أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي
المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦٣٢
وكانت هزيمة المشركون ، فاتبعهم المسلمون حتى انتهوا إلى نهر بنى سليم ، ثم كروا على المسلمين وركدت الحرب بينهم مليا ، فلا يسمع إلا هرير الرجال ، وقد كان أنس بن هلال النمرى قدم ممدا للمثنى فى أناس من النمر نصارى ، وابن مردى الفهرى الثعلبى فى ناس من قومه كذلك ، وقالوا حين رأوا نزول العجم بالعرب : نقاتل مع قومنا ، فلما طال القتال يومئذ واشتد عمد المثنى إلى أنس بن هلال ، فقال : يا أنس ، إنك امرؤ عربى ، وإن لم تكن على ديننا ، فإذا رأيتنى قد حملت على مهران فاحمل معى ، وقال لابن مردى الفهرى مثل ذلك ، فأجاباه ، فحمل المثنى على مهران فأزاله حتى دخل فى ميمنته ، ثم خالطوهم ، واجتمع القلبان ، وارتفع الغبار والمجنبات تقتتل ، لا يستطيعون أن يفزعوا لنصر أميرهم ، لا المسلمون ولا المشركون ، وقد كان المثنى قال لهم : إذا رأيتمونا أصبنا فلا تدعوا ما أنتم فيه ، فإن الجيش ينكشف ثم ينصرف ، فالزموا مصافكم وأغنوا عنا من يليكم ، وأوجع قلب المسلمين قلب المشركون ، ووقف المثنى حتى أسفر الغبار وقد فنى قلب المشركين ، والمجنبات قد هز بعضها بعضا ، فلما رآه المسلمون وقد أزال القلب وأفنى أهله قويت مجنبات المسلمين على المشركين وجعلوا يردون الأعاجم على أدبارهم ، وجعل المسلمون والمثنى فى القلب يدعون لهم بالنصر ، ويرسل إليهم من يذمرهم ويقول لهم : إن المثنى يقول لكم عادتكم فى أمثالهم ، انصروا الله ينصركم ، حتى هزم القوم.
وكانت راية الأزد مع عبد الله بن سليم ، فجعل بتقدم بها ، فقال له رجل : لو تأخرت قليلا ، فقال :
أقسمت بالرحمن أن لا أبرحا |
|
أو يصنع الله لنا فيفتحا |
وقاتل حتى قتل ، وتقدم أبو أمية عبد الله بن كعب الأزدى وهو يقول : اللهم إليك أسعى لترضى ، وإياك أرجو فاغفر ذنبى ، ثم تقدم فقاتل حتى قتل ، رحمهالله ، فحمل أبو رملة بن عبد الله بن سليم ، وكانت عنده الرباب ابنة عبد الله بن كعب ، فقتل قاتل عبد الله بن كعب واحتز رأسه ، فأتى به ابنه ، وهو غلام مراهق ، فقال : دونك رأس قاتل أبيك ، فعض الفتى بأنفه ، ومر به رجل من بكر بن وائل يقال له عجل ، فقال : يا فتى ما أشجعك على الأموات فحمى الفتى واعترض العدو ، فاتبعه عمه جندب وهو يقول : يا عجل ، قتلت ابن أخى ، فلحقه وقد قتل رجلا ، فرده ، وقتل حصين بن القعقاع بن معبد ابن زرارة ، فأخذ الراية مولى لهم أو مولى للأزد يقال له خصفة ، فقاتل حتى قتل ، ودارت بينهم رحى الحرب ، وأخذت جرير الرماح فنادى : وا قوماه ، أنا جرير ، فقاتلت عنه جماعة من قيس ليس معهم غيرهم حتى خلص ، وشدت جماعة على مسعود بن
حارثة وهو معلم بعصابة خضراء وهو يفرى فريا ، فطعن رجلا فقتله ، وطعن آخر فانكسر رمحه فاختلفا بسيفيهما ضربتين فقتل كل واحد منهما صاحبه ، فوقف عليه أخوه المثنى فقال : هكذا مصارع خياركم ، وقيل : إنه ارتث يومئذ فمات بعد فى أناس من الجرحى من أعلام المسلمين ماتوا كذلك ، منهم خالد بن هلال ، فصلى عليهم المثنى وقدمهم على الأسنان والقرآن ، وقال : والله إنه ليهون علىّ وجدى أن شهدوا البويب ، أقدموا وصبروا ، ولم يجزعوا ولم يتكلموا ، وإن كان فى الشهادة لكفارة لبحور الذنوب ، ولما ارتث مسعود بن حارثة يومئذ فتضعضع من معه رأى ذلك وهو دنف فقال : يا معشر كعب بن وائل ، ارفعوا رايتكم رفعكم الله ، لا يهولنكم مصرعى ، وقتل جرير وغالب بن عبد الله الليثى وحنظلة بن ربيعة الأسدي وعروة بن زيد الخيل كل واحد منهم عشرة.
وقال ربعى بن عامر ، وشهدها يومئذ مع أبيه : احصى مائة رجل من المسلمين قتل كل واحد منهم عشرة فى المعركة. وذكر أن غالبا وعروة وعرفجة فى الأزد كانوا من أصحاب التسعة ، فالله أعلم.
وقال يومئذ لعروة رجل من قومه ، ورآه يقدم : أهلكت قومك يا عروة ، فقال :
يا قوم لا تعنفونى قومى |
|
لا تكثروا عدلى ولا من لومى |
لا تعدونى النصر بعد اليوم |
وسمع رجل يومئذ من مهران يرتجز وهو يقول :
إن تسألوا عنى فإنى مهران |
|
أنا لمن أنكرنى ابن باذان |
فعجب من أن يتكلم بالعربية ، فقيل له : إنه ولد باليمن ، ويقال : إنه عربى نشأ مع أبيه باليمن ، وكان أبوه عاملا لكسرى.
وأبصر جرير بن عبد الله ، مهران يقاتل ، فحمل عليه جرير والمنذر بن حسان فقاتلاه ، طعنه المنذر فأداره عن دابته وقد وقذه فنزل إليه جرير فاحتز رأسه وتنازعا سلبه ثم أخذ جرير سلاحه ، وأخذ المنذر حليته وثيابه وبرذونه ، وقيل فى قتله غير هذا ، وهو مما حدثت به أم ولد لزيد بن صوحان أن زيدا أخرجها معه إلى العسكر حتى لقوا مهران صاحب كسرى ، فجعل الناس يحيدون عن مهران ، فقال زيد : ما شأن الناس يحيدون عن هذا؟ قيل : كرهوه ، فنزل زيد فمشى إليه فاختلفا ضربتين ، فأطن مهران يده ، فرجع فأخذ عمامتى فشقها ثم لفها على يده ثم عاوده فنسف ساقيه بالسيف فقتله ، فابتدر المسلمون
سلبه ، فلم يأخذ زيد من سلبه إلا السيف ، نفله إياه الأمير ، فكان زيد يقول : من يشترى سيفا وهذا أثره ، ويخرج يده الجذماء فيريها ، وقد قيل إن غلاما نصرانيا من بنى تغلب هو الذي قتل مهران ، فالله أعلم.
وهزم المشركون فأتوا الفرات ، واتبعهم المسلمون ، فانتهوا إلى الجسر ، وقد عبرت طائفة من المشركين الجسر ، فحالوا بين الباقين وبينه ، فأخذوا يمينا وشمالا ، فقاتلهم المسلمون حتى أمسوا ، واقتحم طائفة الفرات فغرق بعضهم ونجا بعض ، ورجع المسلمون عنهم حين أمسوا ، فعبر من بقى منهم الجسر ، ثم قطعوه فأصبح المسلمون فعقدوه واتبعوهم حتى بلغوا بيوت ساباط ، ثم انصرفوا وصلبوا مهران على الجسر.
ويقال : إن المثنى قطع الجسر أولا ليمنع أهل فارس العبور ، ثم ندم على ذلك وقال : لقد عجزت عجزة وقى الله شرها بمسابقتى إياهم إلى الجسر وقطعه حتى أحرجتهم ، فإنى غير عائد فلا تعودوا ولا تعتدوا بى أيها الناس ، فإنما كانت زلة ، لا ينبغى إخراج أحد إلا من لا يقوى على الامتناع.
