكماش ، وحض أهل الغنى على النفقة والحملان فى سبيل الله ، فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا ، وأنفق عثمان بن عفان فى ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اللهم ارض عن عثمان فإنى عنه راض» (٤).
ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهم البكاءون وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم ، سالم بن عمير (٥) ، وعلبة بن زيد (٦) ، وأبو ليلى بن كعب (٧) ، وعمرو
__________________
(١) انظر الحديث فى : زاد المسير لابن الجوزى (٣ / ٣٠٥) ، دلائل النبوة للبيهقى (٥ / ٢١٣).
(٢) انظر الحديث فى : تاريخ الطبرى (٢ / ١٨٢).
(٣) ذكره ابن كثير فى التاريخ (٥ / ٣).
(٤) انظر الحديث فى : كنز العمال للمتقى الهندى (١١ / ٥٩٣ / ٣٢٨٤١) ، جامع الجوامع للسيوطى (١ / ٣٨١).
(٥) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٨٨٥) ، الإصابة الترجمة رقم (٣٠٥٣) ، أسد الغابة ـ
ابن حمام ، وهرمى بن عبد الله (١) ، وعبد الله بن مغفل المزنى (٢) ، ويقال : عبد الله بن عمرو المزنى (٣) ، وعرباض بن سارية الفزارى (٤) ، فاستحملوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهم أهل حاجة فقال : «لا أجد ما أحملكم عليه» ، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون (٥).
فذكر أن ابن يامين بن عمير النضرى لقى أبا ليلى بن كعب وابن مغفل وهما يبكيان فقال : ما يبكيكما؟ قالا : جئنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه فأعطاهما ناضحا له فارتحلاه وزودهما شيئا من تمر فخرجنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم (٦). وجاء المعذرون من الأعراب فاعتذروا إليه ، فلم يعذرهم الله ، وذكر أنهم نفر من بنى غفار (٧).
__________________
ـ لترجمة رقم (١٩٠٠) ، الطبقات الكبرى (٣ / ٤٨٠) ، الوافى بالوفيات (١٥ / ٨٩) ، تاريخ الإسلام (١ / ٦٠) ، تاريخ اليعقوبى (٢ / ٢٧).
(٦) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٠٥٦) ، الإصابة الترجمة رقم (٥٦٧٣) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٣٧٦١).
(٧) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٣١٨٤) ، الإصابة الترجمة رقم (١٠٤٧٧).
(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٧٣٧) ، الإصابة الترجمة رقم (٩٠٤٨) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٥٣٦٥).
(٢) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٦٨٥) ، الإصابة الترجمة رقم (٤٩٨٨) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٣٢٠٢) ، تاريخ ابن معين (٣٣٣) ، سير أعلام النبلاء (٤ / ٢٠٦) ، الوافى بالوفيات (٧ / ٦٢٨) ، تهذيب الكمال (٧٤٥) ، تهذيب التهذيب (٦ / ٤٢) ، خلاصة تذهيب الكمال (٢١٥ ، ٢١٦) ، شذرات الذهب (١ / ٦٥).
(٣) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٦٤٠) ، الإصابة الترجمة رقم (٤٨٧٣) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٣٠٩٧) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٣٢٦) ، تهذيب التهذيب (٥ / ٣٤١) ، تهذيب الكمال (٢ / ٧١٧) ، تاريخ الإسلام (٣ / ١٠٧) ، الثقات (٣ / ٢٣٨).
(٤) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٠٤٩) ، الإصابة الترجمة رقم (٥٥١٧) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٣٦٣٠) ، معرفة الرجال (٢ / ٢٠٣) ، سير أعلام النبلاء (٣ / ٤١٩) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (٢٣١) ، المعين وطبقات المحدثين (٢٤) ، مرآة الجنان (١ / ١٥٦) ، تقريب التهذيب (٢ / ١٧) ، خلاصة تذهيب التهذيب (٢٦٩) ، شذرات الذهب (١ / ٨٢).
(٥) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٥ / ٢١٨) ، أسباب النزول (٢١٢) ، تفسير الطبرى (١٠ / ١٤٥ ، ١٤٦) ، فتح القدير للشوكانى (٢ / ٥٥١).
(٦) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٥ / ٥) ، الطبرى فى تاريخه (٢ / ١٨٢).
(٧) انظر : السيرة (٤ / ١٤٣).
