أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي
المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦٣٢
ذكر الجزيرة ، وذكر السبب الذي دعا عمر إلى الأمر بقصدها (١)
وذلك أن هرقل أغزى حمص فى البحر بعد أن غلب عليها المسلمون ، واستمد أهل الجزيرة على أبى عبيدة ومن فيها من المسلمين ، فأجابوه ، وبلغت أمداد الجزيرة ثلاثين ألفا ، سوى أمداد قنسرين من تنوخ وغيرهم ، فبلغوا من المسلمين كل مبلغ ، فضم أبو عبيدة مسالحه ، وعسكروا بفناء مدينة حمص ، وخندقوا عليها ، وكتبوا إلى عمر واستصرخوه ، وكان عمر ، رضياللهعنه ، قد اتخذ فى كل مصر على قدرها خيولا من فضول أموال المسلمين ، عدة لما يعرض ، فكان من ذلك بالكوفة أربعة آلاف فرس يشتيها فى قبلة قصر الكوفة وميسرته ، بمكان يسمى لأجل ذلك الآرى ، ويربعها فيما بين الفرات والأبيات من الكوفة ، مما يلى العاقول ، فسمته الأعاجم : آخر الشاهجان ، يعنون معلف الأمراء.
وكان قيمه عليها سلمان بن ربيعة الباهلى فى نفر من أهل الكوفة ، يصنع سوابقها ، ويجريها فى كل يوم ، وبالبصرة نحو منها ، وقيمه عليها جزء بن معاوية ، وفى كل مصر من الأمصار على قدره ، فلما وقع إلى عمر كتاب أبى عبيدة يستصرخه ، كتب إلى سعد بن أبى وقاص : أن اندب الناس مع القعقاع بن عمرو ، وسرحهم من يومهم الذي يأتيك فيه كتابى إلى حمص ، فإن أبا عبيدة قد أحيط به ، وتقدم إليهم فى الجد والحث.
وكتب إليه أيضا : أن سرح سهيل بن عدى إلى الجزيرة فى الجند ، وليأت الرقة فإن أهل الجزيرة هم الذين استثاروا الروم على أهل حمص ، وإن أهل قرقيسيا لهم سلف ، وسرح عبد الله بن عتبان إلى نصيبين ، ثم لينفضا حران والرها ، وسرح الوليد بن عقبة على عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ ، وسرح عياض بن غنم ، فإن كان قتال فقد جعلت أمرهم جميعا إلى عياض ، فمضى القعقاع فى أربعة آلاف من يومهم الذي أتاهم فيه الكتاب نحو حمص ، وحديثهم مذكور فى أمر حمص من فتح الشام ، وإنما أعيد منه هنا هذا القدر تطريقا لحديث الجزيرة وتمهيدا له.
وخرج عياض بن غنم ، وأمراء الجزيرة ، فسلكوا طريق الجزيرة على الفراض وغيرها ، فتوجه كل أمير إلى الكورة التي أمّر عليها ، ولما بلغ أهل الجزيرة الذين أعانوا الروم على أهل حمص أن الجنود قد خرجت من الكوفة ، ولم يدروا ، الجزيرة يريدون أم حمص؟
__________________
(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ٥٠) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٧٦) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٣٧٢ ـ ٣٧٩).
تفرقوا إلى بلدانهم خوفا عليها ، وخلوا الروم ، فأتى سهيل بن عدى حتى انتهى إلى الرقة ، وقد حصر فيها أهلها الذين ارفضوا عن حمص ، فنزل عليهم ، وأقام محاصرهم حتى صالحوه ، وذلك أن قالوا فيما بينهم : إنكم بين أهل العراق وأهل الشام ، فما بقاؤكم على حرب هؤلاء وهؤلاء؟ فبعثوا إلى عياض ، وهو فى منزل واسط بالجزيرة ، فقبل منهم وعقد لهم عن أمرة سهيل بن عدى.
وخرج عبد الله بن عبد الله بن عتبان ، فسلك على دجلة حتى انتهى إلى الموصل ، عبر إلى بلد ثم أتى نصيبين ، فلقوا بالصلح ، وصنعوا كما صنع أهل الرقة ، وخافوا مثل الذي خافوا ، فعقد لهم عبد الله عن أمر عياض ، وأجروا ما أخذوه عنوة من الرقة ونصيبين ، ثم أجابوا مجرى أهل الذمة ، ولما أعطى أهل الرقة ونصيبين الطاعة ، ضم عياض سهيلا وعبد الله إليه ، فسار بالناس إلى حران ، فأخذ ما دونها ، فلما انتهى إليهم اتقوه بالإجابة إلى الجزية ، فقبل منهم ، وأجرى من أجاب بعد غلبته مجرى أهل الذمة ، ثم سرح سهيلا وعبد الله إلى الرها ، فاتقوهما بالإجابة إلى الجزية ، فقبل ذلك عياض منهم ، وأجرى من دونهم مجراهم ، فكانت الجزيرة أسهل البلدان أمرا وأيسره فتحا.
وقال سهيل بن عدى فى ذلك :
وصادمنا الفرات غداة سرنا |
|
إلى أهل الجزيرة بالعوالى |
ولم نثن الأعنة حين سرنا |
|
بجرد الخيل والأسل النهال |
فأجهضنا الأولى قادوا لحمص |
|
وقد منوا أمانى الضلال |
أخذنا الرقة البيضاء لما |
|
رأينا الشهر لوح بالهلال |
وأزعجت الجزيرة بعد خفض |
|
وقد كانت تخوف بالزوال |
وصار الخرج صافية إلينا |
|
بأكناف الجزيرة عن تغال |
وقال فى ذلك عبد الله بن عتبان :
ألا من مبلغ عنى بجيرا |
|
فما بينى وبينك من بعاد |
فإن تقبل تلاق العدل فينا |
|
وتنسى ما عهدت من الجهاد |
وإن تدبر فما لك من نصيب |
|
نصيبى فيلحق بالعباد |
وقد ألقت نصيبين إلينا |
|
سواد البطن بالخرج السداد |
لقد لقيت نصيبين الدواهى |
|
بدهم الخيل والجرد الوراد |
ونفست الجياد عن أهل حمص |
|
جنود الروم أصحاب الفساد |
وعاين عامر منهم عديدا |
|
ودهما مثل سائمة الجراد |
وخرج الوليد بن عقبة (١) حتى قدم على بنى تغلب وعرب الجزيرة ، فنهض معه مسلمهم وكافرهم إلا أياد بن نزار ، فإنهم ارتحلوا بكليتهم ، فاقتحموا أرض الروم ، فكتب الوليد بذلك إلى عمر بن الخطاب ، رضياللهعنه ، فكتب إلى ملك الروم : إنه بلغنى أن حيا من أحياء العرب ترك دارنا وأتى دارك ، فو الله لتخرجنه أو لننبذن إلى النصارى ، ثم لنخرجنهم إليك. فأخرجهم ملك الروم ، فتم منهم على الخروج أربعة آلاف ، وخنس بقيتهم ، فتفرقوا مما يلى الشام والجزيرة من بلاد الروم ، فكل أيادى فى أرض العرب من أولئك الأربعة آلاف ، وأبى الوليد أن يقبل من بنى تغلب إلا الإسلام ، وكتب فيهم إلى عمر ، فأجابه : إنما ذلك لجزيرة العرب لا يقبل منهم فيها إلا الإسلام ، فدعهم على أن لا ينصروا وليدا ، وأقبل منهم إذا أسلموا ، فقبل منهم على أن لا ينصروا وليدا ، ولا يمنعوا أحدا منهم من الإسلام ، وأبى بعضهم إلا الجزاء ، ورضى منهم بما رضى به من العباد وتنوخ.
وفى حديث عن أبى سيف التغلبى (٢) : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان عاهد وفد بنى تغلب على أن لا ينصروا وليدا ، فكان ذلك الشرط على الوفد وعلى من وفدهم ، ولم يكن على غيرهم ، فلما كان زمان عمر قال مسلموهم : لا تنفروهم بالخراج فيذهبوا ، ولكن أضعفوا عليهم الصدقة التي تأخذونها من أموالهم ، فإنهم يغضبون من ذلك الجزاء على أن لا ينصروا وليدا إذا أسلم آباؤهم ، فخرج وفدهم فى ذلك إلى عمر ، رحمهالله.