ولما افترق الأعاجم على شاطئ الفرات مصعدين ومصوبين واعتورتهم خيول المسلمين أكثروا القتل فيهم حتى جعلوهم جثاء ، فما كانت بين العرب والعجم وقعة كانت أقوى رمة منها.
حدث أبو روق قال : والله إن كنا لنأتى البويب ، يعنى بعد ذلك بزمان ، فنرى ما بين السكون وبنى سليم عظاما بيضاء تلولا تلوح من هامهم وأوصالهم نعتبر بها. قال : وحدثني بعض من شهدها أنهم كانوا يحرزونها مائة ألف.
واقتسم المسلمون ما أفاء الله عليهم ، ونفلت بجيلة وجرير ما جعل لهم عمر بن الخطاب وحمل الخمس أو باقى الخمس ، وجلس المثنى للناس يحدثهم ويحدثونه لما فرغوا ، وكلما جاء رجل فتحدث قال له المثنى : أخبرنى عنك ، فقال قرط بن جماح العبدرى : قتلت رجلا فوجدت منه رائحة المسك فقلت : مهران ، ورجوت أن يكون إياه ، فإذا هو شهريرار صاحب الخيل فو الله ما رأيته إذ لم يكن مهران شيئا. وكان قرط قد قاتل يومئذ حتى دق قنى وقطع أسيافا.
وقال ربعى وهو يحدث المثنى : لما رأيت ركود الحرب واحتدامها قلت : تترسوا بالمجان فإنهم شادّون عليكم فاصبروا لشدتين وأنا زعيم لكم بالظفر فى الثالثة ، فأجابونى فولى الله كفالتى.
وقال ابن ذى السهمين محدثا : قلت لأصحابى إنى سمعت الأمير يقرأ ويذكر فى قراءته الزحف ، فما ذكره إلا لفضل فيه ، فاقتدوا برايتكم ولتحمى خيلكم رجلكم ، وازحفوا فما لقول الله من خلف ، فأنجز الله لهم وعده كما رجوت.
وقال عرفجة محدثا : حزنا كتيبة منهم إلى الفرات ، ورجوت أن يكون الله قد أذن فى غرقهم وأن يسلينا بها عن مصيبة الجسر ، فلما حصلوا فى حد الإحراج كروا علينا فقتلناهم قتالا شديدا حتى قال بعض قومى : لو أخذت رايتك ، فقلت علىّ إقدامها ، وحملت بها على حاميتهم فقتلته فولوا نحو الفرات فما بلغوه ومنهم أحد فيه الروح.
وقد كان المثنى قال يومئذ : من يتبع آثار المنهزمة حتى يبلغ السيب؟ فقام جرير فى قومه فقال : يا معشر بجيلة إنكم وجميع المسلمين ممن شهد هذا اليوم فى السابقة والفضيلة سواء ، وليس لأحد منهم فى هذا الخمس غدا من النفل مثل الذي لكم منه ، نفلا من أمير المؤمنين ، فلا يكونن أحد أسرع إلى هذا العدو ولا أشد عليه منكم للذى لكم منه إلى ما ترجون ، فإنما تنتظرون إحدى الحسنيين الشهادة والجنة أو الظفر والغنيمة والجنة.
ومال المثنى على الذين أرادوا أن يستنثلوا بالأمس من منهزمة يوم الجسر فقال : أين المستنثل بالأمس وأصحابه؟ انتدبوا فى آثار هؤلاء القوم إلى السيب وأبلغوا من عدوكم ما تغيظونهم به فهو خير لكم وأعظم أجرا ، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم.
وكان هذا المستنثل ، أو هو إن شاء الله سعد بن عبيد الأنصاري ، قد أراد الخروج بالأمس من صف المسلمين إلى العدو ، فقيل للمثنى : ألا ترى إلى هذا الرجل الذي يريد أن يستنثل ، فركض إليه ، فقال : يا أبا عبد الله ، ما تريد أن تصنع؟ قال : فررت يوم أبى عبيد ، فأردت أن تكون توبتى وانتصارى أن أمشى إليهم فأقاتل حتى أقتل ، قال : إذن لا تضر عدوك ولا تنفع وليك ، ولكن أدلك على ما هو خير لك ، تثبت على صفك وتجزى قرنك وتواسى أخاك بنفسك وتنصره وينصرك فتكون قد نفعت المسلم وضررت العدو ، فأطاعه وثبت مكانه ، فكان يومئذ أول منتدب.
فأمر المثنى أن يعقد لهم الجسر ثم أخرجهم فى أثر القوم ، واتبعتهم بجيلة وخيول المسلمين بعد من كل فارس ، ولم يبق فى العسكر جسرى إلا خرج فى الخيل ، فانطلقوا فى طلب العدو حتى بلغوا السيب ، فأصابوا من البقر والسبى وسائر الغنائم شيئا كثيرا فقسمه المثنى عليهم ، وفضل أهل البلاء من جميع القبائل ، ونفل بجيلة يومئذ ربع الخمس بينهم بالسوية وبعث بثلاثة أرباعه إلى عمر ، رضياللهعنه ، وألقى الله الرعب فى قلوب
أهل فارس ، وكتب القواد الذين قادوا الناس فى الطلب إلى المثنى ، وكتب إليه عاصم وعصمة وجرير : إن الله قد كفى رستم ووجه لنا ما رأيت ، وليس دون القوم شيء ، فأذن لنا فى الإقدام ، فأذن لهم فأغاروا حتى بلغوا ساباط ، وتحصن أهلها منهم ، واستباحوا القريات دونها وراماهم أهل الحصن عن حصنهم بساباط ثم انطفئوا راجعين إلى المثنى.
قالوا : وكان المثنى وعصمة وجرير أصابوا فى أيام البويب على الظهر نزل مهران غنما ودقيقا وبقرا ، فبعثوا بها إلى عيالات من قدم من المدينة وقد خلفوهن بالقوادس ، وإلى عيالات أهل الأيام قبلهم وهن بالحيرة ، وكان دليل الذين ذهبوا بنصيب العيالات اللواتى بالقوادس عمرو بن عبد المسيح بن بقيلة ، فلما رفعوا للنسوة فرأين الخيل تصايحن وحسبنها غارة فقمن دون الصبيان بالحجارة والعمد ، فقال عمرو : هكذا ينبغى لنساء هذا الجيش ، وبشروهن بالفتح.
ولما أهلك الله ، عزوجل ، مهران استكمن المسلمون من الغارة على السواد فيما بينهم وبين دجلة ، فمخروها لا يخافون كيدا ولا يلقون فيها مانعا ، وانتفضت مسالح العجم فرجعت إليهم واعتصموا بالساباط ، وسرهم أن يتركوا ما وراء دجلة ، ونزل جرير والمثنى الحيرة وبثا المسالح فيما بين الأنبار وعين التمر إلى الطف ، فمن كان أقام على صلحه قبلوا ذلك منه ، ومن نقض أغاروا عليه ، فكان أهل الحيرة وبانيقيا وغيرهم على صلحهم.
وكانت وقعة البويب فى رمضان من سنة ثلاث عشرة.
وتنازع ، أيضا ، المثنى وجرير الإمارة ، وكان المثنى أحب إلى نزار ، وجرير أحب إلى اليمانية ، فكتب إلى عمر ، رحمهالله ، فى ذلك ، فكان من مشورته فيه وعمله ما سيأتى بعد ذكره.
وشخص المثنى عند ذلك فنزل أليس ، ويقال شراف ، وهو وجع من جراحات به ، وارتحل معه عامة النزارية ، فلما رأى ذلك جرير تحول فنزل العذيب مع العيال ، ومعه أخلاط الناس وهو الأمير عليهم فى قول بعضهم ، وفى هذه الإمارات كلها اضطراب من نقلة الأخبار واختلاف بين القبائل ، فبنو شيبان تقول : كان جرير الأمير يوم قتل مهران المثنى ، وبجيلة تقول : كان الأمير يوم ذلك وقبل وبعد ، والأظهر مما تقدم من الأخبار أن المثنى كان الأمير فى تلك الحرب ، إلا أن يكون جرير على من معه كما قد قيل ، فالله تعالى أعلم.
