آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: مؤسسة عاشوراء للتحقيقات والبحوث الإسلامية
المطبعة: مطبعة الكوثر
الطبعة: ١
ISBN: 964-7263-74-0
الصفحات: ٢٠٦
الهوىٰ ، فيقول : ما هذا الزهد البارد ؟ ولِمَ تمتنع عن هواك فتؤذي نفسك ؟ وهل ترىٰ أحداً من أهل عصرك يخالف هواه أو ترك عزيمته ؟ أفتترك ملاذ الدنيا لهم يستمتعون منها وتحجر علىٰ نفسك حتىٰ تبقىٰ محروماً مطعوناً يضحك عليك أهل الزمان ، تريد أن تزيد منصبك علىٰ فلان بن فلان ، وقد فعلوا مثل ما اشتهيت ولم يمنعوا ، أما ترىٰ العالم الفلاني ليس يحترز عن فعل ذلك ، ولو كان شراً لامتنع عنه.
فتميل النفس إلىٰ الشيطان وتنقلب إليه ، فيحمل الملك حملة علىٰ الشيطان ، ويقول : هل لك إلّا من اتبع لذة الحال ونسي العاقبة ، أفتقنع بلذة يسيرة وتترك الجنة ونعيمها أبد الآباد ؟ أو تستثقل ألم الصبر عن شهوة ، ولا تستثقل ألم النار ؟ أتغتر بغفلة الناس عن أنفسهم واتباعهم الهوىٰ ومساعدتهم الشيطان ، مع أنّ عذاب النار لا يخفف بمعصية غيرك ؟ فعند ذلك تميل النفس إلىٰ قول الملك ، فلا يزال مردداً بين الجندين ، متجاذباً إلىٰ الجانبين ، إلىٰ أن يغلب علىٰ القلب من هو أولىٰ به.
فإن غلب علىٰ القلب الصفات الشيطانية غلب الشيطان ، وأجرىٰ علىٰ جوارحه سوابق القدر ما هو سبب بُعده عن الله تعالىٰ.
وإن غلب عليه الصفات الملكية لم يصغ القلب إلىٰ إغواء الشيطان ، وظهرت الطاعة علىٰ جوارحه بموجب ما سبق من القضاء ، و ( قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن ). وفي الحديث : ( في القلب : لمّتان : لمة من الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحقّ ، ولمّة من العدوّ إيعاد بالشر وتكذيب بالحقّ ) » (١) انتهىٰ.
فظهر أنَّ الشيطان بوساوسه ممدّ ومعين للهواجس النفسانية ، والرحمن والملك بعناياتة وإلهاماته ممدّ وناصر للنصائح العقلانية ، والشخص الإنساني إن كان تخمير طينته من العليين يميل إلىٰ الحقّ بمعونة نصح العقل ، وإن كان تخمير طينته من السجين يميل إلىٰ الباطل بمعونة الشيطان وهواجس النفس.
_____________________________
(١) « إحياء علوم الدين » ج ٣ ، ص ٢٦ ـ ٢٧.
ثم « المطال » في قوله : ( ومطالي ) هو المصدر الثاني من المصادر الثلاث التي كانت لباب المفاعلة ، والمعنىٰ : مماطلتها إياي ومماطلتي إياها. والمماطلة : تأخير الحقّ عن ذي الحقّ ، ومنه الحديث : ( من مطل علىٰ ذي حق حقه فهو ملعون ).
فيقول السائل : خدعتني الدنيا بغرورها ، وخدعتني نفسي بخيانتها ومماطلتها إياي عن حقّي الذي هو ما يتقرّب به إلىٰ الله تعالىٰ ، من معرفته ومعرفة صفاته وأسمائه ، والتخلّق بأخلاقه. وفي إتيانه بلفظ « المطال » دون « المطل » إشعار بأنّ المماطلة من الطرفين ، يريد أنّه كما أنّ نفسي ماطلتني عن حقي ، كذلك ماطلتها عن حقّها الذي هو سوق الشهوات ونيل الأماني والآمال.
