أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي
المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦٣٢
بعث أخاه ، وأمر الأمراء ، ووجه إلى كل حيز جندا ، فلما اجتمع المسلمون أمرهم ، يعنى الروم ، بمنزل جامع حصين ، فنزلوا الواقوصة ، وخرج هو فنزل حمص ، فلما بلغه أن خالدا قد طلع على سوى وانتسف أهله وأموالهم وعمد إلى بصرى وافتتحها ، قال لجلسائه : ألم أقل لكم لا تقاتلوهم ، فإنه لا يقوم لهم أحد ، فقالوا : قاتل عن دينك واقض الذي عليك ولا تجبن الناس ، قال : وأى شيء أطلب إلا توقير دينكم.
ولما نزلت جنود المسلمين اليرموك ، بعثوا إلى الروم : إنا نريد كلام أميركم وملاقاته ، فدعونا نأته ونكلمه ، فأبلغوه ، فأذن لهم. فأتاه أبو عبيدة ويزيد بن أبى سفيان كالرسل ، والحارث بن هشام ، وضرار بن الأزور ، وأبو جندل بن سهيل ، ومع أخى هرقل يومئذ ثلاثون سرادقا كلها من ديباج ، فلما انتهوا إليها أبوا أن يدخلوا عليه فيها ، وقالوا : لا نستحل الحرير ، فابرز لنا ، فبرز إلى فرش ممهدة ، وبلغ ذلك هرقل ، فقال : ألم أقل لكم ، هذا أول الذل ، أما الشام فلا شام ، ويل للروم من الولد المشئوم ، ولم يتأت بينهم وبين المسلمين صلح ، فرجع أبو عبيدة وأصحابه ، واتعدوا ، فكان القتال حتى جاء الفتح (١).
قصة صلح إيلياء وقدوم عمر رضياللهعنه الشام
وكان أبو عبيدة رحمهالله ، بعد انقضاء اليرموك ، على ما وقع فى كتب فتوح الشام من ذلك (٢) ، قد بعث الرسل إلى أهل إيلياء يطلبهم بالخروج إليه ليكتب لهم أمانا على أنفسهم وأموالهم ، فتثاقلوا عليه ، فكتب إليهم يعرض عليهم الإسلام أو الجزية ، أو ينزل بهم حتى يحكم الله له عليهم ، وقد أوردنا هذا الكتاب بنصه قبل ، فلما أبوا أن يأتوه وأن يصالحوه ، أقبل إليهم حتى نزل بهم ، فحاصرهم حصارا شديدا ، وضيق عليهم من كل جانب ، فخرجوا إليه ذات يوم ، فقاتلوهم ساعة ، ثم شد عليهم المسلمون فانهزموا ودخلوا حصنهم ، وكان الذي ولى قتالهم خالد بن الوليد ويزيد بن أبى سفيان ، كل واحد منهما فى جانب فبلغ ذلك سعيد بن زيد وهو على دمشق ، فكتب إلى أبى عبيدة :
أما بعد ، فإنى لعمرى ما كنت لأوثرك وأصحابك بالجهاد فى سبيل الله على نفسى ، وعلى ما يقربنى من مرضاة ربى ، فإذا أتاك كتابى هذا فابعث إلى عملك من هو أرغب فيه منى ، فليعمل لك عليه ما بدا لك ، فإنى قادم عليك وشيكا إن شاء الله ، والسلام عليك.
__________________
(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٤٠٣).
(٢) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢٤٢ ـ ٢٥٠).
فلما وصل كتابه إلى أبى عبيدة ، قال : أشهد ليفعلنها ، فقال ليزيد بن أبى سفيان : اكفنى دمشق ، فسار إليها يزيد فوليها.
وكان فى المسلمين رجل من بنى نمير يقال له مخيمس بن حابس بن معاوية ، وكان شجاعا ، وكان الناس يذكرون منه صلاحا ، فقده أصحابه أياما ، فكانوا يطلبونه ويسألون عنه فلا يخبرون عنه بشيء ، فلما يئسوا منه ظنوا أن قد هلك ، وأنه اغتيل ، فبينا هم جلوس ذات يوم إذ طلع عليهم مقبلا فى يده ورقتان لم ينظر الناس إلى مثلهما قط أنضر ، ولا أعرض عرضا ، ولا أطول طولا ، ولا أحسن منظرا ، ولا أطيب رائحة ، ففرح به أصحابه فرحا شديدا ، وقالوا له : أين كنت؟ قال : وقعت فى جب فمضيت فيه حتى انتهيت إلى جنة معروشة ، فيها من كل شيء ، ولم تر عينى مثل ما فيها قط فى مكان ، ولم أظن أن الله خلق مثلها ، فلبثت فيها هذه الأيام التي فقدتمونى ، فى نعيم ليس مثله نعيم ، وفى منظر ليس مثله منظر ، وفى رائحة لم يجد أحد من الناس قط ، أطيب منها ، فبينا أنا كذلك ، أتانى آت فأخذ بيدى فأخرجنى منها إليكم ، وقد كنت أخذت هاتين الورقتين من شجرة كنت تحتها جالسا ، فبقيتا فى يدى ، فأخذ الناس يشمونهما فيجدون لهما ريحا لم يجدوا لشىء قط أطيب منها ، فأهل الشام يزعمون أنه أدخل الجنة وأن تينك الورقتين من ورقها ، ويقولون : إن الخلفاء رفعتهما فى الخزانة.
ولما رأى أهل إيلياء أن أبا عبيدة غير مقلع عنهم ، وظنوا أن لا طاقة لهم بحربه ، قالوا:نحن نصالحك ، قال : فإنى أقبل منكم الصلح ، قالوا : فأرسل إلى خليفتكم عمر ، فيكون هو الذي يعطينا العهد ، ويكتب لنا الأمان ، فقبل ذلك أبو عبيدة ، وهم بالكتاب ، وكان لا يقطع أمرا دون رأى معاذ ، وكان معاذ لا يكاد يفارقه ، لرغبته فى الجهاد ، فأرسل إليه أبو عبيدة ، وكان بعثه إلى الأردن ، فلما قدم عليه أخبره ، فقال له معاذ : تكتب إلى أمير المؤمنين فتسأله القدوم عليك ، فلعله أن يستقدم ، ثم يأبى هؤلاء الصلح فيكون سيره عناء وفضلا ، فلا تكتب إليه حتى تستحلفهم بأيمانهم المغلظة : لئن : أنت سألته القدوم فقدم عليهم فأعطاهم الأمان وكتب لهم الصلح ليقبلن ذلك وليصالحن عليه ، فأخذ عليهم أبو عبيدة الأيمان المغلظة لئن عمر قدم فأعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وكتب لهم على ذلك كتابا ليقبلن وليؤدن الجزية وليدخلن فيما دخل فيه أهل الشام ، فلما فعلوا ذلك كتب إليه أبو عبيدة :
بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله عمر أمير المؤمنين ، من أبى عبيدة بن الجراح ، سلام عليك ، فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد : فإنا أقمنا على إيلياء ، وظنوا أن
لهم فى المطاولة فرجا ورجاء ، فلم يزدهم الله بها إلا ضيقا ونقصا وهزلا وأزلا ، فلما رأوا ذلك سألونا أن نعطيهم ما كانوا قبل منه ممتنعين ، وله كارهين ، وسألونا الصلح على أن يقدم عليهم أمير المؤمنين ، فيكون هو المؤمن لهم والكاتب لهم كتابا ، وإنا خشينا أن يقدم أمير المؤمنين ثم يغدر القوم ويرجعوا ، فيكون مسيرك ، أصلحك الله ، عناء وفضلا ، فأخذنا عليهم المواثيق المغلظة بأيمانهم ، لئن أنت قدمت عليهم فامنتهم على أنفسهم وأموالهم ليقبلن ذلك وليؤدن الجزية ، وليدخلن فيما دخل فيه أهل الذمة ، ففعلوا ، فإن رأيت يا أمير المؤمنين أن تقدم علينا فافعل ، فإن فى مسيرك أجرا وصلاحا وعافية للمسلمين ، آتاك الله رشدك ، ويسر أمرك ، والسلام عليك.