وقد قال الأعور الشنى فلم يذكر لغير المثنى يومئذ إمارة :
هاجت عليك ديار الحرب أحزانا |
|
واستبدلت بعد عبد القيس همذانا |
وقد أرانا بها والشمل مجتمع |
|
أدنى النخيلة قتلى جند مهرانا |
كأن الأمير المثنى يوم راجفة |
|
مهران أشجع من ليث بخفانا |
أزمان سار المثنى بالخيول لهم |
|
فقتل الزحف من رجلى وركبانا |
سما لمهران والجيش الذي معه |
|
حتى أبادهم مثنى ووحدانا |
إذ لا أمير أراه بالعراق لنا |
|
مثل المثنى الذي من آل شيبانا |
حديث غارة المثنى على سوقى الخنافس وبغداد (١)
ذكر سيف عن شيوخه أن المثنى لما نزل أليس ، قرية من قرى الأنبار ، وهذه الغزاة تدعى غزاة الأنبار الآخرة ، وغزاة أليس الآخرة ، وقد مخر السواد وخلف بالحيرة بشير بن الخصاصية ، وأرسل جريرا إلى ميسان ، وهلال بن علقمة إلى دست ميسان وأذكى المسالح بعصمة بن فلان الضبى ، وبالكلح الضبى ، وبعرفجة البارقى وأمثالهم من قواد المسلمين ، ألزّ به رجلان : أحدهما أنبارى والآخر حيرى ، يدله كل واحد منهما على سوق ، فأما الأنبارى فدله على سوق الخنافس ، وأما الحيرى فدله على بغداد. فقال المثنى : أيتهما قبل صاحبتهما؟ فقالوا : بينهما أيام ، فقال : أيهما أعجل؟ قالوا : سوق الخنافس يتوافى إليها الناس ، ويجتمع إليها ربيعة وقضاعة يخفرونهم. فاستعد لها المثنى ، حتى إذا ظن أنه يوافيهم يوم سوقها ركب نحوهم ، فأغار على الخنافس يوم سوقها ، وبها خيلان من ربيعة وقضاعة وهم الخفراء ، فانتسف السوق وما فيها ، وسلب الخفراء ، ثم رجع عوده على دبئه حتى تطرق دهاقين الأنبار طروقا فى أول يومه فتحصنوا منه ، فلما عرفوه نزلوا إليه فأتوه بالأعلاف والزاد ، وأتوا بالأدلاء على بغداد ، وكان وجهه إلى سوق بغداد فصبحهم.
وقال المثنى فى غارته على خنافس :
صبحنا فى الخنافس جمع بكر |
|
وحيا من قضاعة غير ميل |
بفتيان الوغى من كل حى |
|
تبارى فى الحوادث كل جيل |
نسفنا سوقهم والخيل زور |
|
من التطواف والشد البجيل |
__________________
(١) انظر : الطبرى (٣ / ٤٧٢ ـ ٤٧٦) ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادى (١ / ٢٥ ـ ٢٧) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٢ / ٣٠٦ ، ٣٠٧) ، نهاية الأرب للنويرى (١٩ / ١٨٧ ـ ١٨٩).
وذكر الخطيب أبو بكر بن ثابت البغدادى فى تاريخه (١) أن بغداد كانت فى أيام مملكة العجم قرية يجتمع فيها رأس كل سنة التجار ، ويقوم بها للفرس سوق عظيمة ، فلما توجه المسلمون إلى العراق وفتحوا أول السواد ، ذكر للمثنى بن حارثة أمر سوق بغداد ، ثم أورد بإسناد له عن ابن إسحاق أن أهل الحيرة قالوا للمثنى ، وذكره سيف من طريق آخر أن رجلا من أهل الحيرة قال للمثنى ، واللفظ فى الحديثين متقارب ، وقد دخل حديث أحدهما فى حديث الآخر ، قالوا : ألا ندلك على قرية يأتيها تجار مدائن كسرى وتجار السواد ويجتمع بها فى كل سنة من الناس مثل خراج العراق ، وهذه أيام سوقهم التي يجتمعون فيها ، فإن أنت قدرت على أن تعبر إليهم وهم لا يشعرون أصبت بها ما لا يكون غناء للمسلمين وقوة على عدوهم ، وبينها وبين مدائن كسرى عامة يوم ، فقال لهم : فكيف لى بها؟ قالوا : إن أردتها فخذ طريق البر ، حتى تنتهى إلى الأنبار ، ثم تأخذ رءوس الدهاقين ، فيبعثون معك الأدلاء ، فتسير سواد ليلة من الأنبار حتى تأتيهم ضحى.
قال : فخرج من النخيلة ومعه أدلاء الحيرة ، حتى دخل الأنبار ، فنزل بصاحبها فتحصن منه ، فأرسل إليه : ما يمنعك من النزول؟ فأرسل إليه : إنى أخاف ، فأرسل إليه : انزل فإنك آمن على دمك وقريتك ، وترجع سالما إلى حصنك ، فتوثق عليه ثم نزل ، فأطعمه المثنى ، وخوفه واستكتمه ، وقال : إنى أريد أن أعبر فابعث معى الأدلاء إلى بغداد ، حتى أغير منها إلى المدائن ، قال : أنا أجئ معك ، قال المثنى : لا أريد أن تجيء معى ، ولكن ابعث معى من يعرف الطريق ، ففعل وأمر لهم بزاد وطعام وعلف ، وبعث معهم دليلا ، فأقبل حتى إذا بلغ المنصف قال له المثنى : كم بيننا وبين هذه القرية؟ قال : أربعة فراسخ أو خمسة ، وقد بقى عليك ليل ، فقال لأصحابه : من ينتدب للحرس ، فانتدب له قوم ، فقال لهم : اذكروا حرسكم ، ثم نزل وقال للناس : أنزلوا فاقضوا واطمعوا وتوضئوا وتهيئوا وابعثوا الطلائع فلا يلقون أحدا إلا حبسوه ، ثم سار بهم فصبحهم فى أسواقهم ، فوضع فيهم السيف ، فقتل وأخذ الأموال ، وقال لأصحابه : لا تأخذوا إلا الذهب والفضة ، ومن المتاع ما يقدر الرجل منكم على حمله على دابته ، وهرب الناس ، وتركوا أمتعتهم وأموالهم ، وملأ المسلمون أيديهم من الصفراء والبيضاء والحرّ من كل شيء.
ثم كر راجعا ، ثم نزل بنهر السيلحيين من الأنبار ، فقال للمسلمين : احمدوا الله الذي سلمكم وغنمكم ، وانزلوا فاعلفوا خيلكم من هذا القصب ، وعلقوا عليها ، وأصيبوا من
__________________
(١) انظر : تاريخ بغداد (١ / ٢٥ ـ ٢٧).
أزوادكم ، فسمع القوم يهمس بعضهم إلى بعض أن القوم سراع الآن فى طلبنا ، فقال : تناجوا بالبر والتقوى ولا تتناجوا بالإثم والعدوان ، قبح الله من يتناجون به ، انظروا فى الأمور وقدروها ثم تكلموا ، تحسبونهم الآن فى طلبكم ، فو الله لو كان الصريخ قد بلغهم الآن إنه لكبير ، ولو كان الصريخ عندهم لبلغهم من رعب غارتنا عليهم إلى جنب مدائنهم ما يشغلهم عن طلبنا حتى نلحق معسكرنا وجماعتنا ، إن للغارات روعات تنتشر عليها يوما إلى الليل ، ولو كان بهم من القوة ما يحملهم على طلبنا ثم جهدوا وجهدهم ما أدركونا ، نحن على الجياد العراب وهم على المقارف البطاء ، ولو أنهم طلبونا فأدركونا لم نقاتلهم إلا التماس الثواب ورجاء النصر ، فثقوا بالله وأحسنوا به الظن ، فقد نصركم الله عليهم وهم أكثر منكم وأعز ، وسأخبركم عنى وعن انكماشى والذي أريد من ذلك ، إن خليفة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أبا بكر أوصانا أن نقل العرجة ونسرع الكرة فى الغارات ، ونسرع فى غير ذلك الأوبة ، فأقبلوا ومعهم دليلهم حتى انتهوا إلى الأنبار ، فاستقبلهم صاحبها بالكرامة ، فوعده المثنى بالإحسان إليه لو استقام أمرهم ، ورجع المثنى إلى عسكره.