ثم استتب برسول الله صلىاللهعليهوسلم سفره ، وأجمع السير وتخلف عنه نفر من المسلمين عن غير شك ولا ارتياب ، منهم كعب بن مالك أخو بنى سلمة ومرارة بن الربيع أخو بنى عمرو بن عوف ، وهلال بن أمية أخو بنى واقف ، وأبو خيثمة أخو بنى سالم ، وكانوا نفر صدق لا يتهمون فى إسلامهم.
فلما خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع وضرب عبد الله بن أبى معه على حده عسكره أسفل منه نحو ذباب (١) ، وكان فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين فلما سار رسول الله صلىاللهعليهوسلم تخلف عنه عبد الله بن أبى فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب.
وخلف رسول الله صلىاللهعليهوسلم على بن أبى طالب على أهله ، وأمره بالإقامة فيهم ، فأرجف به المنافقون ، وقالوا : ما خلفه إلا استثقالا له ، وتخففا منه ، فلما قالوا ذلك أخذ علىّ سلاحه ثم خرج حتى أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو نازل بالجرف فقال : يا نبى الله ، زعم المنافقون أنك إنما خلفتنى أنك استثقلتنى وتخففت منى ، فقال : «كذبوا ولكنى خلفتك لما تركت ورائى ، فارجع فاخلفنى فى أهلى وأهلك ، أفلا ترضى يا علىّ أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى» (٢). فرجع علىّ إلى المدينة رضى الله عنه ومضى رسول الله صلىاللهعليهوسلم على سفره.
ثم إن أبا خيثمة بعد أن سار رسول الله صلىاللهعليهوسلم أياما رجع إلى أهله فى يوم حار ، فوجد امرأتين له فى عريشين لهما فى حائطه قد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت له فيه ماء وهيأت له طعاما ، فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له ، فقال : رسول الله صلىاللهعليهوسلم فى الضح والريح والحر ، وأبو خيثمة فى ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء فى ماله مقيم! ما هذا بالنصف ثم قال : والله لا أدخل على عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلىاللهعليهوسلم فهيئا لى زادا ففعلتا ثم قدم ناضحه فارتحله ثم خرج فى طلب رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى أدركه حين نزل بتبوك.
وقد كان أدرك أبا خيثمة فى الطريق عمير بن وهب الجمحى يطلب رسول الله صلىاللهعليهوسلم
__________________
(١) ذباب : ذكره الحازمى بكسر أوله وباءين وقال : جبل بالمدينة له ذكر فى المغازى والأخبار ، وعن العمرانى : ذباب بوزن الذباب الطائر جبل بالمدينة. انظر : معجم البلدان (٣ / ٣).
(٢) انظر الحديث فى : صحيح البخاري كتاب المغازى باب غزوة تبوك (٧ / ٤٤١٦) ، صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضائل علىّ (٤ / ٣١ ، ٣٢) ، دلائل النبوة للبيهقى (٥ / ٢٢٠) ، تاريخ ابن كثير (٥ / ٧).
فترافقا ، حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير : إن لى ذنبا فلا عليك أن تخلف عنى حتى آتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ففعل حتى إذا دنا من رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو نازل بتبوك قال الناس : هذا راكب على الطريق مقبل. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كن أبا خيثمة». قالوا : هو والله أبو خيثمة يا رسول الله ، فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أولى لك يا أبا خيثمة!» ثم أخبره خبره فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم خيرا ودعا له بخير (١). ويروى أن أبا خيثمة! قال فى ذلك (٢) :
ولما رأيت الناس فى الدين نافقوا |
|
أتيت التي كانت أعف وأكرما |
وبايعت باليمنى يدى لمحمد |
|
فلم أكتسب إثما ولم أغش محرما |
تركت خضيبا فى العريش وصرمة |
|
صفايا كراما بسرها قد تحمما |
وكنت إذا شك المنافق أسمحت |
|
إلى الدين نفسى شطره حيث يميما |
وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين مر بالحجر نزلها واستقى الناس من بئرها فلما راحوا قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا تشربوا من مائها ولا يتوضأ منه للصلاة وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ، ولا تأكلوا منه شيئا ، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له».
ففعل الناس ما أمرهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، إلا أن رجلين من بنى ساعدة خرج أحدهما لحاجته وخرج الآخر فى طلب بعير له ، فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه ، وأما الذي ذهب فى طلب بعيره فاحتمله الريح حتى طرحته بجبلى طىء ، فأخبر بذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : ألم أنهكم أن يخرج أحد منكم إلا ومعه صاحبه؟ ثم دعا للذى أصيب على مذهبه فشفى ، وأما الذي وقع بجبلى طىء ، فإن طيئا أهدته لرسول الله صلىاللهعليهوسلم حين قدم المدينة (٣).