فلما أتى عمر رحمهالله ، كتاب أبى عبيدة ، جمع رءوس المسلمين ، فقرأه عليهم واستشارهم فقال له عثمان : إن الله قد أذلهم وحصرهم وضيق عليهم ، وأراهم ما صنع بجموعهم وملوكهم ، وما قتل من صناديدهم ، وفتح على المسلمين من بلادهم ، فهم فى كل يوم يزدادون هزلا وأزلا وذلا ونقصا وضيقا ورغما ، فإن أنت أقمت ولم تسر إليهم علموا أنك بأمرهم مستخف ، ولشأنهم محتقر ، فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى ينزلوا على الحكم ، ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، وإلا حاصرهم المسلمون وضيقوا عليهم حتى يعطوا بأيديهم. فقال عمر : ما ذا ترون؟ هل عند أحد منكم غير هذا الرأى؟. فقال على بن أبى طالب : نعم ، يا أمير المؤمنين ، عندى غير هذا. فقال : ما هو؟.
قال : إنهم يا أمير المؤمنين قد سألوك المنزلة التي لهم فيها الذل والصغار ، وهى على المسلمين فتح ولهم عز ، وهم يعطونكها الآن عاجلا فى عافية ، ليس بينك وبين ذلك إلا أن تقدم عليهم ، ولك يا أمير المؤمنين فى القدوم عليهم الأجر فى كل ظمأ وكل مخمصة وفى قطع كل واد وفى كل فج وشعب وفى كل نفقة تنفقها حتى تقدم عليهم ، فإن قدمت عليهم كان فى قدومك عليهم الأمن والعافية والصلح ، والفتح ، ولست آمن لو أنهم يئسوا من قبولك الصلح ومن قدومك عليهم أن يتمسكوا بحصنهم ، ولعلهم أن يأتيهم من عدونا مدد لهم فيدخلوا معهم فى حصنهم ، فيدخل على المسلمين من حربهم وجهادهم بلاء ومشقة ، ويطول بهم الحصار ، ويقيم المسلمون عليهم ، فيصيب المسلمين من الجهد والجوع نحو ما يصيبهم ، ولعل المسلمين يدنون من حصنهم فيرمونهم بالنشاب ويقذفونهم بالحجارة ، فإن قتل رجل من المسلمين تمنيتم أنكم فديتموه بمسيركم إلى منقطع الترب ، ولكان المسلم بذلك من إخوانه أهلا.
فقال عمر : قد أحسن عثمان فى مكيدة العدو ، وقد أحسن على النظر لأهل الإسلام.
ثم قال : سيروا على اسم الله ، فإنى معسكر وسائر. ثم خرج ومعه أشراف الناس وبيوتات العرب والمهاجرون والأنصار ، وأخرج معه العباس بن عبد المطلب.
وعن أبى سعيد المقبرى (١) أن عمر رحمهالله ، كان فى مسيره ذلك يجلس لأصحابه إذا صلى الغداة ، فيقبل عليهم بوجهه ، ثم يقول : الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام والإيمان ، وأكرمنا بمحمد صلىاللهعليهوسلم فهدانا به من الضلالة ، وجمعنا من الفرقة ، وألف بين قلوبنا ، ونصرنا به على الأعداء ، ومكن لنا فى البلاد ، وجعلنا به إخوانا متحابين ، فاحمدوا الله على هذه النعم وسلوه المزيد فيها ، والشكر عليها ، وتمام ما أصبحتم تتقلبون فيه منها ، فإن الله عزوجل ، يريد الرغبة إليه ، ويتم نعمته على الشاكرين.
قال : فكان عمر رضياللهعنه ، لا يدع هذا القول كل غداة ، فى مبتدئه ومرجعه.
وعن أبى سعيد الخدرى أن عمر رحمهالله ، مضى فى وجهه ذلك حتى انتهى إلى الجابية ، فقام فى الناس فقال : الحمد لله الحميد ، المستحمد الدفاع المجيد ، الغفور الودود ، الذي من أراد أن يهديه من عباده اهتدى ، (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) [الكهف : ١٧].
قال : وإذا رجل من القسيسين من النصارى عندهم ، وعليه جبة صوف ، فلما قال عمر رضياللهعنه : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) قال النصرانى : وأنا أشهد ، فقال عمر:(وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) ، فنفض النصرانى جبته عن صدره ، ثم قال : معاذ الله ، لا يضل الله أحدا يريد الهدى ، فقال عمر : ما ذا يقول عدوه الله ، هذا النصرانى؟ فأخبروه ، فرفع عمر صوته ، وعاد فى خطبته بمثل مقالته الأولى ، ففعل النصرانى كفعله الأول ، فغضب عمر رضياللهعنه ، وقال : والله لئن أعادها لأضربن عنقه ، ففهمها العلج فسكت ، إذ عاد عمر فى خطبته وقال : من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادى له ، ثم قال : أما بعد ، فإنى سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : إن خيار أمتى الذين يلونكم ، ثم الذين تلونهم ، ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل على الشهادة ولم يستشهد عليها ، وحتى يحلف على اليمين ولم يسألها ، فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ، ولا يبالى بشذوذ من شذ ، وذكر بقية الحديث (٢).
__________________
(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢٥٠ ـ ٢٥١).
(٢) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٥١) وما بعدها.
قال : ثم خرج عمر رحمهالله ، من الجابية إلى إيلياء ، فخرج إليه المسلمون يستقبلونه ، وخرج أبو عبيدة بالناس أجمعين ، وأقبل هو على جمل له ، وعليه رحله ، وعليه صفة من جلد كبش حولى ، فانتهى إلى مخاضة ، فأقبلوا يبتدرونه ، فقال للمسلمين : مكانكم ، ثم نزل عن بعيره ، فأخذ بزمانه وهو من ليف ، ثم دخل الماء بين يدى جمله ، حتى جاز الماء إلى أصحاب أبى عبيدة ، فإذا معهم برذون يجنبونه ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، اركب هذا البرذون ، فإنه أجمل بك وأهون عليك فى ركوبك ، ولا نحب أن يراك أهل الذمة فى مثل هذه الهيئة التي نراك فيها ، واستقبلوه بثياب بيض ، فنزل عمر عن جمله وركب البرذون ، وترك الثياب ، فلما هملج به البرذون ، نزل عنه ، وقال : خذوا هذا عنى ، فإنه شيطان ، وأخاف أن يغير على قلبى ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، لو لبست هذه الثياب البيض ، وركبت هذا البرذون لكان أجمل فى المروءة وأحسن فى الذكر وخيرا فى الجهاد. فقال عمر رضياللهعنه : ويحكم ، لا تعتزوا بغير ما أعزكم الله به فتذلوا ، ثم مضى ومضى المسلمون معه حتى أتى إيلياء ، فنزل بها ، فأتاه رجال من المسلمين فيهم أبو الأعور السلمى ، وقد لبسوا لباس الروم ، وتشبهوا بهم فى هيئتهم ، فقال عمر : احثوا فى وجوههم التراب ، حتى يرجعوا إلى هيئتنا وسنتنا ولباسنا ، وكانوا قد أظهروا شيئا من الديباج ، فأمر بهم فحرق عليهم.
وفى غير هذا الحديث مما ذكره سيف (١) : أن خالد بن الوليد لقى عمر عند مقدمة الجابية فى الخيل ، عليهم الديباج والحرير ، فنزل ، وأخذ الحجارة فرماهم بها ، وقال : سرعان ما لفتم عن رأيكم ، إياى تستقبلون فى هذا الزى ، وإنما شبعتم منذ سنتين ، سرعان ما نزت بكم البطنة ، وتالله لو فعلتموها على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، إنها يلامقة ، وإن علينا السلاح ، قال : فنعم إذا.