( يَا سَيِّدِي )
قد جاء « سيّد » لمعانٍ.
قال في المجمع : « السيّد : الرئيس الكبير في قومه المطاع في عشيرته وإن لم يكن هاشمياً ولا علوياً ، والسيّد : الذي يفوق في الخير ، والسيد : المالك. ويطلق علىٰ : الربّ ، والشريف ، والفاضل ، والكريم ، والحليم ، والمتحمّل أذىٰ قومه ، والزوج ، والمقدّم » (١) انتهىٰ.
و ( السيّد ) من أسمائه تعالىٰ ، فهو في حقّه بمعنىٰ الربّ المالك الشريف ، الفاضل الكريم الحليم المقدّم ، الفائق في الخير. والمعاني الاُخر لا [ تناسبه ] (٢) تعالىٰ إلّا إذا جُرّدت عمّا يدلّ علىٰ التجسّم.
ثم لمّا وصف السائل طائفة من نعمه تعالىٰ ومننه بالنسبة إليه ـ وأبرز غصّته من جرائمه وآثامه ، وسوء أحواله وآلامه ، وعظم بلائه ، وخداع الدنيا ، وخيانة نفسه ومماطلتها إياه صار المقام مقام الالتجاء والاستعاذة إليه تعالىٰ ، ولذا قال :
_____________________________
(١) « مجمع البحرين » ج ٣ ، ص ٧١ ، مادة « سيد ». |
(٢) في المخلوط : « يناسب به ». |
( فَأَسْأَلُكَ بِعِزَّتِكَ أنَ لا يَحْجُبَ عَنْكَ دُعائي )
أي لا يستر عنك.
( سُوءُ عَمَلي وَفِعالي )
جمع « فِعل » ـ بالكسر ـ : وهو الاسم من : فَعَلَ يَفَعلُ ، كقوله تعالىٰ : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) (١).
يريد أنّ قبح أعمالي وسوء أفعالي كاد أن يحجب ويستر عنك دعائي فأسألك بعزّتك وقدرتك التي لا يمتنع معها شيء أن تُبدّل سيئات أفعالي بالحسنات ، ولا تجعلها حجباً بينك وبين دعواتي وأسئلتي.
والباء في قوله : ( بعزّتك ) للسببيّة ، ويجوز أن يكون للاستعانة.
( وَلا تَفْضَحَني بِخَفِيّ مَا اَطَلَعْتَ عَليهِ مِنْ سِرّي )
الفضيحة : العيب ، والجمع : فضائح ، ويجيء بمعنىٰ الكشف.
وفي الدعاء : ( اللهم لا تفضحنا بين خلقك ) (٢) أي استر عيوبنا ولا تكشفنا.
السرّ : خلاف الجهر ، وكلمة ( من ) بيان لـ ( ما ) ، والجملة معطوفة علىٰ ما قبلها.
( وَلَا تُعاجِلْنِي بِالعقُوبَةِ عَلىٰ ما عَمِلتُهُ في خَلَواتي )
العقوبة : العذاب.
( مِنْ سُوءِ فِعْلِي وَإساءَتي ، وَدَوَامِ تَفْريطي وجَهالَتي ،
_____________________________
(١) « الأنبياء » الآية : ٧٣.
(٢) « بحار الأنوار » ج ٩٤ ، ص ٢٦٩ ، وفيه : « لا تفضحنا علىٰ رؤوس الخلائق ».
وَكَثْرَةِ شَهَواتي وَغَفْلَتي )
كلمة ( من ) أيضاً بيان لـ ( ما ).
الإساءة : خلاف الإحسان ، ومراده الإساءة في طاعة الله وعبادته ، كما أن الإحسان في العبادة أن تعبد الله كما تراه ، علىٰ ما روي عنهم عليهمالسلام.
وقال النبي صلىاللهعليهوآله ـ في تفسير الإحسان المذكور في الآية الشريفة : ( ثُمَّ اتَّقَوا وَّآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا وَّأَحْسَنُوا ) (١) ـ : ( الإحسان أن تعبدوا الله كما ترونه ) (٢).