ولما مر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالحجر سجى ثوبه على وجهه ، واستحث راحلته ثم قال : «لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون خوفا أن يصيبكم ما أصابهم» (٤).
فلما أصبح الناس ولا ماء معهم شكوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فدعا فأرسل الله سبحانه سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء. قال محمود بن لبيد (٥) :
__________________
(١) انظر الحديث فى : صحيح مسلم (٤ / ٥٣ / ٢١٢٠ ـ ٢١٢٢) ، دلائل النبوة للبيهقى (٥ / ٢٢٣) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ١٩٣).
(٢) انظر الأبيات فى : السيرة (٤ / ١٤٦).
(٣) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٥ / ٢٤٠) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ١١).
(٤) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٦ / ٣٣٨١) ، صحيح مسلم (٤ / ٣٩ ، ٢٢٨٦).
(٥) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٣٧٥) ، الإصابة الترجمة رقم (٧٨٣٨) ، أسد ـ
لقد أخبرنى رجال من قومى عن رجل من المنافقين معروف نفاقه كان يسير مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم حيث سار ، فلما كان من أمر الماء بالحجر ما كان ودعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين دعا فأرسل الله الصحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس قالوا : أقبلنا عليه نقول : ويحك! هل بعد هذا شيء؟ قال : سحابة مارة. قيل لمحمود : هل كان الناس يعرفون النفاق فيهم؟ قال : نعم ، والله إن كان الرجل ليعرفه من أخيه ومن أبيه ومن عمه وفى عشيرته ثم يلبس بعضهم بعضا على ذلك (١).
ثم إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سار حتى إذا كان ببعض الطريق ضلت ناقته فخرج أصحابه فى طلبها وعند رسول الله صلىاللهعليهوسلم رجل من أصحابه يقال له : عمارة بن حزم وكان عقبيا بدريا وهو عم بنى عمرو بن حزم وكان فى رحله زيد بن اللصيت القينقاعى ، وكان منافقا ، فقال زيد وهو فى رحل عمارة وعمارة عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أليس محمد يزعم أنه نبى ويخبركم عن خبر السماء وهو لا يدرى أين ناقته ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعمارة عنده : «إن رجلا قال : هذا محمد يخبركم أنه نبى ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء وهو لا يبدى أين ناقته وإنى والله لا أعلم إلا ما علمنى الله وقد دلنى الله عليها وهى فى الوادى من شعب كذا وكذا وقد حبستها شجرة بزمامها فانطلقوا حتى تأتونى بها» ؛ فذهبوا فجاءوا بها فرجع عمارة بن حزم إلى رحله فقال : والله لعجب من شيء حدثناه رسول الله صلىاللهعليهوسلم آنفا عن مقالة قائل أخبره الله عنه. للذى قال زيد بن اللصيت. فقال رجل ممن كان فى رحل عمارة ولم يحضر رسول الله صلىاللهعليهوسلم : زيد والله قال هذه المقالة قبل أن تأتى ، فأقبل عمارة على زيد يجأ فى عنقه ويقول : يا عباد الله! إن فى رحلى لداهية وما أشعر! اخرج أى عدو الله من رحلى فلا تصحبنى (٢).
فزعم بعض الناس أن زيدا تاب بعد ذلك وقال بعض : لم يزل متهما بشر حتى مات(٣).
ثم مضى رسول الله صلىاللهعليهوسلم سائرا فجعل يتخلف عنه الرجل فيقولون : يا رسول الله تخلف فلان. فيقول : «دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم ، وإن يك غير ذلك فقد
__________________
ـ الغابة الترجمة رقم (٤٧٨٠) ، طبقات ابن سعد (٥ / ٧٧) ، طبقات خليفة الترجمة رقم (٢٠٣٩) ، المعرفة والتاريخ (١ / ٣٥٦) ، تهذيب الكمال (١٣١٠) ، تذهيب التهذيب (٤ / ٢٦) ، تهذيب التهذيب (١٠ / ٦٥) ، خلاصة تذهيب الكمال (٣١٧) ، شذرات الذهب (١ / ١١٢).
(١) ذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد (٦ / ١٩٤ ، ١٩٥) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (٥ / ٩).
(٢) ذكره البيهقي فى دلائل النبوة (٥ / ٢٢٣) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (٥ / ٩).
(٣) انظر : السيرة (٤ / ١٤٩).