وفى حديث أبى سعيد الخدرى (٢) ، فقال يزيد بن أبى سفيان : يا أمير المؤمنين ، إن الثياب والدواب عندنا كثيرة ، والعيش عندنا رفيع ، والسعر رخيص ، وحال المسلمين كما تحب ، فلو أنك لبست من هذه الثياب البيض وركبت من هذه الدواب الفرة ، وأطعمت المسلمين من هذا الطعام الكثير ، كان أبعد الصوت ، وأزين لك فى هذا الأمر ، وأعظم لك فى الأعاجم. فقال له : يا يزيد لا والله لا أدع الهيئة التي فارقت عليها صاحبى ، ولا أتزين للناس بما أخاف أن يشيننى عند ربى ، ولا أريد أن يعظم أمرى عند الناس ويصغر عند الله.
__________________
(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٦٠٧).
(٢) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢٥٣).
فلم يزل عمر رحمهالله ، على الأمر الأول الذي كان عليه فى حياة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وحياة أبى بكر ، رضياللهعنه ، حتى خرج من الدنيا.
قال : فلما نزل عمر بإيلياء واطمأن الناس ، بعث أبو عبيدة إلى أهل إيلياء ، أن انزلوا إلى أمير المؤمنين ، واستوثقوا لأنفسكم ، فنزل إليه ابن الجعيد فى ناس من عظمائهم ، فكتب لهم عمر كتاب الأمان والصلح ، فلما قبضوا كتابهم وأمنوا ، دخل الناس بعضهم فى بعض ، ولم يبق أمير من أمراء الأجناد إلا استزار عمر ، فيصنع له ويسأله أن يزوره فى رحله ، فيفعل ذلك عمر ، إكراما لهم ، غير أبى عبيدة ، فإنه لم يستزره ، فقال له عمر : إنه لم يبق أمير من أمراء الأجناد إلا استزارنى غيرك ، فقال : أبو عبيدة : يا أمير المؤمنين ، إنى أخاف إن استزرتك أن تعصر عينيك ، فأتاه عمر فى بيته ، فإذا ليس فى بيته إلا لبد فرسه ، وإذا هو فراشه وسرجه وإذا هو وسادته ، وإذا كسر يابسة فى كوة بيته ، فجاء بها ، فوضعها على الأرض بين يديه ، وأتى بملح جريش ، وكوز خزف فيه ماء.
فلما نظر عمر إلى ذلك بكى ، ثم التزمه وقال : أنت أخى ، وما من أحد من أصحابى إلا وقد نال من الدنيا ونالت منه ، غيرك؟ فقال له أبو عبيدة : ألم أخبرك أنك ستعصر فى بيتى عينيك.
قال : ثم إن عمر قام فى الناس ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، وصلى على النبيّ صلىاللهعليهوسلم ثم قال : يا أهل الإسلام ، إن الله قد صدقكم الوعد ، ونصركم على الأعداء ، وأورثكم البلاد ، ومكن لكم فى الأرض ، فلا يكن جزاء ربكم إلا الشكر ، وإياكم والعمل بالمعاصى ، فإن العمل بالمعاصى كفر للنعم ، وقل ما كفر قوم بما أنعم الله عليهم ، ثم لم يفزعوا إلى التوبة إلا سلبوا عزهم وسلط عليهم عدوهم.
ثم نزل ، وحضرت الصلاة ، فقال عمر رضياللهعنه : يا بلال ، ألا تؤذن لنا رحمك الله ، فقال بلال : يا أمير المؤمنين ، أما والله ما أردت أن أؤذن لأحد بعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولكن سأطيعك اليوم إذ أمرتنى فى هذه الصلاة وحدها. فلما أذن بلال وسمعت الصحابة صوته ، ذكروا نبيهم صلىاللهعليهوسلم فبكوا بكاء شديدا ، ولم يكن يومئذ أحد أطول بكاء من أبى عبيدة ومعاذ بن جبل ، حتى قال لهما عمر : حسبكما رحمكما الله ، فلما قضى عمر صلاته ، قام إليه بلال فقال : يا أمير المؤمنين ، إن أمراء أجنادك بالشام والله ما يأكلون إلا لحوم الطير ، والخبز النقى ، وما يجد ذلك عامة المسلمين.
فقال لهم عمر : ما يقول بلال؟ فقال يزيد بن أبى سفيان : يا أمير المؤمنين ، إن سعر
بلادنا رخيص ، وإنا نصيب هذا الذي ذكر بلال هاهنا بمثل ما كنا نقوت به عيالنا بالحجاز ، فقال عمر : والله لا أبرح العرصة أبدا حتى تضمنوا لى أرزاق المسلمين فى كل شهر ، ثم قال : انظروا ، كم يكفى الرجل ويسعه فى كل يوم ، فقالوا : كذا وكذا ، فقال : كم يكون ذلك فى الشهر ، قالوا : جريبين من قمح مع ما يصلحه من الزيت والخل عند رأس كل هلال ، فضمنوا له ذلك ، ثم قال : يا معشر المسلمين ، هذا لكم سوى أعطياتكم ، فإن وفا لكم أمراؤكم بهذا الذي فرضته لكم وأعطوكموه فى كل شهر ، فذلك ما أحب ، وإن هم لم يفعلوا ، فأعلمونى حتى أعزلهم عنكم ، وأولى أمركم غيرهم ، فلم يزل ذلك جاريا دهرا حتى قطع بعد ذلك.
وعن شهر بن حوشب (١) : أن إسلام كعب الحبر وهو من اليمن من حمير ، كان فى قدوم عمر الشام ، وأن كعبا أخبره بأمره ، وكيف كان ذلك.
قال : وكان أبوه من مؤمنى أهل التوراة برسول الله صلىاللهعليهوسلم وكان من عظمائهم وخيارهم.
قال كعب : وكان من أعلم الناس بما أنزل الله على موسى من التوراة ، وبكتب الأنبياء ، ولم يكن يدخر عنى شيئا مما كان يعلم ، فلما حضرته الوفاة دعانى فقال : يا بنى قد علمت أنى لم أكن أدخر عنك شيئا مما كنت أعلم ، إلا أنى حبست عنك ورقتين فيهما ذكر نبى يبعث ، وقد أظل زمانه ، فكرهت أن أخبرك بذلك ، فلا آمن عليك بعد وفاتى أن يخرج بعض هؤلاء الكذابين فتتبعه ، وقد قطعتهما من كتابك وجعلتهما فى هذه الكوة التي ترى ، وطينت عليهما ، فلا تتعرضن لهما ولا تنظر فيهما زمانك هذا ، وأقرهما فى موضعهما حتى يخرج ذلك النبيّ ، فإذا خرج فاتبعه ، وانظر فيهما ، فإن الله يزيدك بذلك خيرا.
فلما مات والدى لم يكن شيء أحب إلىّ من أن ينقضى المأتم حتى أنظر فى الورقتين ، فلما انقضى المأتم فتحت الكوة ، ثم استخرجت الورقتين ، فإذا فيهما : محمد رسول الله ، خاتم النبيين ، لا نبى بعده ، مولده بمكة ، ومهاجره بطيبة ، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب فى الأسواق ، ولا يجزى بالسيئة السيئة ، ولكن يجزى بالسيئة الحسنة ، ويعفو ويغفر ويصفح ، أمته الحمادون ، الذين يحمدون الله على كل شرف وعلى كل حال ، وتذلل ألسنتهم بالتكبير ، وينصر الله نبيهم على كل من ناوأه ، يغسلون فروجهم بالماء ،
__________________
(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢٥٩ ـ ٢٦٢).
ويأتزرون على أوساطهم ، وأناجيلهم فى صدورهم ، ويأكلون قربانهم فى بطونهم ، ويؤخرون عليها ، وتراحمهم بينهم تراحم بنى الأم والأب ، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم ، وهم السابقون المقربون المشفعون المشفع لهم ، فلما قرأت هذا قلت فى نفسى : والله ما علمنى أبى شيئا هو خير لى من هذا ، فمكثت بذلك ما شاء الله ، حتى بعث النبيّ صلىاللهعليهوسلم وبينى وبينه بلاد بعيدة ، منقطعة ، لا أقدر على إتيانه ، وبلغنى أنه خرج فى مكة ، وهو يظهر مرة ويستخفى مرة ، فقلت : هو هذا ، وتخوفت ما كان والدى حذرنى وخوفنى من الكذابين ، وجعلت أحب أتبين وأ تثبت ، فلم أزل بذلك حتى بلغنى أنه قد أتى المدينة ، فقلت فى نفسى : إنى لأرجو أن يكون إياه ، وجعلت ألتمس السبيل إليه ، فلم يقدر لى حتى بلغنى أنه قد توفى صلوات الله عليه وسلامه.