ولما بعث الوليد إليه برءوس النصارى وبديانيهم ، فأمرهم عمر بأداء الجزية ، قالوا له :أبلغنا مأمننا ، فو الله لئن وضعت علينا الجزاء لندخلن أرض الروم ، وو الله لتفضحنا من بين العرب ، فقال لهم : أنتم فضحتم أنفسكم ، وخالفتم أمتكم ، والله لتؤدنها وأنتم صغرة قمأة ، ولئن هربتم إلى الروم لأكتبن فيكم ، ثم لأسبينكم. قالوا : فخذ منا شيئا ولا تسميه جزاء ، فقال : أما نحن فنسميه الجزاء ، وسموه أنتم ما شئتم. فقال له على بن أبى طالب وأصغى إليه عمر : يا أمير المؤمنين ، ألم يضعف عليهم سعد بن مالك الصدقة؟ قال : بلى،
__________________
(١) انظر ترجمته فى : طبقات ابن سعد (٦ / ٢٤) ، الجرح والتعديل (٩ / ٨) ، تاريخ ابن عساكر (١٧ / ٤٣٤) ، تذهيب التهذيب (٤ / ١٣٨) ، البداية والنهاية (٨ / ٢١٤) ، العقد الثمين (٧ / ٣٩٨) ، تهذيب التهذيب (١١ / ١٤٢) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٥٤٧٥) ، الإصابة ترجمة رقم (٩١٦٧).
(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٥٦).
قال : فرضى به منهم جزاء ورضى القوم بذلك ، فبنو تغلب تسمى جزيتهم صدقة ، وأما تنوخ فلم تبال أى ذلك كان ، فهم يسمونها الجزية ، وكان فى بنى تغلب عز وامتناع ، فلا يزالون ينازعون الوليد فيهم بهم ويقول :
إذا ما عصبت الرأس منى بمشوذ |
|
فغيك منى تغلب ابنة وائل |
وبلغت عمر ، رحمهالله ، فخاف أن يخرجوه وأن يضعف صبره فيسطو عليهم ، فعزله وأمر عليهم فرات بن حيان وهند بن عمرو الجملى.
ذكر فتح سوق الأهواز ومناذر ونهرتير (١)
ذكر سيف عن شيوخه ، قالوا (٢) : لما انهزم الهرمزان بالقادسية ، جعل وجهه إلى أمته ، فملكهم وقاتل بهم من أرادهم ، فكان يغير على ميسان ودست ميسان من وجهين ، من مناذر ونهرتير ، فاستمد عتبة بن غزوان سعدا ، فأمده بنعيم بن مقرن ونعيم بن مسعود ، وأمرهما أن يكونا بين أهل ميسان ودست ميسان وبين نهرتير ، ووجه عتبة ، سلمى بن القين وحرملة بن مريطة الحنظليين ، فنزلا على حدود أرض ميسان ودست ميسان ، بينهم وبين مناذر ، ودعوا بنى العم بن مالك ، فخرج إليهم غالب الوائلى وكليب بن وائل الكلبى ، فتركا نعيما ونعيما ، وأتيا سلمى وحرملة ، وقالا : أنتما من العشيرة ، وليس لكما منزل ، فإذا كان يوم كذا فانهدوا للهرمزان ، فإن أحدنا يثور بمناذر ، والآخر بنهرتير ، فنقتل المقاتلة ، ثم يكون وجهنا إليكم ، فليس دون الهرمزان شيء إن شاء الله.
فلما (٣) كانت ليلة الموعد ، خرج سلمى وحرملة صبيحتها فى تعبئة ، وأنهضا نعيما ، ونعيم وسلمى على أهل البصرة ، ونعيم بن مقرن على أهل الكوفة ، فالتقوا هم والهرمزان بين دلث ونهرتير فاقتتلوا ، فبينا هم فى ذلك أقبل المدد من قبل غالب وكليب ، وأتى الهرمزان الخبر بأخذ مناذر ونهرتير ، فكسر الله فى ذرعه وذرع جنده ، وهزمه وإياهم ، فقتل المسلمون منهم ما شاءوا وأصابوا ما شاءوا ، واتبعوهم حتى وقفوا على شاطئ دجيل ، وأخذوا ما دونه ، وعسكروا بحيال سوق الأهواز ، وقد عبر الهرمزان جسر سوق الأهواز ، وأقام بها ، وصار دجيل بينه وبين المسلمين ، ورأى الهرمزان ما لا طاقة له به ،
__________________
(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ٧٢ ـ ٧٧) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٨٢ ، ٨٣).
(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٧٢ ، ٧٣).
(٣) انظر : الطبرى (٤ / ٧٤).
فطلب الصلح وكتبوا إلى عتبة يستأمرونه فيه ، وكاتبه الهرمزان ، فأجاب عتبة إلى ذلك على الأهواز كلها ومهرجان قذق ، ما خلا نهرتير ومناذر ، وما غلبوا عليه من سوق الأهواز ، فإنا لا نرد عليهم ما تنقذنا.
وجعل عتبة على مناذر سلمى بن القين مسلحة وأمرها إلى غالب ، وحرملة على نهرتير ، وأمرها إلى كليب ، فكانا على مسالح البصرة ، وهاجرت طوائف بنى العم ، فنزلوا البصرة ، وجعلوا يتبايعون على ذلك ، وكتب عتبة بذلك إلى عمر ، رحمهالله ، ووفد وفدا منهم سلمى وحرملة ، وأمرهما أن يستخلفهما على عمليهما وغالب وكليب ، ووفد يومئذ من البصرة وفودا ، فأمرهم عمر أن يرفعوا حوائجهم ، فكلهم قال : أما العامة فأنت صاحبها ، فلم يبق إلا خواص أنفسنا ، فطلبوا لأنفسهم ، إلا ما كان من الأحنف بن قيس ، فإنه قال : يا أمير المؤمنين ، إنه لكما ذكروا ، ولقد يغرب عنك ما يحق علينا إنهاؤه إليك مما فيه صلاح العامة ، وإنما ينظر الوالى فيما غاب عنه بأعين أهل الخير ، ويسمع بآذانهم ، وإنا لم نزل ننزل منزلا بعد منزل حتى أرزنا إلى البر ، وإن إخواننا من أهل الكوفة نزلوا فى مثل حدقة البعير الغاسقة ، من العيون العذاب ، والجنان الخصاب ، فتأتيهم ثمارهم غضة ، لم تخضد ، وإنا معاشر أهل البصرة نزلنا بسبخة هشاشة زعقة نشاشة ، طرف لها فى الفلاة ، وطرف لها فى البحر الأجاج ، يجر إليها ما جر فى مثل مرئ النعامة ، دارنا مفعمة ، ووظيفتنا ضيقة ، وعددنا كثير ، وأشرافنا قليل ، وأهل البلاء فينا كثير ، ودرهمنا كبير ، وفقيرنا صغير ، وقد وسع الله علينا ، وزادنا فى أرضنا ، فوسع علينا يا أمير المؤمنين ، وزدنا وظيفة ، تطوف علينا ، ونعيش بها.
فنظر عمر إلى منازلهم التي كانوا بها ، إلى أن صاروا إلى الحجر ، فنفلهموها ، وأقطعهم إياها ، وكان ذلك مما كان لآل كسرى ، فصار فيئا فيما بين دجلة والحجر ، فاقتسموه ، وكان سائر ما كان آل كسرى فى أرض البصرة على حال ما كان فى أرض الكوفة ينزلونه من أحبوا ، ويقتسمونه بينهم ، لا يستأثرون به على بدء ولا ثنى ، بعد ما يرفعون خمسه إلى الوالى. فكانت قطائع أهل البصرة نصفين ، نصفها مقسوم ، ونصفها متروك للعسكر وللاجتماع ، وكان أصحاب الألفين ممن شهد القادسية ثم أتى البصرة مع عتبة خمسة آلاف ، وكانوا بالكوفة ثلاثين ألفا ، فألحق عمر أعدادهم بأهل البصرة ، حتى ساواهم بهم ، ألحق جميع من شهد الأهواز ، ثم قال : هذا الغلام سيد أهل البصرة ، يعنى الأحنف ، وكتب إلى عتبة أن يسمع منه ، ورد سلمى وحرملة وغالبا وكليبا إلى مناذر ونهرتير ، فكانوا عدة فيها لما يعرض.