أراحكم الله منه» حتى قيل : يا رسول الله تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره. فقال : «دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم ، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه» ، وتلوم أبو ذر على بعيره ، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ماشيا ، ونزل رسول الله صلىاللهعليهوسلم فى بعض منازله فنظر ناظر من المسلمين فقال : يا رسول الله ، إن هذا الرجل يمشى على الطريق وحده. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كن أبا ذر». فلما تأمله القوم قالوا : يا رسول الله ، هو والله أبو ذر ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «رحم الله أبا ذر يمشى وحده ويموت وحده ، ويبعث وحده» (١).
فقضى الله سبحانه أن أبا ذر لما أخرجه عثمان رضى الله عنه إلى الربدة وأدركته بها منيته لم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه ، فأوصاهما أن غسلانى وكفنانى ثم ضعانى على قارعة الطريق فأول ركب يمر بكم فقولوا : هذا أبو ذر صاحب رسول الله فأعينوننا على دفنه فلما مات فعلا ذلك وأقبلوا عبد الله بن مسعود فى رهط من العراق عمار ، فلم يرعهم إلا بالجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإبل تطؤها وقام إليهم الغلام فقال : هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأعينوننا على دفنه. فاستهل عبد الله يبكى ويقول : صدق رسول الله تمشى وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك! ثم نزل هو وأصحابه فواروه. ثم حدثهم عبد الله بن مسعود حديثه وما قال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم فى مسيره إلى تبوك (٢).
وقد كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بنى عمرو بن عوف وحليف لبنى سلمة من أشجع يقال له : نخشن بن حمير ، ويقال : مخشى ، يشيرون إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو منطلق إلى تبوك فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بنى الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا؟ والله لكأننا بكم غدا مقرنين فى الحبال إرجافا وترهيبا للمؤمنين فقال مخشن بن حمير ، والله لوددت أنى أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة وأنا نتفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه. وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيما بلغنا لعمار بن ياسر : «أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا ، فإن أنكروا فقل : بل قلتم كذا وكذا» ، فانطلق إليهم عمار ، فقال ذلك لهم فأتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم يعتذرون ، فقال وديعة بن ثابت
__________________
(١) انظر الحديث فى : مستدرك الحاكم (٣ / ٥٠ ، ٥١) ، دلائل النبوة للبيهقى (٥ / ٢٢٢) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٨) ، صحيح ابن حبان (٨ / ٢٣٤) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٩ / ٣٣١ ، ٣٣٢).
(٢) انظر : السيرة (٤ / ١٤٩ ـ ١٥٠).
ورسول الله صلىاللهعليهوسلم واقف على ناقته فجعل يقول وهو آخذ بحقها : يا رسول الله ، إنما كنا نخوض ونلعب ، فأنزل الله عزوجل فيهم : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) [التوبة : ٦٥] ، وقال مخشن بن حمير : يا رسول الله قعد بى اسمى واسم أبى. فكان الذي عفى عنه فى هذه الآية مخشن بن حمير فتسمى عبد الرحمن ، وسأل الله أن يقتله شهيدا لا يعلم مكانه ، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر (١).
ولما انتهى رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى تبوك اتاه يحنة بن رؤبة صاحب أيلة فصالح رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأعطى الجزية. وأتاه أهل جرباء (٢) وأذرح (٣) فأعطوا الجزية ، وكتب لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم كتابا فهو عندهم [فكتب ليحنّة بن رؤبة] (٤) : «بسم الله الرحمن الرحيم ، هذه أمنة من الله ومحمد النبيّ رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة سفنهم وسيارتهم فى البر والبحر ، لهم ذمة الله ومحمد النبيّ ومن كان منهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه وأنه طيبة لمن أخذه من الناس ، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يردونه من بر أو بحر (٥).
ثم دعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم خالد بن الوليد فبعثه إلى أكيدر دومة وهو أكيدر ابن عبد الملك رجل من كندة كان ملكا عليها وكان نصرانيا فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لخالد : «إنك ستجده يصيد البقر». فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين وفى ليلة مقمرة صائفة وهو على سطح له ومعه امرأته فباتت البقر تحك بقرونها باب القصر ، فقالت له امرأته : هل رأيت مثل هذا قط؟ قال : لا والله ، قالت : فمن يترك هذه؟ قال : لا أحد ، فنزل فأمر بفرسه ، فأسرج له ، وركب معه نفر من أهل بيته ، فيهم أخ له يقال له : حسان ، فركب وخرجوا معه بمطاردهم ، فلما خرجوا تلقتهم خيل رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأخذته ، وقتلوا أخاه ، وكان عليه قباء ديباج مخوص بالذهب ، فاستلبه خالد فبعث به إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم قبل قدومه عليه ، فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم ويتعجبون منه ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أتعجبون من هذا؟ فو الذي نفسى بيده لمناديل سعد بن معاذ فى
__________________
(١) ذكره ابن كثير فى تفسيره (٢ / ٣٨١ ، ٣٨٢) ، ابن حجر فى الإصابة (٦ / ٧٥).