حديث السرايا من الأنبار (١)
قالوا : لما رجع المثنى من بغداد إلى الأنبار ، سرح المضارب العجلى وزيدا إلى الكباث ، ثم خرج فى أثرهم ، فقدم الرجلان الكباث ، وقد ارفض عنه أهله وأخلوه ، وكانوا كلهم من بنى تغلب ، وكان عليهم فارس العناب التغلبى يحميهم ، فركب المسلمون آثارهم يتبعونهم ، فأدركوا أخرياتهم ، فحماهم فارس العناب ساعة ثم هرب ، وقتلوا فى أخرياتهم فأكثروا ، ورجع المثنى إلى عسكره بالأنبار ، فسرح فرات بن حيان ، وكان خلفه فى عسكره ، وسرح معه عتبة بن النهاس ، وأمرهما بالغارة على أحياء من تغلب والنمر بصفين ، ثم اتبعهما وخلف على الناس عمرو بن أبى سلمى الهجيمى.
فلما دنوا من صفين ، فر أهلها فعبروا الفرات إلى الجزيرة وتحصنوا ، وفارق المثنى فراتا وعتبة ، فأرمل المثنى وأصحابه من الزاد ، حتى نحروا رحلهم إلا ما لا بد لهم منه فأكلوها حتى أخفافها وعظامها وجلودها ، ثم أدركوا عيرا من أهل دياف وحوران ، فقتلوا العلوج وأصابوا ثلاثة نفر من بنى تغلب خفراء ، فأخذوا العير ، وكان ظهرا فاضلا ، وقال
__________________
(١) انظر : الطبرى (٣ / ٤٧٥ ، ٤٧٦) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٣٠٧) ، نهاية الأرب للنويرى (١٩ / ١٨٨ ، ١٨٩).
لهم : دلونى ، فقال له أحدهم : أمنونى على أهلى ومالى ، وأدلكم على حى من بنى تغلب غدوت من عندهم اليوم ، فآمنه المثنى وسار معه يومه ، حتى إذا كان العشى هجم عليهم ، فإذا النعم صادرة عن الماء ، والقوم جلوس بأفنية البيوت ، فبعث غارته فقتلوا المقاتلة ، وسبوا الذرية ، وانتسفوا الأموال ، وإذا هم بنو ذى الرويحلة ، فاشترى من كان من ربيعة السبايا بنصيبهم من الفيء ، فأعتقوا سبيهم ، وكانت ربيعة لا تسبى ، إذا العرب يتسابون فى جاهليتهم.
وأخبر المثنى أن جمهور من سلك البلاد قد انتجعوا شاطئ دجلة ، فسرح فى آثارهم حذيفة بن محصن ، وكان على مقدمته فى غزواته كلها بعد البويب ، ثم اتبعه فأدركوهم دون تكريت يخوضون الماء ، فأصابوا ما شاءوا من النعم ، حتى أصاب الرجل خمسا من السبى وخمسا من النعم ، وجاء المثنى بذلك حتى نزل على الناس بالأنبار ، ومضى فرات وعتيبة فى وجههما ، حتى أغارا على صفين وبها النمر وتغلب متساندين ، فأغاروا عليهم ونقبوهم ، فرموا بطائفة فى الماء ، فناشدوهم وجعلوا ينادون : الغرق الغرق ، فلم يقلعوا عنهم ، وجعل عتيبة والفرات يذمرون الناس وينادونهم : تغريق بتحريق ، يذكرونهم يوما من أيام الجاهلية أحرقوا فيه قوما من بكر بن وائل فى غيضة من الغياض ، ثم انطلق المسلمون راجعين إلى المثنى وقد غرقوهم.
فلما تراجع الناس إلى عسكرهم بالأنبار وتوافت بها البعوث والسرايا ، انحدر بهم المثنى إلى الحيرة فنزل بها ، وكانت لعمر ، رحمهالله ، فى كل جيش عيون يتعرفون الأخبار من قبلهم ، فكتب إليه بما كان فى تلك الغزاة ، وأبلغ الذي قال عتيبة والفرات ، يوم بنى تغلب والماء ، فبعث إليهما فسألهما ، فأخبراه أنهما قالا ذلك على وجه المثل ، وأنهما لم يفعلا ذلك على وجه طلب بذحل فى الجاهلية ، فاستحلفهما ، فحلفا ما أرادا بذلك إلا المثل ، وإعزاز الإسلام ، فصدقهم وردهما إلى المثنى.
ذكر ما هيج حرب القادسية على ما ذكره سيف عن أشياخه (١)
قالوا : قال أهل فارس لرستم والفيزران ، وهما عميدا أهل فارس : أين يذهب بكما لم يبرح بكما الاختلاف حتى وهنتما أهل فارس ، وأطمعتما فيهم عدوهم وإن لم يبلغ من خطركما أن تقركما فارس على هذا الرأى ، وأن تعرضاها للهلكة ، ما تنتظرون ، والله ما
__________________
(١) انظر : الطبرى (٣ / ٤٧٧ ـ ٤٧٩) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٣٠٨ ، ٣٠٩).
تنتظرون إلا أن ينزل بنا ونهلك ، ما بعد ساباط وبغداد وتكريت إلا المدائن ، والله ما جرأ علينا هذا غيركم ، ولو لا أن فى قتلكم هلاكنا لعجلنا لكم القتل الساعة ، ولئن لم تنتهوا لنهلكنكم ثم نهلك وقد اشتفينا منكم.
قالوا : فقال الفيرزان ورستم لبوران ابنة كسرى : اكتبى لنا نساء كسرى وسراريه ونساء آل كسرى وسراريهم ، ففعلت ، وأخرجت ذلك إليهم فى كتاب ، فأرسلوا فى طلبهن فلم تبق امرأة منهن إلا أتوا بها ، فوضعوا عليهن العذاب يستدلونهن على ذكر من آل كسرى ، فلم يوجد عند واحدة منهن أحد منهم ، وقلن ، أو من قال منهن : لم يبق منهم إلا غلام يدعى يزدجرد من ولد شهريار بن كسرى ، وأمه من أهل داريا ، فأرسلوا إليها فأخذوها به ، فدلتهم عليه ، وكانت قد دفعته إلى أخواله فى أيام شيرى حين جمعهن فى القصر الأبيض ، فقتل الذكور ، واعدتهم ثم دلته إليهم فى زبيل ، فأرسلوا إليه ، فجاءوا به وهو ابن إحدى وعشرين سنة فملكوه ، واجتمعوا عليه ، واطمأنت فارس واستوثقوا ، وتبارى الرؤساء فى طاعته ومناصحته ، فسمى الجنود لكل مسلحة كانت لكسرى ، أو موضع ثغر ، وبلغ ذلك من أمرهم واجتماعهم على يزدجرد المثنى والمسلمين ، فكتبوا بذلك إلى عمر ، رحمهالله ، بما ينتظرون ممن بين ظهرانيهم ، فلم يصل الكتاب إلى عمر حتى كفر أهل السواد ، من كان له منهم عهد ومن لم يكن له ، فخرج المثنى على حاميته حتى ينزل بذى قار ، وينزل الناس بذى الطف فى عسكر واحد ، فكتب إليهم عمر :
أما بعد ، فاخرجوا من بين ظهرانى الأعاجم ، وتفرقوا فى المياه التي تليهم على حدود أرضكم وأرضهم ، ولا تدعوا فى ربيعة ومضر أحدا من أهل النجدات ، ولا فارسا إلا أجلبتموه ، فإن جاء طائعا وإلا حشدتموه ، احملوا العرب على الجد إذا جد العجم ، لتلقوا جدهم بجدكم.
فنزل المثنى بذى قار ، ونزل الناس بالجل وشراف إلى غضى ، وغضى جبال البصرة ، وكان جرير بن عبد الله بغضى وسبرة بن عمرو العنبرى ومن أخذ أخذهم فيمن معهم إلى سلمى ، فكنوا فى أمواه العراق من أولها إلى آخرها مسالح ينظر بعضهم إلى بعض ، ويغيث بعضهم بعضا إن كان كون ، وذلك فى ذى القعدة سنة ثلاث عشرة.