حديث فتح الأهواز ومدينة سرق
واتصل ما بين أهل البصرة وبين أهل ذمتهم ، على ما ذكر ، إلى أن وقع بين الهرمزان وبين غالب وكليب فى حدود الأرضين اختلاف ، فحضر سلمى وحرملة لينظرا فيما بينهم ، فوجدا غالبا وكليبا محقين ، والهرمزان مبطلا ، فحالا بينه وبينهما ، فكفر الهرمزان ، ومنع ما قبله ، واستعان بالأكراد ، فكثف جنده ، وكتبوا ببغيه وكفره إلى عتبة ، فكتب بذلك إلى عمر ، فأمدهم عمر بحرقوص بن زهير السعدى ، وكانت له صحبة ، وأمره على القتال ، وعلى ما غلب عليه. فنهدوا معه ، ونهد الهرمزان بمن معه حتى إذا انتهوا إلى جسر سوق الأهواز عبر الهرمزان فوق الجسر ، بعد أن خيرهم ، فقالوا له : اعبر ، فاقتتلوا هنالك ، فهزم الله الهرمزان ، ووجه نحو رامهرمز ، وافتتح حرقوص سوق الأهواز ، فأقام بها ، ونزل الجبل ، واتسقت له بلاد سوق الأهواز إلى تستر ، ووضع الجزية ، وكتب بالفتح والأخماس إلى عمر ، فحمد الله ، ودعا له بالثبات والزيادة.
وكان عمر ، رضياللهعنه ، قد عهد إلى حرقوص : إن فتح الله عليهم أن يبعث جزء بن معاوية فى أثر الهرمزان ، وهو متوجه إلى رامهرمز ، فما زال يقاتلهم حتى انتهى إلى قرية الشغر ، وأعجزهم بها الهرمزان ، فمال منها جزء إلى دورق ، ومدينة سرق فيها قوم لا يطيقون منعها ، فأخذها صافية ، ودعا من هرب إلى الجزاء والمنعة ، فأجابوه ، وكتب بذلك كله إلى عمر وإلى عتبة ، فكتب عمر ، رحمهالله ، إلى جزء وإلى حرقوص بلزوم ما غلبا عليه ، والمقام حتى يأتيهما أمره ، ففعلا ، واستأذنه جزء فى عمران ما دثر ، فأذن له ، فشق الأنهار ، وعمر الموات.
ولما نزل الهرمزان رامهرمز وضاقت عليه الأهواز بالمسلمين ، طلب الصلح وراسل فيه حرقوصا وجزءا ، فكتب فيه حرقوص إلى عمر ، فكتب إليه وإلى عتبة ، يأمر بقبول صلح الهرمزان على ما لم يفتتحوا من البلاد ، على رامهرمز وتستر والسوس وجندى سابور والبنيان ومهرجان نقذق ، فقبل ذلك الهرمزان ، وأجابهم إليه ، فأقام أمراء الأهواز على ما أسند إليهم عمر ، وأقام الهرمزان على صلحه يجبى إليهم ويمنعونه ، وإن غاوره أكراد فارس أعانوه وذبوا عنه.
وكتب عمر إلى عتبة أن يوفد عليه عشرة من صالحاء جند البصرة ، فوفد إليه منهم عشرة ، فيهم الأحنف بن قيس ، فلما قدموا عليه ، قال للأحنف : إنك عندى مصدق ، وقد رأيتك رجلا ، فأخبرنى : أظلمت الذمة ، ألمظلمة نفروا ، أم لغير ذلك؟ فقال : بل لغير مظلمة ، والناس على ما تحب ، قال : فنعم إذا انصرفوا إلى رحالكم.
وكتب عمر إلى عتبة : أن اصرف الناس عن الظلم ، واتقوا الله ، واحذروا أن يدال عليكم لغدر يكون منكم أو بغى ، فإنكم إنما أدركتم بالله ما أدركتم على عهد عاهدكم عليه ، وقد تقدم إليكم فيما أخذ عليكم ، فأوفوا بعهد الله ، وقوموا على أمره يكن لكم عونا وناصرا.
وبلغ عمر ، رحمهالله ، أن حرقوصا نزل جبل الأهواز والناس يختلفون إليه ، والجبل كئود يشق على من رامه ، فكتب إليه : بلغنى أنك نزلت منزلا كئودا لا تؤتى فيه إلا على مشقة ، فأسهل ولا تشقن به على مسلم ولا معاهد ، وقم فى أمرك على رجل تدرك الآخرة وتصف لك الدنيا ، ولا تدركنك فترة ولا عجلة ، فتكدر دنياك وتذهب آخرتك.
ذكر غزو المسلمين أرض فارس (١)
قالوا (٢) : وكان المسلمون بالبصرة وأرضها يومئذ سوادها ، والأهواز على ما هم عليه ، ما غلبوا عليه منها ففى أيديهم ، وما صلحوا عليه ففى أيدى أهله يؤدون الخراج ، ولا يدخل عليهم ، ولهم الذمة والمنعة ، وعميد الصلح الهرمزان. وقد قال عمر ، رحمهالله : حسبنا أهل البصرة سوادهم والأهواز ، وددت أن بيننا وبين فارس جبلا من نار لا نصل إليهم منه ولا يصلون إلينا ، كما قال لأهل الكوفة : وددت أن بينهم وبين الجبل جبلا من نار لا يصلون إلينا منه ولا نصل إليهم.
وكان العلاء بن الحضرمى على البحرين ، رده إليها عمر بعد أن عزله عنها بقدامة بن مظعون ، وكان العلاء يناوئ سعد بن أبى وقاص لصدع صدعه القضاء بينهما ، فطار العلاء على سعد فى الردة بالفضل ، فلما ظفر سعد بالقادسية ، وأزاح الأكاسرة ، واستعلى بأعظم مما كان جاء به العلاء ، أسر العلاء أن يصنع شيئا فى الأعاجم ، ورجاء أن يدال كما قد كان أديل ، ولم يقدر العلاء ، ولم ينظر فيما بين فضل الطاعة وفضل المعصية وعواقبها ، فندب أهل البحرين إلى أهل فارس ، فتسرعوا إلى ذلك ، ففرقهم أجنادا ، على أحدها الجارود بن المعلى ، وعلى الآخر السوار بن همام ، وعلى الآخر خليد بن المنذر بن ساوى ، وهو مع ذلك على جماعة الناس ، فحملهم فى البحر إلى فارس بغير إذن عمر ،
__________________
(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ٧٩ ـ ٨٣) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٢ / ٣٧٦ ـ ٢٧٩).
(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٧٩).
وكان عمر ، رحمهالله ، لا يأذن لأحد فى ركوبه غازيا ، يكره التغرير بجنده استنانا بالنبى صلىاللهعليهوسلم وبأبى بكر ، إذ لم يغزيا فيه أحدا.
فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس ، فخرجوا فى اصطخر ، وبإزائهم أهل فارس ، قد اجتمعوا على الهربذ ، فحالوا بين المسلمين وبين سفنهم ، فقام خليد فى الناس ، فقال : إن الله إذا قضى لأحد أمرا جرت به المقادير حتى يصيبه ، وإن هؤلاء القوم لم يزيدوا بما صنعوا على أن دعوكم لحربهم ، وإنما جئتم لمحاربتهم ، والسفن والأرض لمن غلب ، (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) [البقرة : ٤٥].
فأجابوه ، فصلوا الظهر ثم ناهدوهم فاقتتلوا قتالا شديدا فى موضع يدعى طاوس ، وجعل السوار يحض ويذكر قومه عبد القيس حتى قتل ، وقتل الجارود ، ويومئذ ولى عبد الله بن المسور والمنذر بن الجارود حياتهما إلى أن ماتا. وجعل خليد بن المنذر يقول للمسلمين : انزلوا ، فنزلوا فقاتلوا القوم فقتل أهل فارس مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها ، ثم خرج المسلمون يريدون البصرة إذ غرقت سفنهم ، ولم يجدوا إلى الرجوع فى البحر سبيلا ، فوجدوا شهرك قد أخذ عليهم الطرق فعسكروا وامتنعوا.
ولما بلغ عمر ، رحمهالله ، ما صنع العلاء من بعثه ذلك الجيش فى البحر ، يعنى قبل أن يبلغه ما عرض لهم ، ألقى فى روعه نحو من الذي كان ، فاشتد غضبه على العلاء وكتب إليه بعزله وتوعده وأمره بأثقل الأشياء عليه ، وأبغض الوجوه عليه ، بتأمر سعد عليه ، وقال : الحق بسعد بن أبى وقاص فيمن قبلك ، فخرج نحوه بمن معه.