(٢) جرباء : كأنه تأنيب الأجرب ، موضع من أعمال عمان بالبلقاء من أرض الشام قرب جبال السراة من ناحية الحجاز. انظر : معجم البلدان (٢ / ١١٢).
(٣) أذرح : اسم بلد فى أطراف الشام من أعمال السراة ، ثم من نواحى البلقاء وعمان مجاورة لأرض الحجاز. انظر : معجم البلدان (١ / ١٢٩).
(٤) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ، وما أوردناه من السيرة.
(٥) ذكر البيهقي فى الدلائل (٥ / ٢٤٧ ، ٢٤٨).
الجنة أحسن من هذا» (١). ثم قدم خالد بأكيدر على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فحقن له دمه ، وصالحه على الجزية ، ثم خلى سبيله ، فرجع إلى قريته ، فقال رجل من طيء يقال له : بجير ابن بجرة ، يذكر قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم لخالد : إنك ستجده يصيد البقر ، وما صنعت البقر تلك الليلة حتى استخرجته لتصديق قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم :
تبارك سائق البقرات إنى |
|
رأيت الله يهدى كل هادى |
فمن يك حائدا عن ذى تبوك |
|
فإنا قد أمرنا بالجهاد (٢) |
فأقام رسول الله صلىاللهعليهوسلم بتبوك بضع عشرة ليلة ولم يجاوزها ، ثم انصرف قافلا إلى المدينة.
وكان فى الطريق ماء يخرج من وشل يروى الراكب والراكبين والثلاثة ، بواد يقال له : وادى المشقق ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من سبقنا إلى الماء فلا يستقين منه شيئا ، حتى نأتيه» ، فسبقه إليه نفر من المنافقين ، فاستقوا ما فيه ، فلما أتاه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقف عليه فلم ير فيه شيئا ، فقال : «من سبقنا إلى هذا؟» فقيل : يا رسول الله فلان وفلان ، فقال: «أو لم أنهكم أن تستقوا منه شيئا حتى آتيه؟» ثم لعنهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ودعا عليهم ، ثم نزل فوضع يده تحت الوشل فجعل يصب فى يده ما شاء الله أن يصب ثم نضحه به ومسحه بيده ودعا بما شاء الله أن يدعو به ، فانخرق من الماء كما يقول من سمعه ما إن حسا كحس الصواعق ، فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لئن بقيتم أو من بقى منكم لتسمعن بهذا الوادى وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه» (٣).
ومات فى هذه الغزوة من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم : عبد الله ذو البجادين المزنى ، وإنما سمى ذا البجادين لأنه كان ينازع إلى الإسلام فيمنعه قومه من ذلك ويضيقون عليه حتى تركوه فى بجاد ليس عليه غيره ، والبجاد : الكساء الغليظ الجافى ، فهرب منهم إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلما كان قريبا منه شق بجاده باثنين فاتزر بواحد ، واشتمل بالآخر ، ثم أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقيل له : ذو البجادين لذلك (٤).
__________________
(١) انظر الحديث فى : صحيح مسلم (٤ / ١٩١٦ / ١٢٧) ، سنن النسائى (٧ / ٥٧١٥) ، مسند الإمام أحمد (٣ / ١١١) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (٢ / ١٦٦) ، دلائل النبوة للبيهقى (٤٥ / ٢٥٠ ، ٢٥١).
(٢) انظر الأبيات فى : السيرة (٤ / ١٥٢).
(٣) انظر الحديث فى : موطأ مالك (١ / ٢ / ١٤٣) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ١٨) ، صحيح مسلم (٤ / ١٠ / ١٧٨٤ ، ١٧٨٥).
(٤) انظر : السيرة (٤ / ١٥٤).
فكان عبد الله بن مسعود يحدث قال : قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم فى غزوة تبوك ، فرأيت شعلة من نار فى ناحية العسكر فاتبعتها أنظر إليها ، فإذا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأبو بكر وعمر وإذا عبد الله ذو البجادين قد مات ، وإذا هم قد حفروا له ورسول الله صلىاللهعليهوسلم فى حفرته وأبو بكر وعمر يدليانه إليه وهو يقول : أدليا إلى أخاكما فدلياه ، فلما هيأه لشقه قال : «اللهم إنى قد أمسيت راضيا عنه فارض عنه» يقول عبد الله ابن مسعود : يا ليتنى كنت صاحب الحفرة! (١).