التفريط : التقصير عن الحدّ ، كما مرّ ذكره.
الجَهالة ـ بالفتح ـ مصدر ـ جهل يجهل جهلاً وجهالة : وهي عدم العلم والمعرفة كما مرّ ، قال الله تعالىٰ : ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّـهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ) (٣).
وقيل : الجهالة : هي اختيار اللذة الفانية علیٰ اللذة الباقية ، وهي أيضاً منشؤها عدم العلم.
الشهوات ـ جمع « الشهوة » ـ : وهي والغضب قوّتان مودعتان في النفس الحيوانية ، والمراد هنا كل ما تشتهيه النفس وتلتذّ به ، كما قال تعالىٰ ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ ) (٤).
( وَكُن اللّهُمَّ بِعِزَّتِكَ لِي في الأَحْوالِ كُلِّها رَؤُوفاً )
حرف الباء للقَسَم ، أي اُقسم عليك بعزتك. وإظهار لفظ الجلالة مع استتاره في كلمة ( كن ) للتأكيد ولمزيد الاهتمام به ، ولتحلية اللسان بذكره ، ولإعادة ذكر الحبيب ، كما مرّ.
( الأحوال ) ـ جمع « الحال » ـ : وهو الهيئة التي عليها الإنسان من التذكّر والتفكّر ،
_____________________________
(١) « المائدة » الآية : ٩٣. |
(٢) « سنن الترمذي » ج ٥ ، ص ٧ ، ح ٢٦١٠ ، باختلاف. |
(٣) « النساء » الآية : ١٧. |
(٤) « آل عمران » الآية : ١٤. |
والطاعة والمعصية ، والأكل والشرب ، والنوم واليقظة وغيرها.
الرأفة : الرحمة ، وقيل (١) : هي أرق من الرحمة ؛ لأنّها تُقطع مع الكراهة لمصلحة ، بخلاف الرأفة فإنّها لا تقطع معها.
و ( الرؤوف ) من أسمائه تعالىٰ ، ونصبه علىٰ أنّه خبر ( كن ) واُريد معناه الوصفي.
( وَعَلَيَّ فِيْ جَميعِ الاُمورِ عَطُوفاً )
معطوفة علىٰ ما قبلها ، أي وكن اللّهم عليَّ في جميع الاُمور عطوفاً.
العطوف : المشفق.
( إلهي وَرَبِّي ، مَنْ لِي غَيْرُكَ )
كلمة : ( مَن ) للاستفهام ، ومَن ذا الذي غيرك ؟ ( ألغيرك من الظهور ما ليس لك ) ؟ وغيرك الذي يطلبه الجاهلون ( كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّـهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ) (٢).
وإنّما اختص السائل بنفسه وقال : ( من لي غيرك ) ، والحال أنه مَن للجميع غيره تعالىٰ ؟ إشعاراً بأنّ عدم رؤية غيره ديدن الموحّدين ، ودأب المفردين وغيرهم نصب أعينهم رؤية غيره تعالىٰ في حوائجهم ، ومآربهم ، وإذا يئسوا عن الأغيار اُلجئوا في الاتجاه إلىٰ الله الواحد القهّار ، وهو تعالىٰ حينئذٍ يجيبهم ويكشف عنهم السوء ، ويعطي مسألاتهم ، كما قال تعالىٰ : ( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ) (٣).
ثم إنّه أردف « الإله » بذكر « الرب » ؛ ليخرج العموم والشمول من معنىٰ « الإله » ، الذي هو بمعنىٰ المعبود ، حقاً كان أو باطلاً ، ويخصّه بالإله الذي هو معبوده الحقيقي ،
_____________________________
(١) « النهاية في غريب الحديث والأثر » ج ٢ ، ص ١٧٦.
(٢) « النور » الآية : ٣٩. |
(٣) « النمل » الآية : ٦٢. |
وربّه وربّ العالمين.