فقلت فى نفسى : لعله لم يكن الذي كنت أظن ، ثم بلغنى أن خليفته قام مقامه ، ثم لم ألبث إلا قليلا حتى جاءتنا جنوده ، فقلت فى نفسى : لا أدخل فى هذا الدين حتى أعلم أهم الذين كنت أرجو وأنتظر وأنظر كيف سيرتهم وأعمالهم وإلى ما تكون عاقبتهم ، فلم أزل أدفع ذلك وأؤخر لأتبين وأ تثبت حتى قدم علينا عمر بن الخطاب ، فلما رأيت صلاة المسلمين وصيامهم وبرهم ووفاءهم بالعهد ، وما صنع الله لهم على الأعداء ، علمت أنهم هم الذين كنت أنتظر ، فحدثت نفسى بالدخول فى الإسلام ، فو الله إنى ذات ليلة فوق سطح لى ، إذا رجل من المسلمين يتلو كتاب الله تعالى ، حتى أتى على هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [النساء : ٤٧].
قال : فلما سمعت هذه الآية خشيت والله ألا أصبح حتى يحول وجهى فى قفاى ، فما كان شيء أحب إلىّ من الصباح ، فغدوت على عمر ، فأسلمت حين أصبحت.
وقال كعب لعمر عند انصرافه عن الشام : يا أمير المؤمنين ، إنه مكتوب فى كتاب الله : إن هذه البلاد التي كان فيها بنو إسرائيل ، وكانوا أهلها ، مفتوحة على رجل من الصالحين ، رحيم بالمؤمنين ، شديد على الكافرين ، سره مثل علانيته ، وعلانيته مثل سره ، وقوله لا يخالف فعله ، والقريب والبعيد عنده فى الحق سواء ، وأتباعه رهبان بالليل وأسد بالنهار ، متراحمون متواصلون متباذلون.
فقال له عمر : ثكلتك أمك ، أحق ما تقول؟ قال : أى والذي أنزل التوراة على موسى ، والذي يسمع ما نقول ، إنه لحق.
فقال عمر رضياللهعنه : فالحمد لله الذي أعزنا وشرفنا وأكرمنا فرحمنا بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، وبرحمته التي وسعت كل شيء.
ومن حديث زيد بن أسلم عن أبيه ، وهو عندنا بالإسناد : أن عمر بن الخطاب رضياللهعنه ، خرج زمان الجاهلية مع أناس من قريش فى تجارة إلى الشام ، قال : فإنى لفى سوق من أسواقها ، إذا ببطريق قد قبض على عنقى ، فذهبت أنازعه ، فقيل لى : لا تفعل ، فإنه لا نصف لك منه ، فأدخلنى كنيسة ، فإذا تراب عظيم ملقى ، فجاءنى بزنبيل ومجرفة ، فقال : انقل ما هاهنا ، فجعلت أنظر كيف أصنع ، فلما كان فى الهاجرة وافانى وعليه ثوب أرى سائر جسده منه ، فقال : أإنك على ما أرى ما نقلت شيئا ، ثم جمع يديه فضرب بهما دماغى ، فقلت : وا ثكل أمك يا عمر ، أبلغت ما أرى ، ثم وثبت إلى المجرفة ، فضربت بها هامته ، فنثرت دماغه ، ثم واريته فى التراب ، وخرجت على وجهى ، لا أدرى أين أسير ، فسرت بقية يومى وليلتى ومن الغد إلى الهاجرة ، فانتهيت إلى دير ، فاستظللت بفنائه ، فخرج إلىّ منه رجل ، فقال لى : يا عبد الله ، ما يقعدك هنا؟ فقلت : أضللت أصحابى ، فقال لى : ما أنت على طريق ، وإنك لتنظر بعينى خائف ، فادخل وأصب من الطعام ، واسترح ، فدخلت فأتانى بطعام وشراب ، وألطفنى ، ثم صعد فى النظر وصوبه ، فقال : قد علم أهل الكتاب أو الكتب أنه ما على الأرض أعلم بالكتاب أو الكتب منى ، وإنى لأرى صفتك ، الصفة التي تخرجنا من هذا الدير ، وتغلبنا عليه ، فقلت له : يا هذا ، لقد ذهبت فى غير مذهب. فقال لى : ما اسمك؟ فقلت : عمر بن الخطاب ، قال : أنت والله صاحبنا ، فاكتب لى على ديرى هذا وما فيه ، فقلت : يا هذا ، إنك قد صنعت إلىّ صنيعة فلا تكدرها ، فقال : إنما هو كتاب فى رق ، فإن كنت صاحبنا فذاك ، وإلا لم يضرك شيء ، فكتبت له على ديره وما فيه ، فأتانى بثياب ودراهم ، فدفعها إلىّ ، ثم أوكف أتانا ، فقال : أتراها؟ قلت : نعم ، قال : سر عليها ، فإنك لا تمر بقوم إلا سقوها وعلفوها وأضافوك ، فإذا بلغت مأمنك فاضرب وجهها مدبرة ، فإنهم يفعلون بها كذلك حتى ترجع إلىّ ، قال : فركبتها ، فكان كما قال ، حتى لحقت أصحابى وهم متوجهون إلى الحجاز ، فضربتها مدبرة وانطلقت معهم ، فلما وافى عمر الشام فى خلافته ، جاءه ذلك الراهب بالكتاب ، وهو صاحب دير العدس ، فلما رآه عرفه ، ثم قال : قد جاء ما لا مذهب لعمر عنه ، ثم أقبل على أصحابه فحدثهم بحديثه ، فلما فرغ منه ، أقبل على الراهب ، فقال : هل عندكم من نفع للمسلمين؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، فوفى له عمر رضياللهعنه.
وعن سيف يرفعه إلى سالم بن عبد الله (١) ، قال : لما دخل عمر الشام تلقاه رجل من يهود دمشق ، فقال : السلام عليك يا فاروق ، أنت صاحب إيلياء ، والله لا ترجع حتى يفتح الله إيلياء.
وعند سيف فى أمر إيلياء أحاديث ربما خالفت بعض ما تقدم ، ونحن نورد منها ما يطيل الإمتاع مضموما إلى ذلك ما ذكره من أمر قيسارية وغيره.
فمن ذلك (٢) : أن عمر رحمهالله ، كتب إلى يزيد بن أبى سفيان بعد مصالحة أهل الأردن ، واجتماع عسكر الروم بأجنادين وبيسان وغزة : أن يسرح معاوية إلى قيسارية.
وكتب عمر إلى معاوية : أما بعد ، فإنى قد وليتك قيسارية ، فسر إليها واستنصر الله عليهم ، وأكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله ، الله ربنا وثقتنا ورجاؤنا ومولانا ، نعم المولى ونعم النصير.
فسار معاوية فى جنده حتى نزل على أهل قيسارية ، فهزمهم وحصرهم ، ثم إنهم جعلوا يزاحفونه فلا يزاحفونه فى مرة إلا هزمهم وردهم إلى حصنهم ، ثم زاحفوه آخر ذلك وخرجوا من صياصيهم ، فاقتتلوا فى حفيظة واستماتة ، فبلغ قتلاهم فى المعركة ثمانين ألفا ، وكملها فى هزيمتهم مائة ألف ، وبعث بالفتح مع رجلين من بنى الضبيب ، ثم خاف منهما الضعف ، فبعث آخرين بعدهما ، فلحقاهما ، فطوياهما وهما نائمان ، وانتهى بريد معاوية إلى عمر بالخبر ليلا ، فجمع الناس وأباتهم على الفرح ، وجعل معاوية قبل الفتح وبعده يجلس الأسرى عنده ويقول : ما صنعوا بأسرانا صنعنا بأسراهم مثله ، فمنع بذلك من العبث بأسرى المسلمين ، حتى افتتح قيسارية.