وقال أبو رهم الغفارى ، وكان ممن بايع تحت الشجرة : غزوت مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم غزوة تبوك ، فسرت ذات ليلة معه قريبا منه وألقى علينا النعاس ، فطفقت أستيقظ وقد دنت راحلتى من راحلته عليهالسلام فيفزعني دنوها منه مخافة أن أصيب رجله فى الغرز فما استيقظت إلا لقوله : حس ، فقلت : يا رسول الله استغفر لى : قال : «سر». فجعل يسألنى عمن تخلف من بنى غفار فأخبره به ، فقال وهو يسألنى : «ما فعل النفر الحمر الطوال الثطاط» (٢) ، فحدثته بتخلفهم ، قال : «فما فعل النفر السود الجعاد القصار؟» قلت : والله ما أعرف هؤلاء منا. قال : «بلى ، الذين هم نعم بشبكة شدخ» ، فتذكرتهم فى بنى غفار ، فلم أذكرهم حتى ذكرت أنهم رهط من أسلم كانوا حلفاء فينا ، فقلت : يا رسول الله ، أولئك رهط من أسلم حلفاء فينا ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما منع أحد أولئك حين تخلف أن يحمل على بعير من إبله امرأ نشيطا فى سبيل الله؟! إن أعز أهلى علىّ أن يتخلف عنى المهاجرون من قريش والأنصار وغفار وأسلم» (٣).
قال ابن إسحاق (٤) : ثم أقبل رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى نزل بذى أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار ، وكان أصحاب مسجد الضرار قد أتوه وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا : يا رسول الله ، إنا قد بنينا مسجدا لذى العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية ، وإنا نحب أن تأتينا فتصلى لنا فيه ، فقال : «إنى على جناح سفر ، وحال شغل». أو كما قال صلىاللهعليهوسلم : «ولو قد قدمنا إن شاء الله لأتيناكم ، فصلينا لكم فيه» ، فلما نزل بذى أوان أتاه خبر المسجد فدعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم مالك بن الدخشم ، أخا بنى سالم بن عوف ، ومعن بن
__________________
(١) انظر الحديث فى : مجمع الزوائد للهيثمى (٩ / ٣٦٩) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ١٨).
(٢) الثطاط : جمع ثط ، وهو قليل شعر اللحية والحاجبين.
(٣) انظر الحديث فى : الطبقات الكبرى لابن سعد (٤ / ١٨٠) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٦ / ١٩٢) ، مسند الإمام أحمد (٤ / ٣٥٠).
(٤) انظر : السيرة (٤ / ١٥٥ ـ ١٥٦).
عدى ، أو أخاه عاصم بن عدى ، أخا بنى العجلان ، فقال : «انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه» ، فخرجا سريعين حتى أتيا بنى سالم بن عوف رهط مالك فقال مالك لمعن : انظرنى حتى أخرج إليك بنار من أهلى. فدخل إلى أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه ونزل فيهم من القرآن ما نزل : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة : ١٠٧] إلى آخر القصة (١).
وقدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة وقد كان تخلف عنه من تخلف من المنافقين ، وأولئك الرهط الثلاثة من المسلمين من غير شك ولا نفاق : كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأصحابه : «لا تكلمن أحدا من هؤلاء الثلاثة» ، وأتاه من تخلف عنه من المنافقين فجعلوا يحلفون له ويعتذرون فصفح عنهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولم يعذرهم الله ولا رسوله ، فاعتزل المسلمون كلام أولئك النفر الثلاثة.
فحدث (٢) كعب بن مالك قال : ما تخلفت عن رسول الله فى غزوة غزاها قط ، غير أنى تخلفت عنه فى غزوة بدر ، وكانت غزوة لم يعاتب الله فيها ولا رسوله أحدا تخلف عنها ، وذلك أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم إنما خرج يريد عير قريش فجمع الله بينه وبين عدوه على غير ميعاد ، ولقد شهدت مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لى بها مشهد بدر ، وإن كانت غزوة بدر هى أذكر فى الناس منها.