والربّ يطلق علىٰ : المالك ، والمدبّر ، والسيّد ، والمربّي ، والمتم ، والمنعم ، والصاحب ، وهو غير مضاف لا يطلق إلّا علىٰ الله تعالىٰ.
( أَسْأَلُهُ كَشفَ ضُرّي ، وَالنَّظَرَ فِي اَمْريْ )
والجملة مُستفهم عنها.
وفي المجمع قال : « قال الشيخ أبو علي رحمهالله : الضُرّ ـ بالضم ـ : هو الضرر في النفس ، من مرض وهُزال ووجع غيره ، وبالفتح : الضرر من كلّ شيء » (١).
أقول : إن كان مراد السائل هو الضُرّ ـ بالضم ـ كما هو المشهور في الألسنة والمسطور في النسخ ، فيقول : مالي أحد أسأله ارتفاع ضرّ نفسي من الآلام والأمراض والهموم والغموم غيرك ، كما هو المراد في قوله تعالىٰ حكاية عن أيوب النبي عليهالسلام : ( إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) (٢).
وإن قرئ ـ بالفتح ـ فمراده أسأله كشف جميع مضرّاتي ، سواء كانت نفسانية أو جسمانية أو غيرهما.
والأمر في قوله : ( والنظر في أمري ) أعمّ من الاُمور الدينية والدنيوية.
( إلهي وَمَولايَ أَجْرَيْتَ عَليَّ حُكماً اتبعتُ فيهِ هَوىٰ نَفسي )
بيان معنىٰ الحكم
المراد بالحكم هنا : الحكم الشرعي ، أي التكليف ، وهو ـ كما قيل ـ : طلب الشارع الفعل أو تركه ، مع استحقاق الذم بمخالفته وبدونه أو تسويته.
وعند الأشاعرة : هو خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين.
_____________________________
(١) « مجمع البحرين » ج ٣ ، ص ٣٧٢. |
(٢) « الأنبياء » الآية : ٨٣. |
فالفعل المطلوب إن كان مع المنع من الترك فهو الواجب ، أو مع جواز الترك ولكن علىٰ المرجوحية فهو المندوب ، أو علىٰ الراجحية وهو المكروه ، أو علىٰ المساواة وهو المباح.
والترك المطلوب إن كان مع المنع من الفعل فهو الحرام.
التحسين والتقبيح العقليان والشرعيان
ومعنىٰ قولنا : أنَّ المراد بالحكم : الحكم الشرعي ، ليس أنّه لا يكون عقلياً ، بل الشرع كاشف عن أحكام العقل ، كما هو قاعدة التحسين والتقبيح العقليين ؛ لأنّه قد اختلف في حسن الأشياء وقبحها أنّهما عقليان أو شرعيان ؟
فذهب جمهور الإمامية والحكماء وجمهور المعتزلة إلیٰ الأول (١).
وجمهور الأشاعرة إلىٰ الثاني (٢).
والمراد بحسن الفعل : أن يستحق فاعله المدح ، وبقبحه أن يستحق فاعله الذم.
والمراد بالعقلية : أنه يمكن أن يعلم الممدوحية النفس الأمريّة أو المذموميّة النفس الأمرية ، وإن لم يرد أمر ونهي فيها من الشرع ؛ إمّا تفصيلاً ، وإمّا اجمالاً بأن يعلم أنّه لو لم يكن في الفعل المأمور به جهة حسن لما أمر به ، ولو لم يكن في المنهي عنه جهة قبح لما نهىٰ عنه ، وإن لم يعلمهما بخصوصهما.
والمراد بشرعيتهما خلاف ذلك ، فإنَّ الأشاعرة (٣) ـ مثلاً ـ يقولون : لا حسن وقبح في المأمور والمنهي في نفس الأمر ، بل الحسن والقبح بمجرّد الأمر والنهي. ويقولون : ما أمر به في وقتٍ جاز أن ينهىٰ عنه في ذلك الوقت ، وما نهیٰ عنه في وقت جاز أن يأمر به في ذلك الوقت.