وعادت مسالح كسرى وثغوره وهم فى ملك فارس هائبون مشفقون ، والمسلمون يتدفقون قد ضروا بهم كالأسد يثأر عن فريسته ، ثم يعاود الكر وأمراؤهم يكفكفونهم ؛
لأن عمر ، رحمهالله ، كان أمرهم أن لا يقاتلوا إلا أن يقاتلوا حتى يأتيهم أمره وتصلهم أمداد المسلمين.
تأمير عمر ، رضياللهعنه ، سعد بن أبى وقاص
على العراق وذكر الخبر عن حرب القادسية (١)
ذكر المدائنى بإسناده إلى رجال من أهل العلم يزيد بعضهم على بعض أن عمر بن الخطاب ، رضياللهعنه ، كان يخير من قدم عليه من العرب بين الشام وبين العراق ، فكانت مضر تختار العراق وتختار أهل اليمن الشام ، فقال عمر : اليمن أشد تعاطفا يحنون إلى سلفهم ، ونزار كلهم سلف نفسه ، ومضر لا تحن إلا سلفها ، ولم يكن أحد من العرب أشد إقداما على أرض فارس من ربيعة ، فبلغ عمر اختلاف المثنى بن حارثة وجرير ابن عبد الله فى الإمارة ، فاستشار الناس ، فقال المغيرة بن شعبة : يا أمير المؤمنين ، تداركهم برجل من المهاجرين واجعله بدريا ، فقال : أشيروا علىّ برجل ، فقال عبد الرحمن ابن عوف : قد وجدته ، قال : من هو؟ قال : سعد بن أبى وقاص ، قال : هو لها ، فكتب عمر إلى المثنى : لم أكن لأستعملك على رجل من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وكتب إلى جرير والمثنى : إنى موجه سعدا إليكما ، فاسمعا له وأطيعا.
وذكر الطبرى وغيره فى هذا الموضع من تحرك عمر ، رضياللهعنه ، للخروج إلى العراق بنفسه واستدعائه وجوه المهاجرين والأنصار للمشورة عليه فيه ، بعد أن خرج بذلك الرسم فنزل صرارا ، وقدم بين يديه طلحة بن عبيد الله فنزل الأعوص ، وخلف بالمدينة على بن أبى طالب واليا عليها ، وإشارة أولى الرأى عليه بالرجوع إلى المدينة ، والاستخلاف على ذلك الوجه ، واستنفار العرب له ، ما قد فرغنا من ذكره فى صدر وقعة البويب من خبر الجسر ، حيث ذكره المدائنى ، ولعل ذلك الموضع أولى به ، فإن يكن كذلك فقد ذكرناه حيث ينبغى ، وإن يكن موضعه هذا ، فقد نبهنا عليه ليعرف ما وقع من الاختلاف بين المؤلفين فى هذا الشأن بحسب ما تأذى إليهم من جهة النقل ، والأمر فى ذلك قريب ، والاختلاف فى المنقولات غير مستنكر ، والله تعالى أعلم.
وقد كان أبو بكر الصديق ، رضياللهعنه ، استعمل سعد بن أبى وقاص على
__________________
(١) انظر : فتوح البلدان (ص ٣٠٣ ـ ٣٢٠) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٢ / ٣٠٩ ـ ٣٣٨) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٣٧ ـ ٤٧) ، تاريخ ابن خلدون (٣ / ٣١٣ ـ ٣٢١).
صدقات هوازن بنجد ، فأقره عمر عليها ، فلما أتاه اجتماع فارس ، وقيام يزدجرد فى قول من جعل قيامه بعد وقعة البويب ، خلافا لما ذكره المدائنى وآخرون معه ، من قيامه قبل ذلك حسب ما قدمناه ، كتب عمر إلى المسلمين بما عملوا به قبل انتهاء كتابه إليهم من الوقوف على حدود أرضهم ، وأن يستخرجوا كل ذى سلاح وفرس ممن له رأى ونجدة فيضموه إليهم حتى يأتيهم أمره ، وكتب إلى عمال العرب على الكور والقبائل ، وذلك فى ذى الحجة سنة ثلاث عشرة مخرجه إلى الحج يأمرهم أيضا بانتخاب الناس أولى الخيل والسلاح والنجدة والرأى ، ويستعجلهم فى توجيههم إليه ، وكتب بمثل ذلك إلى سعد بن أبى وقاص ، فجاءه كتاب سعد :
إنى قد انتخبت لك ألف فارس مرد ، كلهم له نجدة ورأى ، يحوط حريم قومه ، ويمنع زمارهم ، إليهم انتهت أحسابهم وآراؤهم ، فشأنك بهم.
فوافق وصول كتاب سعد بهذا مشاورة عمر الناس فى رجل يوجهه إلى العراق ، فقالوا : قد وجدته ، قال : من؟ قالوا : الأسد عاديا ، سعد بن مالك ، فانتهى إلى رأيهم ، وأرسل إليه ، فقدم عليه ، فأمّره على حرب العراق وأوصاه ، فقال : يا سعد ، سعد بنى وهيب ، عليك بتقوى الله ، فإن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ، ولكن يمحو السيئ بالحسن ، ولا يغرنك أن يقال : صاحب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وخال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فإن الله عزوجل ليس بينه وبين أحد سبب إلا طاعته ، فالناس شريفهم ووضيعهم فى ذات الله سواء ، الله ربهم وهم عباده ، يتفاضلون بالعاقبة ، ويدركون ما عنده بالطاعة ، ألم تسمع لقول الله تبارك وتعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) [القصص : ٨٤] ، و: (مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) [النمل : ٩٠] ، وقد رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم مذ بعثه الله حتى قبض إليه ، فالزم ما رأيته عليه ، وإنى موجهك إلى أرض فارس ، فسر على بركة الله ، فقد استعملتك على من مررت به من القبائل ممن سقط إليكم من العرب ، فاندبهم إلى الجهاد ورغبهم فيه ، وأعلمهم ما أعد الله لأهله ، فمن تبعك منهم فأحسن إليه وارفق بهم ، واجعل كل قبيلة على منزلها ، ومن لم يبلغ أن تستنفره بمن معه من قبيلة ، فاجعله مع من أحب ، وانزل فيدا حتى يأتيك أمرى.
وفى رواية أنه قال لما أراد أن يسرحه :
إنى قد وليتك حرب العراق فاحفظ وصيتي ، فإنك تقدم على أمر شديد كريه لا يخلص منه إلا الحق ، فعود نفسك ومن معك الخير ، واستفتح به ، واعلم أن لكل عادة
عتادا ، وعتاد الخير الصبر ، فالصبر الصبر تجتمع لك به خشية الله ، واعلم أن خشية الله تجتمع لك فى أمرين : فى طاعته واجتناب معصيته ، وإنما أطاعه من أطاعه بحب الآخرة وبغض الدنيا ، وعصاه من عصاه بحب الدنيا وبغض الآخرة ، وللقلوب حقائق ينشئها الله عزوجل إنشاء ، منها السر والعلانية ، فأما العلانية فأن يكون حامده وذامه فى الحق سواء ، وأما السر فيعرف بظهور الحكمة من قبله على لسانه ، وبمحبة الناس إليه ، فلا تزهد فى التحبب فإن النبيين قد سألوا محبتهم ، وإن الله تعالى إذا أحب عبدا حببه إلى خلقه ، وإذا أبغض عبدا بغضه إليهم ، فاعتبر منزلتك عند الله عزوجل بمنزلتك عند الناس ، ممن يسرع معك فى أمرك.
وذكر المدائنى أن عمر ، رضياللهعنه ، كتب لسعد مع ما أوصاه به عهدا يقول له فيه :
أوصيك بتقوى الله والرغبة فيما عنده ، فادع الناس إلى الله ، فمن أجابك فهو أولى بماله وأهله وولده ، وليس لك منه إلا زاد بلاغ إن احتجت ، وعظ نفسك وأصحابك ولا تكثر عليهم فيملوا ، واجعلهم رفقاء إخوانا ، وألن لهم جناحك ، وحطهم بنفسك كنفسك ، واعلم أن المسلمين فى جوار الله ، وأن المسلم أعظم الخلق عند الله حرمة ، ولا يطلبنك الله بخفرته فى أحد منهم ، واحذر عليهم واحفظ قاصيتهم ، وعد مريضهم ، وانصف مظلومهم ، وخذ لضعيفهم من قويهم ، واصلح بينهم ، وألزمهم القرآن وخوفهم بالله ، وامنعهم من ذكر الجاهلية وما كان فيها ، فإنها تورث الضغينة وتذكرهم الذحول ، واعلم أن الله قد توكل من هذا الأمر بما لا خلف فيه ، فاحذر أن يصرف الله ذلك عنك بذنب ويستبدل بكم غيركم ، واحذر من الله ما حذركم من نفسه ، فإنك تجد ما قدمت يداك من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا.