وكان من خبرى حين تخلفت عنه فى غزوة تبوك أنى لم أكن قط أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عنه فى تلك الغزوة ، والله ما اجتمعت لى راحلتان قط حتى اجتمعنا لى فى تلك الغزوة ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم قل ما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلىاللهعليهوسلم فى حر شديد واستقبل سفرا بعيدا واستقبل غزو عدو كثير ، فجلى للناس أمرهم ليتأهبوا لذلك أهبته وأخبرهم خبره بوجهه الذي يريد ، والمسلمون من تبع رسول الله صلىاللهعليهوسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ ، يعنى بذلك الديوان ، فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفى له ذلك ما لم ينزل فيه وحى من الله تعالى ، وغزا رسول الله صلىاللهعليهوسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار وأحبت الظلال فالناس إليها صعر ، فتجهز رسول الله صلىاللهعليهوسلم وتجهز المسلمون معه ، وجعلت أغدو لأتجهز معهم فأرجع ولم أقض حاجة فأقول فى نفسى : أنا قادر على ذلك إذا أردت ، فلم يزل ذلك
__________________
(١) انظر الحديث فى : تفسير ابن كثير (٤ / ١٤٩).
(٢) انظر : السيرة (٤ / ١٥٧ ـ ١٥٨).
يتمادى بى حتى شمر بالناس الجد وأصبح رسول الله صلىاللهعليهوسلم غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازى شيئا فقلت : أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحق بهم ، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئا ، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا ، فلم يزل ذلك يتمادى بى حتى أسرعوا وتفرط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم ، وليتنى فعلت ، فلم أفعل ، وجعلت إذا خرجت فى الناس بعد خروج رسول الله صلىاللهعليهوسلم فطفت فيهم يحزننى أنى لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه فى النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ، ولم يذكرنى رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس فى القوم بتبوك : ما فعل كعب ابن مالك؟ فقال رجل من بنى سلمة : يا رسول الله ، حبسه برداه والنظر فى عطفيه.
فقال له معاذ : بئس ما قلت ، والله يا رسول الله ما علمنا منه إلا خيرا. فسكت رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فلما بلغنى أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم توجه قافلا حضر لى بثى فجعلت أتذكر الكذب وأقول : بما ذا أخرج من سخط رسول الله صلىاللهعليهوسلم غدا؟ وأستعين على ذلك كل ذى رأى من أهلى ، فلما قيل لى : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد أظل قادما زاح عنى الباطل وعرفت أن لا أنجو منه إلا بالصدق ، فأجمعت أن أصدق.
وصبح رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة ، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس ، فلما فعل ذلك جاء المخلفون من الأعراب فجعلوا يحلفون له ويعتذرون ، وكانوا بضعة وثمانين رجلا ، فيقبل منهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم علانيتهم وأيمانهم ويستغفر لهم ويكل سرائرهم إلى الله ، حتى جئت فسلمت عليه فتبسم تبسم المغضب ثم قال لى : تعاله. فجئت أمشى حتى جلست بين يديه فقال لى : «ما خلفك ألم تكن ابتعت ظهرك؟» قلت : يا رسول الله ، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أنى سأخرج من سخطه بعذر لقد أعطيت جدلا ، ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثا كذبا لترضين عنى وليوشكن الله أن يسخط علىّ ، ولئن حدثتك اليوم حديثا صادقا تجد على فيه إنى أرجو عقباى من الله فيه ، ولا والله ما كان لى عذر ، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عنك. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أما هذا فقد صدقت فيه ، فقم حتى يقضى فيك. فقمت.
وثار معى رجال من بنى سلمة فاتبعونى فقالوا : والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بما اعتذر إليه المخلفون فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلىاللهعليهوسلم لك ، فو الله ما زالوا حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأكذب نفسى ، ثم قلت لهم : هل لقى هذا أحد غيرى؟ قالوا :
نعم ، رجلان قالا مثل ذلك وقيل لهما مثل ما قيل لك. قلت : من هما؟ قالوا : مرارة بن الربيع العمرى وهلال بن أمية الواقفى ، فذكروا لى رجلين صالحين فيهما أسوة حسنة ، فقمت حين ذكروهما لى ، ونهى رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه ، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لى نفسى والأرض فما هى بالأرض التي كنت أعرف.
فلبثنا على ذلك خمسين ليلة ، فأما صاحباى فاستكانا فقعدا فى بيوتهما ، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج وأشهد الصلوات مع المسلمين واطوف بالأسواق لا يكلمنى أحد ، وآتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأسلم عليه وهو فى مجلسه بعد الصلاة فأقول فى نفسى : هل حرك شفتيه برد السلام على أم لا! ثم أصلى قريبا منه فأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتى نظر إلى ، وإذا التفت نحوه أعرض عنى.