وكتب عمر إلى عتبة بن غزوان : أن العلاء بن الحضرمى حمل جندا من المسلمين ، فأقطعهم أهل فارس ، وعصانى ، وأظنه لم يرد الله بذلك ، فخشيت عليهم ألا ينصروا وأن يغلبوا وينشبوا ، فاندب الناس إليهم ، واضممهم إليك من قبل أن يجتاحوا ، فندب عتبة الناس ، وأخبرهم بكتاب عمر ، فانتدب عاصم بن عمرو وعرفجة بن هرثمة وحذيفة بن محصن ومجزأة بن ثور والأحنف بن قيس وصعصعة بن معاوية وآخرون من رءوس المسلمين وفرسانهم ، فخرجوا فى اثنى عشر ألفا على البغال يجنبون الخيل ، وعليهم أبو سبرة بن أبى رهم ، أحد بنى مالك بن حسل بن عامر بن لؤيّ ، والمسالح على حالها بالأهواز والذمة ، وهم ردء الغازى والمقيم ، فسار أبو سبرة بالناس ، وساحل لا يلقاه أحد ، ولا يعرض له حتى التقى بخليد وأصحابه بحيث أخذ عليهم الطريق.
وكان أهل اصطخر حيث أخذوا عليهم الطريق وأنشبوهم ، استصرخوا عليهم أهل
فارس كلهم ، فضربوا إليهم من كل وجه وكورة ، فالتقوا هم وأبو سبرة ، وقد توافت إلى المسلمين أمدادهم وإلى المشركين أمدادهم ، وعلى المشركين شهرك ، وهو الذي كان أخذ عليهم الطريق غب وقعة القوم بطاوس ، فاقتتلوا ، ففتح الله على المسلمين ، وقتل المشركون وأصاب المسلمون منهم ما شاءوا ، وهى الغزاة التي شرفت بها نابتة البصرة ، فكانوا أفضل المصرين نابتة ، ثم انكفأوا بما أصابوا ، وقد عهد إليهم عتبة وكاتبهم بالحث وقلة العرجة ، فانضموا إليه بالبصرة ، فرجع أهلها إلى منازلهم منها ، وتفرق الذين تنقذوا من أهل هجر إلى قبائلهم ، والذين تنقذوا من عبد القيس فى موضع سوق البحرين.
ولما أحرز عتبة الأهواز وأوطأ فارس ، استأذن عمر فى الحج ، فأذن له ، فلما قضى حجه استعفاه ، فأبى أن يعفيه ، وعزم عليه ليرجعن إلى عمله ، فدعا الله ثم انصرف ، فمات فى بطن نخلة ، فدفن بها ، ومر به عمر زائرا لقبره ، فقال : أنا قتلتك ، لو لا أنه أجل معلوم وكتاب مرقوم ، وأثنى عليه بالفضل. ومات عتبة وقد استخلف على الناس أبا سبرة بن أبى رهم وعماله على حالهم ، ومسالحه على نهرتير ومناذر وسوق الأهواز وسرق. وأمّر عمر أبا سبرة على البصرة بقية السنة التي مات فيها عتبة ، ثم عزله ، واستخلف عبد الرحمن بن سهل ، ثم استعمل المغيرة بن شعبة ، فعمل عليها بقية تلك السنة التي ولاه فيها والسنة التي تليها ، لم ينتقض عليه أحد فى عمله ، وكان مرزوق السلامة.
ذكر فتح رامهرمز والسوس وتستر وأسر الهرمزان (١)
ذكر سيف (٢) عن أصحابه قالوا : لم يزل يزدجرد يثير أهل فارس أسفا على ما خرج عنهم ، فكتب إليهم وهو بمرو ، يذكرهم الأحقاد ويؤنبهم ، أن قد رضيتم يا أهل فارس أن غلبتكم العرب على السواد وما والاه ، وعلى الأهواز ، ثم لم يرضوا بذلك حتى يوردوكم فى بلادكم وعقر داركم ، فخرجوا وتكاتبوا هم وأهل الأهواز ، وتعاهدوا وتواثقوا على النصرة ، وجاءت الأخبار حرقوص بن زهير وجزءا وسلمى وحرملة عن خبر غالب وكليب ، فكتبوا إلى عمر وإلى المسلمين بالبصرة ، فكتب عمر إلى سعد : أن ابعث إلى الأهواز بعثا كثيفا مع النعمان بن مقرن وعجل ، وابعث سويد بن مقرن ، وعبد
__________________
(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ٨٣) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٢ / ١٨٧ ، ١٨٨) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٨٥ ـ ٨٩).
(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٨٣ ، ٨٤).
الله بن ذى السهمين ، وجرير بن عبد الله الحميرى ، وجرير بن عبد الله البجلى ، فلينزلوا بإزاء الهرمزان حتى يتيقنوا أمره.
وكتب إلى أبى موسى ، وهو على البصرة : أن ابعث إلى الأهواز جندا كثيفا ، وأمر عليهم سهيل بن عدى ، وابعث معه البراء بن مالك ، وعاصم بن عمرو ، ومجزأة بن ثور ، وكعب بن سور ، وعرفجة بن هرثمة ، وحذيفة بن محصن ، وعبد الرحمن بن سهل ، والحصين بن معبد ، وعلى أهل الكوفة والبصرة جميعا أبو سبرة بن أبى رهم ، وكل من أتاه فمدد له.
وخرج النعمان بن مقرن فى أهل الكوفة ، فأخذ وسط السواد حتى قطع دجلة بحيال ميسان ، ثم أخذ البر إلى الأهواز على البغال يجنبون الخيل ، وانتهى إلى نهرتير فجازها ، وجاز مناذر ، ثم شق الأهواز ، وخلف حرقوصا وسلمى وحرملة ، ثم سار نحو الهرمزان ، وهو برامهرمز ، فلما سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه بادره ، ورجا أن يقتطعه ، وقد طمع فى نصر أهل فارس ، وقد أقبلوا نحوه ، ونزلت أوائل أمدادهم بتستر ، فالتقى النعمان والهرمزان بأزبك ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، ثم إن الله هزم الهرمزان ، وأخلى رامهرمز ولحق بتستر ، وسار النعمان بن أزبك حتى نزل برامهرمز ، ثم صعد لإيذج ، فصالحه عليها تيرويه ، فقبل منه وتركها ، ورجع إلى رامهرمز ، فأقام بها.
وجاء سهل فى أهل البصرة حتى نزلوا سوق الأهواز ، فأتاهم بها خبر الوقعة التي أوقعها النعمان بالهرمزان حتى لحق بتستر ، فمالوا نحوه من سوق الأهواز ، فكان وجههم منها إلى تستر ، ومال النعمان إليها من رامهرمز ، وخرج سلمى وحرملة وحرقوص وجزء ، فنزلوا جميعا على تستر ، وبها الهرمزان وجنوده من أهل فارس وأهل الجبال وأهل الأهواز فى الخنادق ، فكتبوا بذلك إلى عمر ، رحمهالله ، واستمده أبو سبرة فأمده بأبى موسى ، فساجلوهم ، وعلى أهل الكوفة النعمان ، وعلى أهل البصرة أبو موسى ، وعلى الفريقين أبو سبرة ، فحاصروهم أشهرا ، وأكثروا فيهم القتل.
وقتل البراء بن مالك فيما بين أول ذلك الحصار إلى أن فتح الله على المسلمين مبارزة مائة ، سوى من قتل فى غير المبارزة ، وقتل مجزأة بن ثور مثل ذلك ، وقتل كعب بن سور وأبو تميمة كل واحد منهما مثل ذلك ، وهؤلاء فى عدة من أهل البصرة ، وفعل مثل ذلك من الكوفيين رجال ، منهم حبيب بن قرة ، وربعى بن عامر ، وعارم بن عبد الأسد ، وكان من الرؤساء ، فى ذلك ، ما ازدادوا به إلى ما كان منهم ، وزاحفهم المشركون فى أيام
تستر ثمانين زحفا تكون عليهم مرة ولهم أخرى ، حتى إذا كان فى آخر زحف منها واشتد القتال ، قال المسلمون : يا براء ، أقسم على ربك ليهزمنهم لنا ، فقال البراء بن مالك : اللهم اهزمهم لنا واستشهدنى ، فهزمهم حتى أدخلوهم خنادقهم ثم اقتحموها عليهم ، فأرزوا إلى مدينتهم ، فأحاط المسلمون بها.