ثم سرحه فيمن اجتمع إليه بالمدينة من نفير المسلمين ، فخرج سعد بن أبى وقاص من المدينة قاصدا للعراق فى أربعة آلاف ، ثلاثة آلاف من أهل اليمن والسراة ، وألف من سائر الناس.
قالوا : وشيعهم عمر ، رحمهالله ، من صرار إلى الأعواص ، ثم قام فى الناس خطيبا ، فقال:إن الله تعالى إنما ضرب لكم الأمثال ، وصرف لكم القول ليحيى بذلك القلوب ، فإن القلوب ميتة فى صدورها حتى يحييها الله تعالى ، من علم شيئا فلينتفع به ، وإن للعدل
أمارات وتباشير ، فأما الأمارات : فالحياء والسخاء والهين واللين ، وأما التباشير : فالرحمة ، وقد جعل الله لكل أمر بابا ، ويسر لكل باب مفتاحا ، فباب العدل الاعتبار ومفتاحه الزهد ، والاعتبار ذكر الموت بتذكر الأموات ، والاستعداد له بتقديم الأعمال ، والزهد أخذ الحق إلى كل أحد له حق ، ولا يصانع فى ذلك أحدا ، ويكتفى بما يكفيه من الكفاف ، فإن لم يكفه الكفاف لم يغنه شيء ، إنى بينكم وبين الله ، وليس بينى وبين الله أحد ، وإن الله عزوجل قد ألزمنى دفع الدعاء عنه ، فأنهوا شكاتكم إلينا ، فمن لم يستطع فإلى من يبلغناها نأخذ له الحق غير متعتع.
فسار سعد فى عام غيداق خصيب ، حتى نزل فيدا فأقام بها أشهرا ، وجعل عمر لا يأتيه أحد من العرب إلا وجهه إليه ، ثم كتب إليه أن يرتفع بالناس إلى زرود ، فأتاها وأقام بها ، وأتاه من حولها من بنى تميم من حنظلة ، وأتته سعد والرباب وعمرو ، فكان ممن أتاه عطارد ولبيد بن عطارد والزبرقان بن بدر وحنظلة بن ربيعة الأسدي وربعى الرياحى وهلال بن علقمة التميمى والمنذر بن حسان الضبى ، فقالت رؤساء حنظلة : يا بنى تميم ، قد نزل بكم الناس ، وهم قبائل الحجاز واليمن وأهل العالية ، وقد لزمكم قراهم ، فشاطروهم الرسل ، ففعلوا ، فمن كان له منحتان قصر إحداهما عليهم ، ومن كان له أكثر ، فعلى حساب ذلك ، فقروهم شتوة بزرود.
وكان عمر أمد سعدا بعد خروجه ، فيما ذكر سيف ، عن أشياخه ، بألفى يمانى وألفى نجدى مرد من غطفان وسائر الناس ، فنزلوا معه زرود فى أول الشتاء ، وتفرقوا فيما حولها ، وأقام سعد ينتظر اجتماع الناس وأمر عمر ، وانتخب من بنى تميم والرباب أربعة آلاف ، منهم ألف من الرباب ، وانتخب من بنى أسد ثلاثة آلاف ، وأمرهم أن ينزلوا على حد أرضهم بين الحزن والبسيطة ، فأقاموا هنالك بين سعد بن أبى وقاص وبين المثنى بن حارثة ، والمثنى بذى قار ، ويقال : بأليس ، وقال بعضهم : بشراف ، وجرير ومن معه من أخلاط الناس متفرقون فيما بين العذيب إلى خصى ، ويقال : غضى.
وكان المثنى فى ثمانية آلاف من ربيعة ، منهم ستة آلاف من بكر بن وائل ، وألفان من سائر ربيعة ، منهم أربعة آلاف ممن كان المثنى انتخبه بعد فصول خالد عنه إلى الشام ، وأربعة آلاف كانوا معه ممن بقى يوم الجسر ، وكان معه من أهل اليمن ألفان من بجيلة ، وألفان من قضاعة وطيئ ممن انتخب إلى ما كان قبل ذلك ، على طيئ عدى بن حاتم ، وعلى قضاعة عمرو بن وبرة ، وعلى بجيلة جرير بن عبد الله ، فبينا الناس كذلك ، سعد يرجو أن يقدم عليه المثنى ، والمثنى أن يقدم عليه سعد ، انتقضت بالمثنى جراحاته
التي كان أصيب بها يوم الجسر ، فمات رحمهالله ، ولما أحس بالموت استخلف على الناس بشير بن الخصاصية ، وكتب إلى سعد :
كتبت إليك وأنا لا أرانى إلا لما بى ، فإن أهلك أو أسلم فإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأن الجنة مأوى المتقين ، وأن النار مثوى الكافرين ، ولا أخال العجم إلا سيجمعون على حربك ، فهم لاقوك بجمع لم يلقونا بمثله ، وقد أرانى الله إن كان قضى بينك وبينهم حربا أن تقاتلهم على أدنى حجر من بلادك ، على حد أرضهم ، فإن ظفرتم فلكم ما وراءهم ، وإن كانت الأخرى ، ولا أراها الله المسلمين ، كنتم أعلم بسبيلكم وأجرأ على طريقكم وأجرأ على أرضكم ، وانحزتم إلى فئتكم إلى أن يرد الله لكم الكرة عليهم.
وكان مع بشير بن الخصاصية عند ما استخلفه المثنى وجوه أهل العراق ، ومع سعد وجوه أهل العراق الذين قدموا على عمر ، رحمهالله ، فيهم فرات بن حيان العجلى وعتيبة ابن النهاس ، فردهم مع سعد.
فمن أجل ذلك اختلف الناس فى عدد أهل القادسية ، فمن قال : هم أربعة آلاف ، فلمخرجهم مع سعد من المدينة ، ومن قال : ثمانية آلاف ، فلاجتماعهم بزرود ، ومن قال : تسعة آلاف ، فللحاق القيسيين ، ومن قال : اثنا عشر ألفا ، فلدفوف بنى أسد من فروع الحزن بثلاثة آلاف ، وقدم عليه بعد ذاك ناس كثير مع الأشعث بن قيس وغيره.
قالوا : فجميع من شهد القادسية بضعة وثلاثون ألفا.
وكتب سعد إلى عمر ، رحمهالله ، بموت المثنى ، فكتب إليه : أن سر حتى تنزل بشراف ، واحذر على من معك من المسلمين ، وعليك بالإصلاح ما استطعت.
فارتحل سعد عن زرود ومعه تميم وقيس واليمن وغيرهم ، وفيهم رجالة فحمل بنو تميم ضعفاءهم حتى قدموا شراف فنزلها ، فأتاهم بشير بن الخصاصية وجرير ومن كان معه بفروع الحزن ، وقدم عليه المعنى بن حارثة ، أخو المثنى ، وقدمت معه زوج المثنى ، سلمى بنت خصفة من بنى تميم اللات بوصيته إلى سعد ، وكان قد أوصى بها وأمرهم أن يعجلوها عليه بزرود ، فلم يفرغوا لذلك ، وشغلهم عنه قابوس بن قابوس بن المنذر إلى أن انقضى ذلك ، كما نذكره بعد ذكر مقتل قابوس على ما ذكره المدائنى ، فقدم حينئذ المعنى وسلمى على سعد بوصية المثنى ورأيه ، فترحم عليه سعد عند ما انتهى ذلك إليه ، وأمّر أخاه المعنى على عمله ، وأوصى بأهل بيته خيرا ، وخطب سلمى فتزوجها وبنى بها ،
وبنى مسجدا بشراف ، فقال بعض التميميين يذكر نفيرهم إلى سعد وقراهم له وحملانهم :
فنفرنا إليهم باحتساب |
|
لم نعرج ولم نذق تغميضا |
وقريناهم ربيعا من الرسل |
|
حقينا مثملا وغريضا |
وحملنا رجالهم من زرود |
|
إذ تعايوا فلم يطيقوا النهوضا |
وكتب سعد إلى عمر حين نزل شراف يخبره بمكانه ، فقال : لأرمين فارس وأبناءها بالمهاجرين وأبناء المهاجرين ، فوجه ألفا ومائة منهم ممن شهد بدرا نيف وأربعون رجلا وسائرهم ممن شهد بيعة الرضوان إلى الفتح ، وحضهم عمر ، رحمهالله ، فقال : إن أحب عباد الله إلى الله وأعظمهم عنده منزلة أتقاهم له وأشدهم منه رجلا ، فعليكم بتقوى الله والإصلاح ما استطعتم ، وما التوفيق إلا بالله ، الزموا الطاعة يجمع الله لكم ما تحبون من دينكم ودنياكم ، وأوفوا بالعهد لمن عاهدتم ، وإياكم والغدر والغلول ، فإنه من يغلل يأت بما غل يوم القيامة ، ومن غدر أدال الله منه عدوه ، ووهن كيده ، فافهموا ما توعظون به ، واعقلوا على الله أمره ، ولا تكونوا كالجفاة الجاهلية.