حتى إذا طال ذلك على من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبى قتادة وهو ابن عمى وأحب الناس إلى فسلمت عليه فو الله ما رد على السلام ، فقلت : يا أبا قتادة ، أنشدك الله هل تعلم أنى أحب الله ورسوله؟ فسكت فعدت فنا شدته ، فسكت ، فعدت فناشدته ، فقال : الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناى وو ثبت فتسورت الحائط. ثم غدوت إلى السوق فبينا انا أمشى بالسوق إذا نبطى (١) يسأل عنى من نبط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدل على كعب بن مالك؟ فجعل الناس يشيرون له إلى ، حتى جاءنى فدفع إلى كتابا من ملك غسان فى سرقة من حرير فإذا فيه : أما بعد ، فإنه قد بلغنا أن صاحبك جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نوسك. قلت حين قرأتها : وهذا من البلاء أيضا قد بلغ لى ما وقعت فيه أن طمع فى رجل من أهل الشرك فعمدت بها إلى تنور فسجرته بها.
فأقمنا على ذلك حتى مضت أربعون ليلة من الخمسين ، إذا رسول الله صلىاللهعليهوسلم يأتينى فقال : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت : أطلقها أم ما ذا؟ قال : لا ، بل اعتزلها ولا تقربها. وأرسل إلى صاحبى بمثل ذلك ، فقلت لامرأتى : الحقى بأهلك وكونى فيهم حتى يقضى الله فى هذا الأمر ما هو قاض.
وجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالت : يا رسول الله ، إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع إلا خادم ، أفتكره ان أخدمه؟ قال : لا ولكن لا يقربنك. قالت : يا
__________________
(١) النبطى : واحد النبط وهم قوم من الأعاجم.
رسول الله ، والله ما به من حركة ، والله ما زال يبكى منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا ولقد تخوفت على بصره. فقال لى بعض أهلى : لو استأذنت رسول الله صلىاللهعليهوسلم لامرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه ، فقلت : والله لا أستأذنه فيها ، ما أدرى ما يقول لى فى ذلك إذا استأذنته وأنا رجل شاب ، قال : فلبثنا بعد ذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون من حين نهى رسول الله المسلمين عن كلامنا ، ثم صليت الصبح خمسين ليلة على طهر بيت من بيوتنا على الحال التي ذكر الله ، هنا قد ضاقت علينا الأرض بما رحبت وضاقت على نفسى ، وقد كنت ابتنيت خيمة فى ظهر سلع ، فكنت اكون فيها إذ سمعت صوت صارخ أو فى على سلع يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك أبشر. فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاءنى الفرج.
قال : وآذن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر ، فذهب الناس يبشروننا وذهب نحو صاحبى مبشرون ، وركض رجل إلى فرسا وسعى ساع من أسلم ، حتى أوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس ، فلما جاءنى الذي سمعت صوته يبشرنى نزعت ثوبى فكسوتهما إياه بشارة ، وو الله ما أملك يومئذ غيرهما ، واستعرت ثوبين فلبستهما ، ثم انطلقت أتيمم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وتلقانى الناس يبشروننى بالتوبة يقولون : ليهنك توبة الله عليك. حتى دخلت المسجد ورسول الله صلىاللهعليهوسلم جالس حوله الناس فقام إلى طلحة بن عبيد الله فحيانى وهنأنى ، والله ما قام إلى رجل من المهاجرين غيره. فكان كعب لا ينساها لطلحة.
قال كعب : فلما سلمت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال ووجهه يبرق من السرور : أبشر بخير يوم مر عليك منذ يوم ولدتك أمك. قلت : أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال : بل من عند الله. قال : وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا استبشر كأن وجهه قطعة قمر ، وكنا نعرف ذلك منه.
قال : فلما جلست بين يديه ، قلت : يا رسول الله ، إن من توبتى إلى الله أن أنخلع من مالى صدقة إلى الله وإلى رسوله. قال : أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. قلت : إنى ممسك سهمى الذي بخيبر. وقلت : يا رسول الله إن الله قد نجانى بالصدق ، فإن من توبتى إلى الله أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت. والله ما أعلم أحدا من الناس أبلاه الله فى صدق الحديث منذ ذكرت لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ذلك أفضل مما أبلانى ، والله ما تعمدت من كذبة مذ ذكرت ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى يومى هذا ، وإنى لأرجو أن يحفظنى الله فيما بقى.