فبينا هم على ذلك وقد ضاقت المدينة بهم ، وطالت حربهم ، خرج رجل إلى النعمان فاستأمنه على أن يدله على مدخل يوصل منه إلى المدينة ، ويكون منه فتحها ، فأمنه النعمان ، فقال : انهدوا من قبل مخرج الماء ، ورمى رجل آخر غير ذلك الرجل فى ناحية أبى موسى بسهم يستأمنهم فيه على أن يدلهم على ذلك ، فأمنوه فى نشابة ، فرمى إليهم بأخرى ، ودلهم على مخرج الماء ، فندب الأميران أصحابهما ، فانتدب لأبى موسى كعب ابن سور ومجزأة بن ثور وبشر كثير.
وانتدب للنعمان أيضا بشر كثير ، منهم : سويد بن المثعبة ، وعبد الله بن بشر الهلالى ، فنهدوا ، فالتقوا هم وأهل البصرة على ذلك المخرج ، وقد تسرب سويد وعبد الله ، فاتبعهم الفريقان ، حتى إذا اجتمعوا فيها ، والناس على رجل من خارج ، كبروا فيها ، وكبر المسلمون من خارج ، وفتحت الأبواب ، فاجتلدوا فيها ، فأناموا كل مقاتل ، وأرز الهرمزان إلى القلعة فأطاف به الذين دخلوا من مخرج الماء ، فلما عاينوه وأقبلوا قبله ، قال لهم : ما شئتم ، قد ترون ضيق ما أنا فيه وأنتم ، وإن معى فى جعبتى مائة نشابة ، وو الله لا تصلون إلىّ ، ما دامت معى نشابة ، وما يقع لى سهم إلا فى رجل ، وما خير أسارى إذا أصبت منكم مائة بين قتيل وجريح ، قالوا : فتريد ما ذا؟ قال : أن أضع يدى فى أيديكم على حكم عمر يصنع بى ما شاء ، قالوا : فذلك لك.
فرمى بقوسه ، وأمكنهم من نفسه ، فشدوه وثاقا ، واقتسموا ما أفاء الله عليهم ، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف ، والراجل ألفا. وجاء الرجل الذي خرج بنفسه إلى النعمان ، والآخر الذي رمى بالسهم فى ناحية أبى موسى ، فقالا للمسلمين : من لنا بالأمان الذي طلبنا علينا وعلى من مال علينا؟ قالوا : ومن مال معكم؟ قالوا : من أغلق عليه بابه مدخلكم ، فأجازوا ذلك لهم ، وقتل ليلتئذ من المسلمين ناس كثير ، منهم مجزأة بن ثور ، والبراء بن مالك ، قتلهما الهرمزان.
وخرج أبو سبرة من تستر فى أثر الفل ، وقد قصد السوس ، وأخرج معه النعمان وأبا موسى الهرمزان ، حتى نزلوا على السوس ، وكتبوا بذلك إلى عمر ، فكتب إلى أبى موسى
برده على البصرة ، فانصرف عليها ، وأمر عمر على جند البصرة المقترب ، وهو الأسود بن ربيعة ، وكتب إلى زر بن عبد الله بن كليب الفقيمى أن يسير إلى جندى سابور ، فسار حتى نزل عليها ، وكان الأسود وزر من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم من المهاجرين إليه ، الوافدين عليه ، فقال له الأسود لما وفد عليه : جئت لأقترب إلى الله بصحبتك ، فسماه المقترب ، وقال له زر : يا رسول الله ، فنى بطنى ، وكثر إخوتنا ، فادع الله لنا ، فقال : «اللهم أوف لزر عمارته» ، فتحول إليهم العدد.
ووفد أبو سبرة وفدا ، فيهم أنس بن مالك ، والأحنف بن قيس ، وأرسل الهرمزان معهم ، فقدموا مع أبى موسى البصرة ، ثم خرجوا نحو المدينة ، حتى إذا دخلوها هيئوا الهرمزان فى هيئته ، فألبسوه كسوته من الديباج ، ووضعوا على رأسه تاجا مكللا بالياقوت ، كيما يراه عمر والمسلمون فى هيئته ، ثم خرجوا به على الناس يريدون عمر فى منزله فلم يجدوه ، فسألوا عنه ، فقيل لهم : جلس فى المسجد لوفد قدموا عليه من الكوفة ، فانطلقوا يطلبونه فى المسجد فلم يروه.
فلما انصرفوا مروا بغلمان يلعبون ، فقالوا لهم : ما تلددكم تريدون أمير المؤمنين؟ فإنه نائم فى ميمنة المسجد ، متوسد برنسه ، وكان عمر ، رحمهالله ، قد جلس لوفد الكوفة فى برنس ، فلما فرغ من كلامهم وارتفعوا عنه ، وأخلوه نزع برنسه ثم توسده فنام ، فانطلقوا ومعهم النظارة ، حتى إذا رأوه جلسوا دونه ، وليس فى المسجد نائم ولا يقظان غيره ، والدرة فى يده ، فقال الهرمزان : أين عمر؟ قالوا : هو ذا ، وجعل الوفد يشيرون إلى الناس أن اسكتوا عنه ، فقال لهم الهرمزان : أين حرسه وحجابه؟ فقالوا : ليس له حارس ولا حاجب ، ولا كاتب ولا ديوان ، فقال : ينبغى له أن يكون نبيا ، قالوا : بل يعمل عمل الأنبياء ، وكثر الناس ، فاستيقظ عمر ، رحمهالله ، بالجلبة ، فاستوى جالسا ، ثم نظر إلى الهرمزان ، فقال : الهرمزان؟ قالوا : نعم ، فتأمله وتأمل ما عليه ، وقال : أعوذ بالله من النار ، وأستعين بالله ، ثم قال : الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا وأشباهه ، يا معشر المسلمين ، تمسكوا بهذا الدين ، واهتدوا بهدى نبيكم ، ولا تبطرنكم الدنيا فإنها غرارة.
فقال الوفد : هذا ملك الأهواز فكلمه ، فقال : لا ، حتى لا يبقى عليه من حليته شيء ، فرمى عنه بكل شيء كان عليه إلا شيئا يستره ، وألبسوه ثوبا صفيقا ، فقال عمر : هى يا هرمزان ، كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله؟ فقال : يا عمر ، إنا وإياكم فى الجاهلية كان الله قد خلى بيننا وبينكم ، فغلبناكم إذ لم يكن معنا ولا معكم ، فلما كان معكم غلبتمونا ، فقال عمر : إنما غلبتمونا فى الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا ، ثم قال عمر : ما
عذرك وما حجتك فى انتقاضك مرة بعد مرة؟ فقال : أخاف أن تقتلنى قبل أن أخبرك ، قال : لا تخف ذلك. واستسقى ماء ، فأتى به فى قدح غليظ ، فقال : لو مت عطشا لم أستطع أن أشرب فى مثل هذا ، فأتى به فى إناء يرضاه ، فجعلت يده ترعد ، وقال : إنى أخاف أن أقتل وأنا أشرب ، فقال عمر : لا بأس عليك حتى تشربه ، فأكفأه.
فقال عمر : أعيدوا عليه ، ولا تجمعوا عليه القتل والعطش ، فقال : لا حاجة لى فى الماء ، إنما أردت أن أستأمن به ، فقال عمر : إنى قاتلك ، فقال : قد أمنتنى ، قال : كذبت ، قال أنس : صدق يا أمير المؤمنين ، قد أمنته ، قال : ويحك يا أنس ، أنا أؤمن قاتل مجزأة والبراء ابن مالك ، والله لتأتين بمخرج وإلا عاقبتك. قال : قلت له : لا بأس عليك حتى تخبرنى ، وقلت له : لا بأس عليك حتى تشربه ، وقال له من حوله مثل ذلك ، فأقبل الهرمزان ، وقال : خدعتنى ، والله لا أنخدع إلا أن تسلم ، فأسلم ففرض له على ألفين وأنزله المدينة.
ويروى أن المغيرة بن شعبة كان الترجمان يومئذ بين عمر وبين الهرمزان إلى أن جاء المترجم ، وكان المغيرة يفقه من الفارسية شيئا ، فقال له عمر : ما أراك بها حاذقا ، ما أحسنها أحد منكم إلا خب ، ولا خب إلا دق ، إياكم وإياها ، فإنها تنقص الإعراب.