وعن سيف (١) : أن عمر ، رحمهالله ، قال : والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب ، فلم يدع رئيسا ، ولا ذا رأى ، ولا ذا شرف ، ولا ذا سلطة ، ولا خطيبا ولا شاعرا إلا رماهم به ، فرماهم بوجوه الناس وغررهم.
وكتب عمر ، رضياللهعنه ، إلى عبيدة وهو بالشام أن يمد سعدا بمن كان عنده من أهل العراق ، وكانوا ستة آلاف ، ومن اشتهى أن يلحق بهم ، وكتب إلى المغيرة بن شعبة أن يسير إلى سعد من البصرة ، وكتب إلى سعد بمثل رأى المثنى الذي أشار به على سعد :
أما بعد ، فسر من شراف نحو فارس بمن معك من المسلمين ، وتوكل على الله ، واستعن به على أمرك كله ، واعلم أنك تقدم على أمة عددهم كثير ، وعدتهم فاضلة ، وبأسهم شديد ، وعلى بلد وإن كان سهلا كئود لبحوره وفيوضه ودآدئه ، فإذا لقيتم القوم أو أحدا منهم فابدءوهم الضرب والشد ، وإياكم والمناظرة لجموعهم ، ولا يخدعنكم ، فإنهم خدعة مكرة ، أمركم غير أمرهم ، إلا أن تجادوهم ، فإذا انتهيت إلى القادسية ، والقادسية باب فارس فى الجاهلية ، وهى أجمع تلك الأبواب لما تريد ويريدون ، وهو منزل رحيب خصيب حصين دونه قناطر وأنهار ممتنعة ، فتكون مسالحك على
__________________
(١) انظر : الطبرى (٣ / ٤٨٧).
أنقابها ، ويكون الناس بين الحجر والمدر على أقصى حجر من أرض العرب ، وأدنى مدرة من أرض العجم ، ثم الزم مكانك فلا تبرحه ، فإنهم إذا أحسوك أنقضتهم ورموك بجمعهم الذي يأتى على خيلهم ورجلهم وحدهم وجدهم ، فإن أنتم صبرتم لعدوكم واحتسبتم بقتالهم ، رجوت أن تنصروا عليهم ، ثم لا يجمع لكم مثلهم أبدا إلا أن يجتمعوا ، وليست معهم قلوبهم ، وأن تكن الأخرى كان الحجر فى أدباركم ، فانصرفتم من أدنى مدرة من أرضهم إلى أدنى حجر من أرضكم ، ثم كنتم عليها أجرأ وبها أعلم ، وكانوا عنها أجبن وبها أجهل ، حتى يأتيكم الله بالفتح ، ويرد لكم الكرة ، وليكن منزلك الذي تنزله رحيبا خصيبا ، وإذا نزلت منزلا فلا تستأخر عنه ، فإن ذلك وهن عليك وجرأة لعدوك ، وأذك العيون واتبع الغرض ولا تأمنن قريبا ولا بعيدا ، وصف لى منزلك الذي تنزله ، وكم بينك وبين أول عدوك وآخره ، وكيف مأتاهم ، وسم لى المنزل ، فإنه ألقى فى روعى أنكم ستفتحون فارس ، وأنكم الأعلون.
وفى رواية أنه كتب إليه باليوم الذي يرتحل فيه من شراف ، وأين ينزل بالناس فيما بين عذيب والهجانات ، وعذيب والقوادس ، وأن يشرف بالناس ويغرب بهم. فارتحل سعد عن شراف يريد أن ينزل منزلا على ما كتب به إليه عمر ، فانتهى إلى المغيثة ، فأقام وبنى مسجدا بين الفرعاء والمغيثة ، وقدم بين يديه زهرة بن عبد الله بن قتادة بن الجوية يرتاد له منزلا ، فأقبل زهرة حتى انتهى إلى العذيب ، وكتب إلى سعد فأقبل فى أثره ، فنزل المسلمون ما بين العذيب إلى القادسية ، وهى أحساء ، فقال فى ذلك النعمان بن مقرن المزنى ، وتروى لغيره :
نزلنا بأحساء العذيب ولم تكن |
|
لنا همة إلا اختيار المنازل |
لنحوى أرضا أو نناهب غارة |
|
يضج لها ما بين بصرى وبابل |
ونزل زهرة القادسية بين العتيق والخندق بحيال القنطرة وقديس ، وهى يومئذ أسفل منها بميل ، وكتب سعد إلى عمر : إنا نزلنا من القادسية والعذيب منزلا خصيبا رحيبا على أقصى حجر من أرضنا وأدنى مدرة من أرض عدونا ، فأما عن يسار القادسية فبحر أخضر لاج إلى الحيرة بين طرفين ، أما أحدهما فعلى الظهر ، وأما الآخر فعلى شاطئ نهر يطلع بمن سلكه على ما بين الخورنق والحيرة ، وأما عن يمين القادسية ففيض من فيوض مياههم ، وبيننا وبين أدنى عدونا منا خمسة عشر ميلا ، ولم يبلغنى من الذي أسندوا إليه أمرهم إلى أن كتبت إليك ، ومتى يبلغنى ذلك أكتب به إليك إن شاء الله ، ونحن متوكلون على الله راجعون له.
ولما بلغ أهل فارس اجتماع العرب لهم ، وكثرة من انثال على سعد من رؤسائهم ووجوههم ، عظم ذلك عليهم ، ورعبهم وزادهم نزولهم القادسية رعبا وضيقا ، فعج أهل السواد إلى يزدجرد بن شهريار ، وأرسلوا إليه : إن العرب قد نزلوا القادسية بأمر ليس يشبه إلا الحرب ، وأن فعلهم منذ نزلوها لا يبقى عليه شيء ، وقد أخربوا ما بينهم وبين الفرات ، فليس هنالك أنيس إلا فى الحصون ، وقد ذهبت الدواب وكل شيء لم تحمله الحصون من الأطعمة ، ولم يبق إلا أن يستنزلونا ، فإن أبطأ عنا الغياث أعطيناهم بأيدينا. وكتب إليه بذلك الملوك الذين لهم الضياع بالطّفّ ، وأعانوهم عليه.
ولما كثرت الاستغاثة من أهل السواد على يزدجرد ، خشعت نفسه واتقى الحرب برستم فأرسل إليه ، فدخل عليه ، فقال : إنى أريد أن أوجهك فى هذا الوجه ، وإنما يعد للأمور على قدرها ، وأنت رجل أهل فارس اليوم ، وأنت لها ، وقد ترى ما جاء أهل فارس من أمر لم يأتهم منذ ولى آل أردشير.