وكان عمر لما أمر معاوية بالتوجه إلى قيسارية ، أمر عمرو بن العاص بصدم الأرطبون وكان على جمع الروم بأجنادين ، وأمر علقمة بن مجزز بصدم القيقار ، وكان على الروم بغزة ، فلما توجه معاوية إلى قيسارية صدم عمرو بن العاص ، إلى الأرطبون ومن بإزائه ، وخرج معه شرحبيل بن حسنة على مقدمته ، وولى مجنبتيه ابنه عبد الله بن عمرو وجنادة ابن تميم من بنى مالك بن كنانة ، واستخلف أبا الأعور على الأردن ، وخرج حتى نزل على الروم بأجنادين ، وهم فى حصونهم وخنادقهم ، وعليهم الأرطبون ، وكان أدهى الروم ، وأبعدها غورا وأنكاها فعلا ، وكان وضع بالرملة جندا عظيما ، وبإيلياء جندا
__________________
(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٦٠٨).
(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٦٠٤).
عظيما ، وكتب عمرو بالخبر إلى عمر ، فلما جاءه كتابه قال : قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب ، فانظروا عم تنفرج.
وأقام عمرو على أجنادين ، لا يقدر من الأرطبون على سقطة ولا تشفيه الرسل ، فولى ذلك بنفسه ، وتوجه فدخل عليه ، كأنه رسول ، فأبلغه ما يريد ، وسمع كلامه حتى عرف ما أراد ، وتأمل حصونه ، فقال أرطبون فى نفسه : والله إن هذا لعمرو ، أو إنه للذى يأخذ عمرو برأيه ، وما كنت لأصيب القوم بأمر أعظم عليهم من قتله ، ثم دعا حرسيا فساره ، فقال : اخرج فقم بمكان كذا فإذا مر بك فاقتله ، وفطن له عمرو ، فقال له : قد سمعت منى وسمعت منك ، وقد وقع ما قلت منى موقعا ، وأنا واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب مع هذا الوالى لنكانفه ويشهدنا أموره ، فأرجع فآتيك بهم الآن ، فإن رأوا مثل الذي أرى فقد رآه أهل العسكر ورآه الأمير ، وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم ، وكنت على رأس أمرك. قال : نعم ، ودعا فلانا فساره ، وقال : اذهب إلى فلان ، يعنى ذلك الحرسى ، فرده إلىّ ، فرجع إليه الرجل ، وقال لعمرو : انطلق فجئ بأصحابك ، فخرج عمرو ورأى أن لا يعود لمثلها ، وعلم الرومى أنه خدعه فقال : هذا أدهى الخلق ، وبلغت عمر فقال : غلبه عمرو (١).
ثم ناهده عمرو وقد عرف مأخذه ، فالتقوا بأجنادين ، فاقتتلوا قتالا شديدا كقتال اليرموك ، حتى كثرت القتلى بينهم ، ثم انهزم أرطبون فى الناس ، فأوى إلى إيلياء ، ونزل عمرو أجنادين وانطلق علقمة بن مجزز فحصر القيقار بغزة ، وجعل يراسله فلم يشفه أحد مما يريد ، فأتاه كأنه رسول علقمة ، فأمر القيقار رجلا أن يقعد له بالطريق ، فإذا مر قتله ، ففطن علقمة ، فقال : إن معى نفرا شركائى فى الرأى ، فأنطلق فآتيك بهم ، فبعث إلى ذلك الرجل أن لا يعرض لعلقمة ، فخرج من عنده ولم يعد ، كما فعل عمرو بالأرطبون.
ولما أتى أرطبون إيلياء ، أفرج له المسلمون حتى دخلها ، ثم أزالهم إلى أجنادين ، وكتب إلى عمرو : بأنك صديقى ونظيرى ، أنت فى قومك مثلى فى قومى ، والله لا تفتتح من فلسطين شيئا بعد أجنادين ، فارجع فلا تغر فتلقى ما لقى الذين قبلك من الهزيمة ، فدعا عمرو رجلا يتكلم بالرومية ، فأرسله إلى أرطبون ، وأمره أن يتنكر ويقرب ويستمع ما يقول ، حتى يخبره به إذا رجع ، وكتب إلى أرطبون :
جاءنى كتابك ، وأنت نظيرى ، ومثلى فى قومك ، لو أخطأتك خصلة تجاهلت
__________________
(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٦٠٤ ـ ٦٠٦).
فضيلتى ، وقد علمت أنى صاحب فتح هذه البلاد ، وأستعدى عليك فلانا وفلانا وفلانا لوزرائه ، فأقرئهم كتابى ، ولينظروا فيما بينى وبينك.
فخرج الرسول على ما أمره به حتى أتى أرطبون ، فدفع إليه الكتاب ، بمشهد من أولئك النفر ، فاقترأه ، فضحكوا وتعجبوا ، وأقبلوا على أرطبون ، فقالوا : من أين علمت أنه ليس بصاحبها؟ قال : صاحبها رجل اسمه عمر ، ثلاثة أحرف ، فرجع الرسول إلى عمرو فعرف أنه عمر. وكتب إلى عمر يستمده ، ويقول : إنى أعالج حربا كئودا ، وبلادا ادخرت لك ، فرأيك. فلما جاء عمر الكتاب ، علم أن عمرا لم يقل إلا بعلم ، فنادى فى الناس ، ثم خرج بهم حتى نزل الجابية.
وعن عدى بن سهل قال (١) : لما استمد أهل الشام عمر على أهل فلسطين ، استخلف عليا ، وخرج ممدا لهم ، فقال على : أين تخرج بنفسك؟ إنك تريد عدوا كلبا ، فقال : إنى أبادر بجهاد العدو موت العباس ، إنكم لو فقدتم العباس لانتقض لكم الشر انتقاض الجبل.
قالوا : وجميع ما خرج عمر إلى الشام أربع مرات ، أما الأولى فعلى فرس ، وأما الثانية فعلى بعير ، وأما الثالثة فقصر به عنها استعار الطاعون ، وأما الرابعة فدخلها على حمار ، فاستخلف عليها وخرج ، وفتحت إيلياء وأرضها كلها فى ربيع الآخر سنة ست عشرة على يدى عمر بن الخطاب ما خلا أجنادين ، على يدى عمرو ، وقيسارية على يدى معاوية.
وعن سالم بن عبد الله : أن أهل إيلياء أشجوا عمر وأشجاهم ، ولم يقدر عليها ولا على الرملة ، قال : فبينا عمر معسكرا بالجابية ، فزع الناس إلى السلاح ، فقال : ما شأنكم؟فقالوا : ألا ترى الخيل والسيوف؟ فنظر ، فإذا كردوس يلمعون بالسيوف ، فقال عمر : مستأمنة فلا تراعوا وأمنوهم ، وإذا هم أهل إيلياء ، فصالحوه على الجزية ، وفتحوا له إيلياء ، واكتتبوا منه عليها ، وعلى حيزها ، والرملة وحيزها فصارت فلسطين نصفين ، نصفا مع أهل إيلياء ونصفا مع أهل الرملة ، وفلسطين تعدل الشام كله ، وهى عشر كور من غير هذا الحديث المتقدم.
وهو مما ذكره سيف أيضا (٢) أن عمر رضياللهعنه ، فرق فلسطين على رجلين فجعل علقمة بن حكيم على نصفها وأنزله الرملة ، وعلقمة بن مجزز على نصفها وأنزله إيلياء،
__________________
(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٦٠٨).
(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٦١٠).
ونزل كل واحد منهما فى عمله فى الجنود التي كانت معه ، وكان سالم بن عبد الله فى الجنود التي كانت مع عمرو ، وضم عمرا وشرحبيل إليه بالجابية ، فلما انتهيا إليها وافقا عمر رضياللهعنه ، راكبا ، فقبلا ركبته ، وضم عمر كل واحد منهما واحتضنه.