ذكر فتح السوس
والأخبار التي نذكرها بعد ذلك شديدة الخلاف لبعض ما تقدم ، وكذلك قال أبو جعفر الطبرى (١) : إن أهل السير اختلفوا فى أمرها. قال : فأما المدائنى فإنه قال : لما انتهى فل جلولاء إلى يزدجرد وهو بحلوان ، دعا بخاصته وبالموبذ ، فقال : إن القوم لا يلقون جمعا إلا فلوه ، فما ترون؟ قال الموبذ : نرى أن نخرج فننزل اصطخر ، فإنها بيت المملكة ، وتضم إليك خزائنك ، وتوجه الجنود ، فأخذ برأيه ، وسار إلى أصبهان ودعا سياه ، فوجه ثلاثمائة فيهم سبعون من عظمائهم ، وأمره أن ينتخب من كل بلدة يمر بها من أحب ، فمضى سياه واتبعه يزدجرد ، حتى نزلوا اصطخر وأبو موسى محاصر سوس ، فوجه سياه إلى السوس ، والهرمزان إلى تستر ، فنزل سياه منزلا تحول عنه حين سار أبو موسى إلى تستر.
فنزل سياه بينها وبين رامهرمز ، ودعا الرؤساء الذين كانوا خرجوا معه من أصبهان ، وقد عظم أمر المسلمين عنده ، فقال : قد علمتم أنا كنا نتحدث أن هؤلاء القوم أهل
__________________
(١) انظر : الطبرى (٤ / ٨٩).
الشقاء والبؤس سيغلبون على هذه المملكة ، وتروث دوابهم فى إيوانات اصطخر ومصانع الملوك ، ويشدون خيولهم بشجرها ، وقد غلبوا على ما رأيتم ، وليس يلقون جندا إلا فلوه ، ولا ينزلون بحصن إلا فتحوه ، فانظروا لأنفسكم. قالوا : رأينا رأيك ، قال : فليكفنى كل رجل منكم حشمه والمنقطعين إليه ، فإنى أرى أن ندخل فى دينهم.
فوجهوا شيرويه فى عشرة من الأساورة إلى أبى موسى ، فقدم عليه ، فقال : إنا قد رغبنا فى دينكم ، فنسلم على أن نقاتل العجم معكم ، وإن قاتلنا أحد من العرب منعتمونا منهم ، وننزل حيث شئنا ، ونكون فيمن شئنا منكم ، وتلحقونا بأشرف العطاء ، ويعقد لنا بذلك الأمير الذي هو فوقك ، فقال أبو موسى : بل لكم ما لنا ، وعليكم ما علينا ، فقال: لا نرضى.
وكتب أبو موسى إلى عمر بن الخطاب ، رضياللهعنه ، بأمرهم ، فأجابه : أعطهم ما سألوك ، فكتب لهم أبو موسى ، فأسلموا ، وشهدوا معه حصار تستر ، فلم يكن أبو موسى يرى منهم جدا ولا نكاية ، فقال لسياه : يا أعور ، ما أنت وأصحابك كما كنا نرى ، قال : لسنا مثلكم فى هذا الدين ، ولا بصائرنا كبصائركم ، وليس لنا فيكم حرم نحامى عنهم ، ولم تلحقونا بأشرف العطاء ولنا سلاح وكراع وأنتم حسر. فكتب أبو موسى إلى عمر فى ذلك ، فكتب إليه : أن ألحقهم على قدر البلاء فى أفضل العطاء وأكثر شيء أخذه أحد من العرب. ففرض لمائة منهم فى ألفين ألفين ، ولستة منهم فى ألفين وخمسمائة ، لسياه وخسرو وابنه مقلاص وشهريار وشهرويه وأفريذون ، وإياهم عنى الشاعر بقوله :
ولما رأى الفاروق حسن بلائهم |
|
وكان بما يأتى من الأمر أبصرا |
فسن لهم ألفين فرضا وقد رأى |
|
ثلاثمائين فرض عك وحميرا |
قال : فحاصروا حصنا بفارس ، فمشى سياه فى آخر الليل فى زى العجم حتى رمى بنفسه إلى جانب الحصن ، ونضح ثيابه بالدم ، وأصبح أهل الحصن ، فرأوا رجلا فى زيهم صريعا ، فظنوا أنه رجل منهم أصيبوا به ، ففتحوا باب الحصن ليدخلوه ، وثار فقاتلهم حتى دخلوا عن باب الحصن وهربوا ، ففتح الحصن وحده ودخله المسلمون ، وقوم يقولون : فعل هذا الفعل سياه بتستر ، وحاصروا حصنا آخر ، فمشى خسرو إلى الحصن ، فأشرف عليه رجل منهم فكلمه ، فرماه خسرو بنشابة فقتله.
أما سيف (١) ، فإنه ذكر بإسناد له قال : لما نزل أبو سبرة فى الناس على السوس ، وأحاط المسلمون بها ، وعليهم شهريار أخو الهرمزان ، ناوشهم مرات ، كل ذلك يصيب أهل السوس من المسلمين ، فأشرف عليهم الرهبان والقسيسون ، فقالوا : يا معشر العرب ، إن مما عهد إلينا علماؤنا وأوائلنا ، أنه لا يفتح السوس إلا الدجال ، أو قوم فيهم الدجال ، فإن كان الدجال فيكم فستفتحونها ، وإن لم يكن معكم فلا تعنوا بحصارنا ، وجاء صرف أبى موسى إلى البصرة ، وعمل مكانه على جندها الذين بالسوس المقترب ، والنعمان على أهل الكوفة ، فحاصر السوس مع أبى سبرة.
فجاء كتاب عمر بصرف النعمان إلى أهل نهاوند لاجتماع الأعاجم بها ، فتهيأ للمسير ، ثم استقبل فى تعبئته ، فناوش أهل السوس قبل مضيه ، فعاد الرهبان والقسيسون ، وأشرفوا على المسلمين ، وغاظوهم ، وصاف ابن صياد يومئذ مع النعمان فى خيله ، فأتى باب السوس غضبان فدقه برجله ، وقال : انفتح ، فتقطعت السلاسل ، وتكسرت الأغلاق ، وفتحت الأبواب ، ودخل المسلمون ، فألقى المشركون بأيديهم ، ونادوا : الصلح الصلح ، فأجابهم المسلمون إلى ذلك ، بعد ما دخلوها عنوة ، واقتسموا ما أصابوا قبل الصلح ، ثم افترقوا.
فتح جندى سابور
قالوا (٢) : ولما فرغ أبو سبرة من السوس خرج فى جنده حتى ينزل على جندى سابور ، وزر بن عبد الله محاصرهم ، فأقاموا عليها يغادونهم ويراوحنهم القتال ، فلم يفجأ المسلمين يوما إلا وأبوابها تفتح ، ثم خرج السرح ، وخرجت الأسواق ، وانبث أهلها ، فأرسل إليهم المسلمون : أن ما لكم؟ قالوا : رميتم لنا بالأمان فقبلناه ، وأقررنا لكم الجزاء ، على أن تمنعونا ، فقال المسلمون : ما فعلنا ، فقال أهل جندى سابور : ما كذبنا ، فسأل المسلمون فيما بينهم ، فإذا عبد يدعى مكنفا كان أصله منها ، هو الذي كتب لهم أمانا ، فرمى به إليهم من عسكر المسلمين ، فقالوا : إنما هو عبد ، فقال المشركون : إنا لا نعرف حركم من عبدكم ، وقد جاءنا أمان ، فنحن عليه قد قبلناه ، ولم نبدل ، فإن شئتم فاغدروا ، فأمسكوا عنهم ، وكتبوا بذلك إلى عمر ، فأجابهم : إن الله عظيم الوفاء ، فلا
__________________
(١) انظر : الطبرى (٤ / ٩١ ، ٩٢).
(٢) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ٩٣ ، ٩٤) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٨٩) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٢ / ٣٨٧).
تكونون أوفياء حتى توفوا ، ما دمتم فى شك أجيزوهم ، وفوا لهم ، ففعلوا وانصرفوا عنهم.