فأراه رستم أن قد قبل منه وأثنى عليه ، فقال له الملك : قد أحببت أن أنظر فيما لديك لأعلم ما عندك ، فصف لى العرب وفعلهم ، وصف لى العجم وما يلقون منهم ، فقال رستم : صفة ذئاب صادفت غرة من رعاء فأفسدت ، فقال : ليس كذلك ، إنما سألتك رجاء أن تعرف صفتهم فأقويك لتعمل على قدر ذلك فلم تصب ، فافهم عنى ، إنما مثلهم ومثل أهل فارس كمثل عقاب أوفت على مرقب عند جبل تأوى فى ذراة الطير تبيت فى أوكارها ، فإذا أصبحت الطير تجلت ، فأبصرت العقاب ترقبها ، فخافتها فلم تنهض ، وطمعت العقاب ، فلم ترم ، وجعلت كلما شذ منها طائر انقضت عليه فاختطفتها حتى أفنتها ، فلو نهضت بأجمعها نهضة واحدة لنجت ، وأشد شيء يكون فى ذلك أن تنجو كلها إلا واحدا ، فهذا مثلهم ومثل الأعاجم ، فاعمل على قدر ذلك ، فإنى أريد أن أوجه إلى هؤلاء القوم جمعا أستأصلهم به.
فسجد له رستم ، وقال : الملك أفضل رأيا ، وأيمن أمرا ، وأسعد جدا ، وإن أذن لى تكلمت.
قال : قل ، قال : هزيمة جيش بعد جيش أمثل وأبقى من هزيمة الجماعة التي ليس بعدها مثلها ، فأبى عليه يزدجرد إلا أن يجمع له الناس ويوجهه بهم إلى العرب ، فقال له رستم : أيها الملك ، دعنى فإن العرب لا تزال تهاب العجم ما لم تضربهم بى ، ولعل دولة تكون فيكون الله قد كفى ، ونكون قد أصبنا المكيدة ورأى الحرب ، فإن الرأى فيها والمكيدة
أنفع من بعض الظفر ، فألح يزدجرد وترك الرأى ، وكان ضيقا لجوجا ، وقال لرستم : امض حتى يأتيك أمرى ، فخرج حتى ضرب عسكره بساباط ووجه إليه الملك المرازبة والقواد والأساورة واستحثه فى المسير ، فأعاد عليه رستم كلامه ، وقال : أيها الملك ، إن هزيمتى لهم دونها ما بعدها وعليكم دونها ما بعدها ، ولقد اضطرنى تضييع الرأى إلى إعظام نفسى وتزكيتها ، ولو أجد من ذلك بدا لم أتكلم به ، فأنشدك الله فى أهلك ونفسك وملكك ، دعنى أقم بعسكرى وأسرج الجالينوس ، فإن تكن لنا فذاك ، وإلا فأنا على رجل وأبعث غيره ، حتى إذا لم نجد بدا ولا حيلة صبرنا لهم ، وقد وهناهم وحسرناهم ونحن جامون ، موفورون ، فأبى إلا أن يسير.
ولما نزل رستم بساباط وجمع أداة الحرب وآلاتها ، بعث على مقدمته الجالينوس فى أربعين ألفا ، وخرج هو فى ستين ألفا ، وساقته فى عشرين ألفا ، وعليها الفيرزان ، وعلى ميمنته الهرمزان ، وعلى الميسرة مهران بن بهرام الرازى ، وقال رستم : ليشجع الملك إن فتح الله علينا هؤلاء القوم فهو وجهنا إلى ملكهم فى داره حتى نشغلهم فى أهلهم وبلادهم ، إلا أن يقبلوا المسالمة ويرضوا بما كانوا يرضون به.
وقال سيف عن أشياخه (١) : خرج رستم فى عشرين ومائة ألف كلهم متبوع ، فكانوا بأتباعهم أكثر من مائتى ألف ، ثم إن رستم رأى رؤيا فكرهها ، وأحس لها الشر ، وكره لها الخروج ولقاء القوم ، واختلف عليه رأيه واضطرب ، وسأل الملك أن يمضى الجالينوس ، ويقيم حتى ينظر ما يصنعون ، وقال : إن غناء الجالينوس كغنائى ، وإن كان اسمى أشد عليهم من اسمه ، فإن ظفر فهو الذي نريد ، وإن تكن الأخرى وجهنا مثله ، ودافعنا هؤلاء القوم إلى يوم ما ، فإنى لا أزال مرجوا فى أهل فارس ما لم أهزم ، ولا أزال مهيبا فى صدور العرب ، ولا يزالون يهابون الإقدام ما لم أباشرهم ، وإن باشرتهم اجترءوا آخر دهرهم ، وانكسر أهل فارس آخر دهرهم.
قالوا : ولما أبى الملك إلا مسير رستم ، كتب رستم إلى أخيه وإلى رءوس بلاده : من رستم بن البندوان إلى مرزبان الباب وسهم أهل فارس ، الذي كان يعد لكل عظيمة ، فيفض الله به الجموع ، ويفتح به الحصون ، ومن قبله من عظماء أهل فارس والمرازبة والأساورة ، فرموا حصونكم ، وأعدوا واستعدوا ، فكأنكم بالعرب هذه الأمة الذليلة كانت عندكم الخسيسة المنزلة الضيقة المعيشة قد وردوا بلادكم ، وقارعوكم على
__________________
(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٠٥).
أرضكم وأبنائكم ، وانتزعوا ما فى أيديكم ، وكان من رأيى مدافعتهم ومطاولتهم حتى تعود نجومنا فأبى الملك.
ويقال : إن رستم عند ما أمر يزدجرد بالنهوض إلى ساباط كتب إلى أخيه بنحو الكتاب الأول ، وزاد فيه : أن السمكة قد كدرت الماء ، وأن النعائم قد حبست ، وحسنت الزهرة ، واعتدل الميزان ، وذهب بهرام ، ولا أرى هؤلاء القوم إلا سيظهرون علينا ، ويستولون على ما قبلنا ، وإن أشد ما رأيت أن الملك قال : لتسيرن إليهم أو لأسيرن إليهم بنفسى ، وأنا سائر إليهم.
وكان الذي جرأ يزدجرد على إرسال رستم غلام جابان منجم كسرى ، وكان من أهل فرات بادقلى ، فأرسل إليه وقال : ما ترى فى مسير رستم وحرب العرب اليوم؟ فخافه على الصدق فكذبه ، وكان رستم يعلم نحوا من عمله ، فثقل عليه مسيره لأجل ذلك ، وخف على الملك لما غره منه ، وقال الملك للغلام : إنى أحب أن تخبرنى بشيء أراه أطمئن به إلى قولك ، فقال الغلام لزرنا الهندى : أخبره ، فقال : سلنى ، فسأله ، فقال : أيها الملك ، يقبل طائر فيقع على إيوانك ، فيقع منه شيء فى فيه هاهنا ، وخط دائرة ، فقال الغلام : صدق ، والطائر غراب ، والذي فى فيه درهم ، فيقع منه على هذا المكان.
وبلغ جابان أن الملك طلبه ، فأقبل حتى دخل عليه ، فسأله عما قال غلامه ، فحسب ، فقال : صدق ولم يصب ، إنما الطائر عقعق ، والذي فى فيه درهم ، فيقع منه على هذا المكان ، وكذب زرنا ، يندر الدرهم من هاهنا فيستقر هاهنا ، ودور دائرة أخرى ، فما قاموا حتى وقع على الشرفات عقعق ، فسقط منه درهم فى الخط الأول ، فنزا فسقط فى الخط الآخر ، ونافر الهندى جابان حيث خطأه ، فأتيا ببقرة نتوج ، فقال الهندى : سخلتها غراء سوداء ، فقال جابان : كذبت ، بل سوداء صبغاء ، فنحرت البقرة فاستخرجت سخلتها ، فإذا ذنبها أبيض ، وهو بين عينيها ، فقال جابان : من هاهنا أتى ، وشجعاه على إخراج رستم ، فأمضاه.
ولما فصل رستم من ساباط ، لقيه جابان على القنطرة ، فشكا إليه ، وقال : ألا ترى ما أرى؟ فقال رستم : أما أنا فأقاد بخشاش وزمام ، ولا بد من الانقياد وأمر الجالينوس بالتقدم إلى الحيرة ، فمضى نحوها حتى اضطرب عسكره بالنجف ، وخرج رستم بعده حيث ينزل بكوثى ، وأمر الجالينوس عند ما قدمه أن يصيب له رجلا من العرب من جند سعد ، فخرج هو والآزاذمرد ، مرزبان الحيرة ، فى سرية حتى انتهيا إلى القادسية فأصابا دون قنطرتها