وعن غير سالم (١) : أن عمر رضياللهعنه ، لما بعث بأمان أهل إيلياء ، وأسكنها الجند شخص إلى بيت المقدس من الجابية فرأى فرسه يتوجى فنزل عنه وأتى ببرذون فركبه فهزه ، فنزل فضرب وجهه بردائه ، ثم قال : قبح الله من علمك هذا ، ثم دعا بفرسه بعد ما أجمه أياما يوقحه ، فركب ، ثم سار حتى انتهى إلى بيت المقدس ، وفى رواية أنه قال للبرذون : لا علم الله من علمك هذا من الخيلاء ، ولم يركب برذونا قبله ولا بعده.
وعن أبى مريم مولى سلامة قال : شهدت فتح إيلياء مع عمر رضياللهعنه ، فسار من الجابية فاصلا حتى يقدم إيلياء ، ثم مضى حتى يدخل المسجد ، ثم مضى نحو محراب داود ، ونحن معه ، فدخله ، ثم قرأ سجدة داود فسجد وسجدنا معه.
وقال يزيد بن حنظلة يذكر بعض ما تقدم (٢) :
تذكرت حرب الروم لما تطاولت |
|
وإذ نحن فى عام كثير نوازله |
وإذ نحن فى أرض الحجاز وبيننا |
|
مسيرة شهر بينهن بلابله |
وإذ أرطبون الروم يحمى بلاده |
|
يحاوله قرم هناك يساجله |
فلما رأى الفاروق أزمان فتحها |
|
سما بجنود الله كيما يصاوله |
فلما أحسوه وخافوا صياله |
|
أتوه وقالوا أنت ممن نواصله |
وألقت إليه الشأم أفلاذ بطنها |
|
وعيشا خصيبا ما تعد مآكله |
أباح لنا ما بين شرق ومغرب |
|
مواريث أعقاب بنتها قرامله |
وكم مثقل لم يضطلع باحتماله |
|
تحمل عبئا حين شالت شوائله |
وقال أيضا :
وقد عضلت بالشأم أرض بأهلها |
|
تريد من الأقوام ما كان ألحدا |
سما عمر لما أتته رسائل |
|
كأصيد يحمى صرمة الحى أغيدا |
فلما أتاه ما أتاه أجابهم |
|
بجيش ترى منه السنابك سجدا |
وأقبلت الشام العريضة بالذى |
|
أراد أبو حفص وأزكى وأزيدا |
__________________
(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٦١٠).
(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٦١٢).
فقسط فيما بينهم كل جزية |
|
وكل رفاد كان أهنى وأحمد |
قال صاحب فتوح الشام (١) : ثم إن عمر رضياللهعنه ، خرج من الشام مقبلا إلى المدينة ، فلما دنا منها استقبله الناس يهنئونه بالنصر والفتح ، فجاء حتى دخل مسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم فصلى ركعتين عند المنبر ، ثم صعد المنبر ، واجتمع الناس إليه ، فقام ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على النبيّ محمد صلىاللهعليهوسلم وقال : يا أيها الناس ، إن الله قد اصطنع عند هذه الأمة أن يحمدوه ويشكروه ، وقد أعز دعوتها وجمع كلمتها ، وأظهر فلجها ، ونصرها على الأعداء ، وشرفها ومكن لها فى الأرض ، وأورثها بلاد المشركين وديارهم وأموالهم ، فأحدثوا لله عزوجل شكرا يزدكم ، واحمدوه على نعمه عليكم يدمها لكم ، جعلنا الله وإياكم من الشاكرين. ثم نزل.
قال : فمكث المسلمون بالشام عليها أبو عبيدة بن الجراح ، ومكث فيها بعد خروج عمر منها ثلاث سنين ، ثم توفى رحمهالله ، فى طاعون عمواس ، وكان طاعونا عم أهل الشام ، ومات فيه بشر كثير ، وكانت وفاة أبى عبيدة بالأردن ، وبها قبره ، ولما طعن رحمهالله ، دعا المسلمين ، فدخلوا عليه ، فقال لهم : إنى موصيكم بوصية ، فإن قبلتموها لم تزالوا بخير ما بقيتم ، وبعد ما تهلكون : أقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وصوموا ، وتصدقوا ، وحجوا واعتمروا ، وتواصلوا وتحابوا ، واصدقوا أمراءكم ، ولا تغشوهم ، ولا تلهكم الدنيا ، فإن امرأ لو عمر ألف حول ما كان له بد من أن يصير إلى مثل مصرعى هذا الذي ترون ، إن الله قد كتب الموت على بنى آدم ، فهم ميتون ، فأكيسهم أطوعهم لربه ، وأعملهم ليوم معاده.
ثم قال لمعاذ بن جبل : يا معاذ ، صل بالناس ، فصلى معاذ بهم ، ومات أبو عبيدة ، رحمة الله عليه ومغفرته ورضوانه ، فقام معاذ فى الناس فقال : يا أيها الناس ، توبوا إلى الله توبة نصوحا ، فإن عبدا إن يلق الله تائبا من ذنبه كان حقا على الله أن يغفر له ذنوبه ، ومن كان عليه دين فليقضه ، فإن العبد مرتهن بدينه ، ومن أصبح منكم مصارما مسلما فليلقه فيصالحه ، إذا لقيه ، وليصافحه ، فإنه لا ينبغى لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاثة أيام ، والذنب فى ذلك عظيم عند الله ، وإنكم أيها المسلمون قد فجعتم برجل ، والله ما أزعم أنى رأيت منكم عبدا من عباد الله قط أقل غمرا ، ولا أبرأ صدرا ، ولا أبعد من الغائلة ، ولا أنصح للعامة ، ولا أشد عليهم تحننا وشفقة منه ، فترحموا عليه ، ثم احضروا الصلاة عليه ، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، والله لا يلى عليكم مثله أبدا.
__________________
(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢٦٦ ـ ٢٦٧).
فاجتمع الناس ، وأخرج أبو عبيدة ، فتقدم معاذ فصلى عليه ، حتى إذا أتى به قبره ، دخل قبره معاذ وعمرو بن العاص والضحاك بن قيس ، فلما سفوا عليه التراب ، قال معاذ : رحمك الله أبا عبيدة ، فو الله لأثنين عليه بما علمت ، والله لا أقولها باطلا ، وأخاف أن يلحقنى من الله مقت ، كنت والله ما علمت من الذاكرين الله كثيرا ، ومن الذين يمشون على الأرض هونا ، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ، ومن الذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ، ومن الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ، وكنت والله ما علمت من المخبتين المتواضعين ، ومن الذين يرحمون اليتيم والمسكين ، ويبغضون الجفاة المتكبرين.
ولم يكن أحد من الناس أشد جزعا على فقد أبى عبيدة من معاذ ، ولا أطول حزنا عليه من معاذ.
قال : ثم صلى معاذ بالناس أياما ، واشتد الطاعون ، وكثر الموت فى الناس ، فلما رأى ذلك عمرو بن العاص قال : يا أيها الناس ، إن هذا الطاعون هو الرجز الذي عذب الله به بنى إسرائيل مع الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، وأمر الناس بالفرار منه.
فأخبر معاذ بقول عمرو ، فقال : ما أراد إلى أن يقول ما لا علم له به ، ثم جاء معاذ حتى صعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، وصلى على النبيّ صلىاللهعليهوسلم ثم ذكر الوباء ، فقال : ليس كما قال عمرو ، ولكنه رحمة ربكم ، ودعوة نبيكم ، وموت الصالحين قبلكم ، اللهم أعط معاذا وآل معاذ منه النصيب الأوفر ، ثم صلى ورجع إلى منزله ، فإذا هو بابنه عبد الرحمن قد طعن ، فلما رآه قال : يا أبت ، الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ، قال : يا بنى ، ستجدنى إن شاء الله من الصابرين ، فلم يلبث إلا قليلا حتى مات يرحمهالله ، وصلى عليه معاذ ، ودفنه.