وقال عاصم بن عمرو فى ذلك :
لعمرى لقد كانت قرابة مكنف |
|
قرابة صدق ليس فيها تقاطع |
أجارهم من بعد ذل وقلة |
|
وخوف شديد والبلاء بلاقع |
فجاز جواز العبد بعد اختلافنا |
|
ورد أمورا كان فيها تنازع |
إلى الركن والوالى المصيب حكومة |
|
فقال بحق ليس فيه تخادع |
فلله جندى ساهبور لقد نجت |
|
غداة منتها بالبلاء اللوامع |
حديث وقعة نهاوند (١)
والاختلاف فيها بين أهل الأخبار كثير ، ولكن الذي ذكره أبو الحسن المدائنى من حديثها أحسن ما وقفت عليه من الأحاديث منساقا ، وأطوله اقتصاصا ، فلذلك آثرت الابتداء به ، وربما أدرجات فى تضاعيفه من حديث غيره ما يحسن إدراجه فيه ، ثم أذكر بعد انقضائه ما اختار ذكره من الأخبار التي أوردها سواه عن هذه الوقعة إن شاء الله.
ذكر المدائنى (٢) عن رجال من أهل العلم ، يزيد بعضهم على بعض : أن عمر بن الخطاب ، رضياللهعنه ، شاور الهرمزان ، فقال له : أما إذا فتنى بنفسك فأشر علىّ ، أبفارس أبدأ أم بالجبال : أذربيجان وأصبهان؟ قال : فارس الرأس والجبال جناحان ، فاقطع الجناحين فلا يتحرك الرأس ، قال عمر : بل أقطع الرأس فلا يقوم جسد ولا جناح. فكتب عمر إلى عثمان بن أبى العاص وهو بتوج : أن سر إلى اصطخر ، وقدم عليه أبو موسى ، فأمره أن يرجع إلى البصرة ، ويسير إلى ابن كسرى مع عثمان بن أبى العاص ، وقال : كل واحد منكم أمير على جنده ، فقدم أبو موسى البصرة ، فسار إلى يزدجرد باصطخر ، وسار إليه عثمان من توج.
فلما ألحوا على يزدجرد كتب إلى أهل الرى وأهل الجبال : أصبهان وهمدان وقومس ،
__________________
(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ١٢٢) ، فتوح البلدان للبلاذرى (ص ٣٧١ ـ ٣٧٦) ، معجم البلدان لياقوت (٥ / ٣١٣ ، ٣١٤) ، العبر للذهبى (١ / ٢٥) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ١٠٥) ، مرآة الجنان لليافعى (١ / ٧٧).
(٢) انظر الرواية فى : الطبرى (٤ / ٥٣٤ ـ ٥٣٦) ، الأخبار الطوال للدينورى (ص ١٣٣ ـ ١٣٨).
أن العرب قد ألحوا علىّ فاشغلوهم عنى ، وردوهم إلى بلادهم ، فكتب بعضهم إلى بعض : أن صاحب العرب الذي جاء بدينهم وأظهر أمرهم هلك ، وملك بعده رجل لم يلبث إلا قليلا حتى هلك ، وإن صاحبهم هذا عمر وطال سلطانه ، وأغزى جنوده بلادكم ، فليس بمنته حتى تخرجوه من بلادكم وتغزوه فى بلاده ، فأجمعوا على ذلك وتمالوا عليه وتعاقدوا ، وأنفذوا أن يجتمعوا بنهاوند ، وبلغ ذلك أهل الكوفة ، فكتبوا به إلى عمر ، فخرج يمشى حتى قام على المنبر ، فقال : أين المسلمون؟ أين المهاجرون والأنصار؟ فاجتمع الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : إن عظماء أهل الرى وأهل أصبهان وأهل همذان وأهل نهاوند وأهل قومس وأهل حلوان ، أمم مختلفة ألوانها وألسنتها وأديانها ومللها ، وقد تعاهدوا أن يخرجوا إخوانكم من بلادهم وأن يغزوكم فى بلادكم ، فأشيروا علىّ وأوجزوا ولا تطنبوا ، فتفشغ بكم الأمور.
فقام طلحة ، وكان من خطباء قريش وذوى رأيهم ومن علية أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال : يا أمير المؤمنين ، قد حنكتك الأمور ، وجربتك الدهور ، وعجمتك البلايا ، وأحكمتك التجارب ، فأنت ولى ما وليت ، لا ينبثر فى يديك ، ولا يحل عليك ، فمرنا نطع ، واحملنا نركب ، وقدنا ننقد ، فإنك مبارك الأمر ، ميمون النقيبة ، وقد أخبرت وخبرت وجربت ، فلم ينكشف شيء من عواقب قضاء الله لك إلا عن خيار.
قال : تكلموا ، فقال عثمان : اكتب إلى أهل الشام أن يسيروا من شامهم ، وإلى أهل اليمن فليسيروا من يمنهم ، وسر نفسك فى أهل الحرمين إلى أهل المصرين ، فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين ، فيتعال فى عينك ما قد كثر عندك ، وتكون أعز منهم ، إنك لن تستبقى من نفسك باقية بعد العرب ، ولن تمتنع من الدنيا بعزيز ، ولا تلوذ منها بحريز ، وهذا يوم له ما بعده ، فاحضرهم برأيك ، واشهدهم بمقدرتك.
قال : تكلموا ، فقال على بن أبى طالب : يا أمير المؤمنين ، إن كتبت إلى أهل الشام فساروا من شامهم أغارت الروم على بلادهم ، وإن سار أهل اليمن من يمنهم خلفتهم الحبش فى عيالاتهم ، وإن سرت بأهل الحرمين انتقضت الأرض عليك من أقطارها ، حتى يكون ما تخلفه من العورات فى العيالات أهم إليك مما بين يديك ، وأما ما ذكرت من مسيرهم فالله لمسيرهم أكره ، وهو أقدر على تغيير ما كره ، وأما كثرتهم فإنا لم نكن نلق عدونا بالكثرة ، ولكنا كنا نلقاهم بالصبر ، إنك إن نظر إليك الأعاجم قالوا : هذا أمير العرب ، فكان أشد لحربهم وكلبهم ، ولكن اكتب إلى أهل البصرة فليتفرقوا على ثلاث فرق ، فلتقم فرقة فى ديارهم ، وفرقة فى أهل عهدهم ، وتسير فرقة إلى إخوانهم بالكوفة.
قال : هذا رأى ، وقد كنت أحب أن أتابع عليه ، لعمرى لئن سرت بأهل الحرمين ونظر إلىّ الأعاجم لتنقضن الأرض وليمدنهم من لم يمدهم ، وليقولن : أمير العرب إن قطعناه قطعنا أصل العرب ، فأشيروا علىّ برجل أوليه واجعلوه عراقيا ، قالوا : أنت أفضل رأيا وأعلم بأهل العراق ، وهم عمالك وقد وفدوا عليك وعرفتهم ، قال : لأولينها رجلا يكون لأول أسنة يلقاها ، النعمان بن مقرن. وكان النعمان بكسكر قد كتب إلى عمر : يا أمير المؤمنين ، إنما مثلى ومثل كسكر مثل شاب عند مومسة تلون له كل يوم وتعطر ، وإنى أذكرك الله إلا بعثتنى فى جيش إلى ثغر غازيا ، ولا تبعثنى جابيا.
فندب عمر أهل المدينة ، فانتدب منهم جمع ، فوجههم إلى الكوفة ، وكتب إلى عمار بن ياسر أن يستنفر ثلث أهل الكوفة ، وأن يسيروا إلى العجم بنهاوند ، فقد وليت عليهم النعمان بن مقرن المزنى ، وكتب إلى أهل الكوفة بذلك ، وكتب إلى أبى موسى أن يستنفر ثلث أهل البصرة إلى نهاوند ، وكتب إلى النعمان : إنى وجهت جيشا من أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة إلى نهاوند ، فأنت على الناس ومعك فى الجيش طليحة بن خويلد وعمرو بن معدى كرب ، فأحضرهما الناس وشاورهما فى الحرب ، فإن حدث بك حدث ، فأمير الناس حذيفة ، فإن قتل فجرير بن عبد الله ، فإن قتل فالمغيرة بن شعبة ، فإن قتل فالأشعث بن قيس ، وذكر الأشعث فى هذا غريب ، فإن المعروف من عمر ، رضياللهعنه ، أنه لم يستعمل أحدا ممن ارتد ، ولكن هذا وقع فى هذا الحديث ، والله أعلم.
وبعث عمر بالكتاب مع السائب بن الأقرع بن عوف ، وقال له : إن سلم الله ذلك الجند فقد وليتك مغانمهم ومقاسمهم ، فلا ترفعن إلىّ باطلا ولا تمنعن أحدا حقه ، وإن هلك ذلك الجند فاذهب فلا أرينك أبدا ، فقدم السائب الكوفة فيمن نفر من أهل المدينة ، وبعث بكتاب أهل البصرة مع عمرو بن معدى كرب فاستنفرهم أبو موسى فنفر ثلثهم ، وخرجوا إلى الكوفة عليهم مجاشع بن مسعود ، وعلى أهل الكوفة حذيفة بن اليمان ، ثم ساروا جميعا مع من قدم من أهل المدينة إلى نهاوند ، وسار النعمان بن مقرن فتوافوا بنهاوند ، والأعاجم بها ستون ألفا عليهم ذو الفروة ، وهو ذو الحاجب ، وهم بمكان يقال له : الاستفيذهان بقرية يقال لها : فيديسجان ، دون مدينة نهاوند بفرسخين ، وقد خندق الأعاجم وهالوا فى الخندق ترابا قد نخلوه ، فبعث النعمان طليحة بن خويلد وبكير بن الشداخ ، فارس أطلال ، ليعلما علم القوم.
فأما بكير فانصرف ، فقيل له : ما ردك؟ قال : أرض العجم ، ولم يكن لى بها علم
فخفت أن يأخذ علىّ مضيق أو بعض جبالها ، ومضى طليحة فأبطأ حتى ساء ظن الناس به ، فعلم علمهم ثم رجع فلم يمر بجماعة إلا كبروا ، فأنكر ذلك منهم ، وقال : ما لكم تكبرون إذا رأيتمونى؟ قالوا : ظننا أنك فعلت كفعلتك. قال : لو لم يكن دين لحميت أن أجزر العرب هذه الأعاجم الطماطم ، وأخبر الناس بعدة القوم وكثرتهم ، فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل.
وأقام النعمان أياما حتى استجم الناس أنفسهم وظهرهم ، فلما كان يوم الأربعاء من بعض تلك الأيام دنا من عسكر المشركين ، وقال : إن أمير المؤمنين كتب إلىّ أن لا أقاتلهم حتى أدعوهم ، فمن رجل يأتيهم بكتابه؟ ومعه فى عسكره ممن قدم من المدينة عبد الله ابن الزبير وعبد الله بن عمر أو الزبير وابنه عبد الله ، فتواكل الناس ، فقام المغيرة بن شعبة يتذيل فى مشيته ، وكان آدم طويلا ذا ضفيرتين أعور ، فأخذ الكتاب فأتاهم ، فقال : القوا إلىّ شيئا ، فألقوا له ترسا فجلس عليه ، فقال الترجمان : ما أقدمكم؟ فذكر ما كانوا فيه من ضيق المعيشة ، وقال : كنا أهل جهد وجفاء بين شوك وحجر ، ومدر وحية وعقرب ، يغير بعضنا على بعض ، فأتينا بلادكم فأصبنا مطعما طيبا وشرابا عذبا ولبوسا لينا وطلا باردا ، فلسنا براجعين إلى ما كنا فيه حتى نصيب حاجتنا أو نموت.
فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا : صدق ، فقالوا : إنكم معشر العرب أرجاس أنجاس ، وإنما غركم مناخر نبذ جوى الأهواز ، وعوران المدائن الذين لقوكم ، وإنه ليس ممن ترى إلا فارسى محض أسوار ، ولو لا فساد الأرض لقتلناكم ، فما حاجتكم التي تريدون أن تصيبوها؟ فقرأ عليهم المغيرة كتاب عمر : إنا ندعوكم إلى ما دعاكم الله إليه ورسوله ، أن تدخلوا فى السلم كافة ، فإن فعلتم فأنتم إخواننا ، لكم ما لنا وعليكم ما علينا ، فإن أبيتم الإسلام فالجزية ، فإن أبيتم الجزية استنصرنا الله عليكم.
قالوا : الآن حين نقرنكم فى الجبال ، فرجع المغيرة ، فقال للنعمان : حبست الناس حتى طمحت أبصارهم ، أما والله إن لو كنت صاحبها؟ قال : ربما كنت ، فلم يخزك الله ولم تخب. ونهض المسلمون للحرب ، فأقبل ذو الحاجب على برذون أمام العجم ، فقالوا : انزلوا بالطائر الصالح الذي نصرتم به على الأمم ، وتهزمون به العرب ، فبرز له رجل من المسلمين فقتله ذو الحاجب ، وتهايجوا واقتتلوا حتى كثرت بينهم القتلى والجرحى ، ثم تحاجزوا ، وغدا المشركون غداة الخميس من غد يجرون الحديد ويسحبون الدروع ، وغدا المسلمون على راياتهم فتقدم رجل من العجم قد أعلم بعصابة فيها جواهر أمام أصحابه ، فحمل عليه أوفى بن سبرة القشيرى فقتله وسلبه ، فنفله النعمان سلبه ، وحمل المشركون
فتلقاهم المسلمون فاقتتلوا حتى صبغت الدماء ثنن الخيل وتحاجزوا عند السماء ، فبات المسلمون يوقدون النيران ، ويعصبون بالخرق ، لهم أنين من الجراح ، ودوى بالقرآن كدوى النحل ، وبات المشركون فى المعازف والخمور وبهم من الجراح مثل ما بالمسلمين.
وأصبحوا يوم الجمعة ، فأقبل النعمان معلما ببياض ، على برذون قصير ، عليه قباء أبيض مصقول وقلنسوة بيضاء مصقولة ، فوقف على الرايات فحضهم ، وقال : يا معشر المسلمين ، إن هؤلاء قد أخطروا لكم أخطارا وأخطرتم لهم أخطارا ، أخطروا لكم دنيا ، وأخطرتم لهم الإسلام ، فالله الله فى الإسلام أن تخذلوه ، فإنكم أصبحتم بابا بين المسلمين والمشركين ، فإن كسر الباب دخل على الإسلام ليشغل كل امرئ منكم قربه ولا يخلفه على صاحبه ، فإنه لوم وخذلان ووهن وفشل ، إنى هاز الراية فإذا هززتها فليأخذ الرجال همايينها فى أحقيتها وشسوعها فى نعالها ، وليتعهد أصحاب الخيل أعنتها وحزمها ، فإذا هززتها الثانية فليعرف كل امرئ منكم مصوب رمحه وموضع سلاحه ووجه مقاتله ، فإذا هززتها الثالثة وكبرت فكبروا واستنصروا الله واذكروه ، فإذا حملت فاحملوا.
فقال رجل من أهل العراق : قد سمعنا مقالتك أيها الأمير ، فنحن واقفون عند قولك ، منتهون إلى رأيك ، فأى النهار أحب إليك؟ أوله أم آخره؟ قال : آخره حين تهب الرياح ، وتحل الصلاة وينزل النصر لمواقيت الصلاة ، فأمهل الناس حتى إذا زالت الشمس ، هز الراية فقضى الناس حوائجهم وشدت الرجال مناطقها ، ونزع أصحاب الخيل المخالى عن خيلهم وقرطوها أعنتها وشدوا حزمها وتأهبوا للحرب ، ثم أمهل حتى إذا كان فى آخر الوقت هزها فصلى الناس ركعتين وجال أصحاب الخيل فى متونها وصوبوا رماحهم فوضعوها بين آذان خيولهم ، وأقبلت الأعاجم على براذينهم عليهم الرايات المدبجة ، والمناطق المذهبة ، ووقف ذو الحاجب على بغلة ، فلقد رأى الأعاجم وهم فى عدتهم وإن لأقدامهم فى ركبهم لزلزلة ، وإن الأسوار ليأخذ النشابة فما يسدد الفوق للوتر وما يتمالك أن يضعها على قوسه.
فقال النعمان : يا معشر المسلمين ، إنى هاز الراية وحامل فاحملوا ، ولا يلوى أحد على أحد ، وإن قيل قتل النعمان ، فلا يلوين علىّ أحد ، وأنا داع بدعوة فعزمت على كل رجل منكم إلا أمن ، ثم قال : اللهم اعط النعمان اليوم الشهادة فى نصر المسلمين ، وافتح عليهم ، ثم نثل درعه ، وهز الراية وكبر ، فكبر الأدنى فالأدنى ممن حوله حتى غشيهم التكبير من السماء ، وصوب رايته كأنها جناح طائر ، وحمل وحمل الناس ، فكان أول