فلما رجع معاذ إلى منزله طعن ، فاشتد به وجعه ، وجعل أصحابه يختلفون إليه فإذا أتوه أقبل عليهم فقال لهم : اعملوا وأنتم فى مهلة وحياة وفى بقية من آجالكم ، من قبل أن تمنوا العمل فلا تجدوا إليه سبيلا ، وأنفقوا مما عندكم من قبل أن تهلكوا وتدعوا ذلك ميراثا لمن بعدكم ، واعلموا أنه ليس لكم من أموالكم إلا ما أكلتم وشربتم ولبستم وأنفقتم فأعطيتم فأمضيتم ، وما سوى ذلك فللوارثين ، فلما اشتد به وجعه جعل يقول : رب اخنقنى خنقك ، فأشهد أنك تعلم أنى أحبك.
قال : وأتاه رجل فى مرضه ، فقال له : يا معاذ ، علمنى شيئا ، ينفعنى الله به قبل أن
أفارقك ، فلا أراك ولا ترانى ، ولا أجد منك خلفا ، ثم لعلى أحتاج إلى سؤال الناس عما ينفعنى بعدك فلا أجد فيهم مثلك ، فقال له معاذ : كلا ، إن صالحاء المسلمين والحمد لله كثير ، ولن يضيع الله أهل هذا الدين ، ثم قال له : خذ عنى ما آمرك به ، كن من الصائمين بالنهار ، ومن المصلين فى جوف الليل ، ومن المستغفرين بالأسحار ، ومن الذاكرين الله كثيرا على كل حال ، ولا تشرب الخمر ، ولا تزنى ، ولا تعق والديك ، ولا تأكل مال اليتيم ولا تفر من الزحف ، ولا تأكل الربا ، ولا تدع الصلاة المكتوبة ، ولا تضيع الزكاة المفروضة ، وصل رحمك ، وكن بالمؤمنين رحيما ، ولا تظلم مسلما ، وحج واعتمر ، وجاهد ، ثم أنا لك زعيم بالجنة.
ولما حضر معاذا الموت قال لجاريته : ويحك ، انظرى ، هل أصبحنا؟ فنظرت ، فقالت : لا ، ثم تركها ساعة ، ثم قال لها : انظرى ، فنظرت فقالت : نعم ، فقال : أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار ، ثم قال : مرحبا بالموت ، مرحبا بزائر جاء على فاقة لا أفلح من ندم ، اللهم إنك تعلم أنى لم أكن أحب البقاء فى الدنيا لجرى الأنهار ، ولا لغرس الأشجار ، ولكننى كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل ، وطول الساعات فى النهار ، ولظمأ الهواجر ، فى الحر الشديد ، ولمزاحمة العلماء بالركب فى حلق الذكر.
فلما اقترب أمره جاء عبد الله بن الديلمى ، فقال له : يرحمك الله يا معاذ ، لعلنا لا نلتقى نحن ولا أنت أبدا ، فقال معاذ : أجلسونى ، فأجلسوه ، وجلس رجل خلف ظهره ، ووضع معاذ ظهره فى صدر الرجل ، ثم قال : بئس ساعة الكذب هذه ، حدثني رسول الله صلىاللهعليهوسلم حديثا ، فكنت أكتمكموه مخافة أن تتكلوا ، فأما الآن فإنى لا أكتمكموه ، سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : إنه لا يموت عبد من عباد الله وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من القبور ، ويؤمن بالرسل وما جاءت به أنه حق ، ويؤمن بالجنة والنار ، إلا أدخله الله الجنة وحرمه على النار.
ثم مات معاذ من ساعته يرحمهالله ، واستخلف عمرو بن العاص ، فصلى عليه عمرو ، ودخل قبره ، فوضعه فى لحده ، ودخل معه رجال من المسلمين ، فلما خرج عمرو من قبره ، قال : رحمك الله يا معاذ ، فقد كنت ما علمناك من نصحاء المسلمين ومن خيارهم ، وكنت مؤدبا للجاهل ، شديدا على الفاجر ، رحيما بالمؤمنين ، وايم الله لا يستخلف من بعدك مثلك ، عمرو بن العاص.
وكان مهلكه ومهلك أبى عبيدة رحمهماالله ، سنة ثمان عشرة ، وقد كان معاذ لما هلك أبو عبيدة كتب إلى عمر ينعاه : أما بعد ، فاحتسب امرأ كان لله أمينا ، وكان الله فى نفسه عظيما ، وكان علينا وعليك يا أمير المؤمنين عزيزا ، أبا عبيدة بن الجراح ، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وعند الله نحتسبه ، وبالله نثق له ، كتبت إليك وقد فشا الموت ، وهذا الوباء فى الناس ، ولن يخطئ أحد أجله ، ومن لم يمت فسيموت ، جعل الله ما عنده خيرا لنا من الدنيا وإن أبقانا أو هلكنا فجزاك الله عن جماعة المسلمين وعن خاصتنا وعامتنا رحمته ومغفرته ورضوانه وجنته ، والسلام عليك ورحمة الله.
قال : فو الله ما هو إلا أن أتى عمر الكتاب فقرأه حتى بكى بكاء شديدا ، ونعى أبا عبيدة إلى جلسائه ، فما رأيت جماعة المسلمين جزعوا على رجل منهم جزعهم على أبى عبيدة ، ثم ما مضى لذلك إلا أيام حتى جاء كتاب عمرو بن العاص ينعى فيه معاذ بن جبل يرحمهالله ، فلما أتت عمر وفاة هذا على أثر أبى عبيدة جزع عليه جزعا شديدا ، وبكى عمر والمسلمون ، وحزنوا عليه حزنا عظيما ، وقال عمر رضياللهعنه : رحم الله معاذا ، والله لقد رفع الله بهلاكه من هذه الأمة علما جما ، ولرب مشورة له صالحة قد قبلناها منه ، ورأيناها أدت إلى خير وبركة ، ورب علم أفادناه ، وخير دلنا عليه ، جزاه الله جزاء الصالحين.
وفرق عمر عند ذلك كور الشام ، فبعث عبد الله بن قرط الثماليّ على حمص ، وعزل عنها حبيب بن مسلمة ، واستعمل على دمشق أبا الدرداء الأنصاري ، واستعمل يزيد بن أبى سفيان على الجنود التي كانت بالشام ، ثم وجد عمر على عبد الله بن قرط بعد أن عمل له على حمص سنة فعزله عنها ، وبعث حين عزله عبادة بن الصامت أميرا عليها ، وقد كان بدريا عقبيا نقيبا ، ثم رضى بعد ذلك عن عبد الله بن قرط ، فرده على حمص.
ولما قدم عبادة بن الصامت على أهل حمص ، قام فى الناس خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على النبيّ صلىاللهعليهوسلم ثم قال : أما بعد ، ألا إن الدنيا عرض حاضر ، يأكل منه البر والفاجر ، ألا وإن الآخرة وعد صادق ، يحكم فيها ملك قادر ، ألا وإنكم معروضون على أعمالكم ، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧] ، ألا وإن للدنيا بنين ، وإن للآخرة بنين ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن كل أم يتبعها بنوها يوم القيامة.
ثم قال لشداد بن أوس : قم يا شداد ، فعظ الناس ، وكان شداد مفوها قد أعطى لسانا وحكمة وفضلا وبيانا ، فقام شداد ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس ، راجعوا كتاب الله وإن تركه كثير من الناس ، فإنكم لم تروا من الخير إلا أسبابه ، ولا من الشر إلا أسبابه ، وإن الله جمع الخير كله بحذافيره ، فجعله فى الجنة ، وجمع الشر كله بحذافيره ، فجعله فى النار ، ألا وإن الجنة حفت بالكره والصبر ، ألا وإن النار حفت بالهوى والشهوة ، ألا فمن كشف حجاب الكره والصبر أشفى على الجنة ، ومن أشفى على الجنة كان من أهلها ، ألا ومن كشف حجاب الهوى والشهوة أشفى على النار ، ومن أفى على النار كان من أهلها ، ألا فاعملوا بالحق تنزلوا منازل أهل الحق ، يوم لا يقضى إلا بالحق.
وقام أبو الدرداء فى أهل دمشق خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على نبيه صلىاللهعليهوسلم ثم قال : أما بعد ، يا أهل دمشق ، فاسمعوا مقالة أخ لكم ناصح ، ما بالكم تجمعون ما لا تأكلون ، وتبنون ما لا تسكنون ، وتأملون ما لا تدركون ، وقد كان من قبلكم جمعوا كثيرا ، وبنوا مشيدا ، وأملوا بعيدا ، وماتوا قريبا ، فأصبحت أموالهم بورا ، ومساكنهم قبورا وآمالهم غرورا ، ألا وإن عادا وثمود وقد كانوا ملأوا ما بين بصرى وعدن أموالا وأولادا ونعما ، فمن يشترى منى ما تركوا بدرهمين.
ذكر ما وعدنا به قبل من سياقة فتح قيسارية حيث ذكرها
أصحاب فتوح الشام خلافا لما أوردناه قبل ذلك عن سيف بن
عمر ، مما لا يوافق هذا مساقا ولا زمانا ، حسب ما يوقف عليه
فى الموضعين إن شاء الله تعالى
ذكروا (١) أن عمر بن الخطاب رضياللهعنه ، كتب إلى يزيد بن أبى سفيان بعد مهلك أبى عبيدة ومعاذ بن جبل رحمهماالله :
أما بعد ، فقد وليتك أجناد الشام كله ، وكتبت إليهم أن يسمعوا لك ويطيعوا ، وأن لا يخالفوا لك أمرا ، فاخرج ، فعسكر بالمسلمين ، ثم سر بهم إلى قيسارية ، فانزل عليها ، ثم لا تفارقها حتى يفتحها الله عليك ، فإنه لا ينفعنى افتتاح ما افتتحتم من أرض الشام مع
__________________
(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢٧٦ ـ ٢٨٣).
مقام أهل قيسارية فيها ، وهم عدو لكم ، إلى جانبكم ، وإنه لا يزال قيصر طامعا فى الشام ما بقى فيها أحد من أهل طاعته ممتنعا ، ولو قد افتتحتموها قطع الله رجاءه من جميع الشام ، والله فاعل ذلك وصانع به للمسلمين ، إن شاء الله تعالى.
فخرج يزيد ، فعسكر بالمسلمين ، وجاءه كتاب من عمر بنسخة واحدة إلى أمراء الأجناد :
أما بعد ، فقد وليت يزيد بن أبى سفيان أجناد الشام كله ، وأمرته أن يسير إلى قيسارية ، فلا تعصوا له أمرا ، ولا تخالفوا له رأيا ، والسلام.
وكتب يزيد إلى أمراء الأجناد نسخة واحدة : أما بعد ، فإنى قد ضربت على الناس بعثا ، أريد أن أسير بهم إلى قيسارية ، فاخرجوا من كل ثلاثة رجلا ، وعجلوا إشخاصهم إلى إن شاء الله ، والسلام.
فلم يمكث إلا قليلا حتى توافت عنده عساكر الأجناد كلها ، فلما اجتمعوا عنده قام يزيد ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :
أما بعد ، فإن كتاب أمير المؤمنين عمر المبارك الفاروق ، أتانى يحثنى على المسير إلى قيسارية ، وأن أدعوهم إلى الإسلام ، أو يدخلوا فيما دخل فيه أهل الكور من أهل الشام ، فيؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، فإن أبوا نزلت عليهم ، فلم أزايلهم حتى أقتل مقاتلتهم ، وأسبى ذراريهم ، فسيروا رحمكم الله إليهم ، فإنى أرجو أن يجمع الله لكم الغنيمة فى الدنيا والأجر فى الآخرة.
ثم قال للناس : ارتحلوا ، ووجه إلى حبيب بن مسلمة أن سر فى المقدمة ، فقد جعلتك عليها ، ثم امض حتى تنزل بأهل قيسارية ، فإنى أسرع شيء فى أثرك لحاقا بك.
فمضى حبيب فى جماعة عظيمة من المسلمين إلى قيسارية ، وبها جموع من بطارقة الروم وفرسانهم وأشدائهم ، وكل من كان كره الدخول فى دين الإسلام من النصارى ، ومن كان كره الجزية ، ومن بقى من أهل تلك المواطن التي كانوا يقاتلون المسلمين من الروم ، فكانت بها جموع كثيرة ، وحد وجد شديد ، فلما أقبل حبيب فى المقدمة ودنا من الحصن ، خرج إليه من قيسارية فرسان ورجال ، فنضحوهم بالنشاب ، وحملت خيلهم على المسلمين ، فانحاز حبيب وخيله ، حتى انتهى إلى يزيد ، فنزل يزيد وجعل على ميمنته عبادة بن الصامت ، وعلى الميسرة الضحاك بن قيس ، ورد حبيبا على الخيل ، ومشى يزيد
فى الرجال ، فحمل عليهم ، فاقتتلوا طويلا قتالا شديدا ، ثم بعث إلى الضحاك : أن احمل على ميمنتهم ، فحمل عليهم ، فهزمهم ، وقتل منهم مقتلة عظيمة ، وبعث إلى عبادة بن الصامت ، أن أحمل على ميسرتهم ، فحمل عليهم ، فثبتوا له ، فقاتلهم طويلا ، وقتل منهم مقتلة عظيمة ، ثم تحاجزوا ، وانصرف عبادة إلى موقفه ، فحرض أصحابه ووعظهم ، ثم قال : يا أهل الإسلام ، إنى كنت أحدث النقباء سنا ، وأبعدهم أجلا ، وقد قضى الله أن أبقانى حتى قاتلت هذا العدو معكم ، وإنى أسأل الله أن يرينى وإياكم أحسن ثواب المجاهدين ، والله الذي نفسى بيده ما حملت قط فى عصابة من المؤمنين على جماعة من المشركين إلا خلوا لنا العرصة ، وأعطانا الله عليهم الظفر غيركم ، فما بالكم حملتم على هؤلاء فلم تزيلوهم.
وإن عمر لما بلغه شدة قتال أهل اليرموك لكم قال : سبحان الله ، أو قد واقفوهم ، ما أظن المسلمين إلا قد غلوا ، ولو لم يغلوا ما واقفوهم ، ولظفروا بغير مئونة ، والله إنى خائف عليكم خصلتين : أن تكونوا قد غللتم ، أو لم تناصحوا الله فى حملتكم عليهم ، فشدوا عليهم يرحمكم الله معى إذا شددت ، فلا والله لا أرجع إلى موقفى هذا إن شاء الله ولا أزايلهم حتى يهزمهم الله أو أموت دونهم ، ثم حمل عليهم ، وحملت معه الميمنة على ميسرة الروم ، فصبروا لهم حتى تطاعنوا بالرماح ، واضطربوا بالسيوف ، واختلفت أعناق الخيل ، فلما رأى ذلك عبادة ترجل ، ثم نادى عمير بن سعد الأنصاري فى المسلمين : يا أهل الإسلام إن عبادة بن الصامت سيد المسلمين ، وصاحب راية رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد نزل وترجل ، فالكرة الكرة إلى رحمة الله والجنة ، واتقوا عواقب الفرار ، فإنها تقود إلى النار.
وأقبل المسلمون إلى عبادة وهو يجالدهم ، وقد كانوا أحاطوا به ، فحمل عليهم ، فقصف بعضهم على بعض ، فأزالوهم عن موقفهم ، ثم شدوا عليهم ، وحمل حبيب بن مسلمة على من يليه منهم ، ثم حمل يزيد بن أبى سفيان بجماعة المسلمين عليهم ، فانهزموا انهزاما شديدا ، ووضع المسلمون سلاحهم وسيوفهم حيث أحبوا منهم ، وأتبعوهم يقتلونهم كيف شاءوا ، حتى حجزوهم فى حصنهم ، وقد قتلوا من رؤسائهم وبطارقتهم وفرسانهم مقتلة عظيمة ، ثم أقاموا عليهم فحصروهم وقطعوا عنهم المادة ، وضيقوا عليهم ، وحاصروهم أشد الحصار ، فلما طال عليهم البلاء تلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : اخرجوا بنا إليهم نقاتلهم حتى نظفر بهم أو نموت كراما ، فاستعدوا فى مدينتهم ، وخرجوا على تعبئتهم ، والمسلمون غارون لا يشعرون ولا يعلمون أنه يخرجون إليهم ،