والقائلون بالعقلية يقولون : لا يجوز إلّا في وقتين ؛ للمصلحة والمفسدة ، كما في
_____________________________
(١) انظر « كشف المراد » ص ٥٩. |
(٢) انظر « كشف المراد » ص ٥٧. |
(٣) انظر « كشف المراد » ص ٥٧.
النسخ ، والآيات المنسوخة تدلّ علىٰ ذلك.
والحقّ : العقلية ، والأحكام الخمسة الشرعية كواشف العقلية.
والأدلّة التي ذُكرت من الجانبين كثيرة في كتبهم المبسوطة ، من شاء فلينظر إليها ، وهذا المختصر لا يليق بذكره.
الهوىٰ ـ بالقصر ـ : ميل النفس إلىٰ مأمولها.
وفي الحديث : ( شرّ إله عُبد في الأرض الهوى ) (١). والعمل به باطل شرعاً.
وفيه أيضاً : ( ليس أن يأخذ بهوىٰ ولا رأي ولا مقاييس ).
( وَلَمْ أَحْتَرِسْ فيهِ مِنْ تَزْيين عَدوّي )
( لم أحترس ) : أي لم أحتفظ.
وفي الدعاء : ( اللهم احرسني من حيث أحترس ، ومن حيث لا أحترس ) (٢).
التزيين : التحسين والتجلية.
يريد أنّ في الحكم والتكليف الذي أجريت عليَّ اتّبعت فيه هوىٰ نفسي ، وما حفظت نفسي في العمل بأمر الله والكفّ عن المنهي عنه ( تزيين عدوي ) الذي هو الشيطان ، فإنَّ شأنه وشغله تحسين المحرّمات وتزيينها علىٰ النفوس ، حتّىٰ اتبعتها في تحصيلها واستدراكها.
ولذا علّمنا الله تعالىٰ بالاستعاذه منه ومن مكائده في جميع الأحال إليه تعالىٰ ، وقال تعالىٰ : ( فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّـهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) (٣) وقال : ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ) (٤) و ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) (٥)... إلىٰ آخره.
وفي جامع الأخبار : قال : « روي أنَّ إبليس ظهر ليحيىٰ بن زكريا ، فرأىٰ عليهالسلام
_____________________________
(١) انظر « شرح الأسماء » ص ١٠٠. |
(٢) « بحار الأنوار » ج ٨٣ ، ص ٤٥. |
(٣) « النحل » الآية : ٩٨. |
(٤) « الناس » الآية : ١. |
(٥) « الفلق » الآية : ١.
معاليق من كل شيء ، فقال يحيىٰ عليهالسلام : ( ما هذه ؟ ) قال : هذه الشهوات التي اُصيب بهنَّ بني آدم ، فقال : ( هل لي فيها شيء ) قال : ربّما شبعت فثقلناك عن الصلاة والصوم والذكر. قال عليهالسلام ( لله عليَّ أن لا أملأ بطني من طعام أبداً ). قال إبليس : ولله عليَّ أن لا أنصح مسلماً أبداً » (١).
أقول : فلعلك رأيت في المثنوي الحكاية التي ذكرها عن الشيطان في قصة إبراهيم عليهالسلام بقتل الديكة ، التي هي إشارة إلىٰ القلع والقمع للقوة الشهويّة ، ولا نبالي بذكرها هاهنا : للمناسبة بينها وبين الحديث المذكور :
كفت إبليس لعين ذا نارزا |
|
دام زفتى خواهم اين اشكار را |
زر رسيم وكلهٔ اسبش نمود |
|
كه بدين ثانى خلائق را ربود |
كفت شاباش و ترش افكند لنج |
|
شد ترنجيده و ترش همچون ترنج |
پس زد و گوهر ز معدنهای کش |
|
کرد ان پس مانده را حق پيشکش |
گير اين دام دکر را ای لعين |
|
کفت زين افزون ده ای نعم المعين |
چرب وشيرين وشرابات شمين |
|
دادش و بس جامهٔ ابريشمين |
کفت يا رب بيش از اين خواهم مدد |
|
تا به بند هشان بحبل من مسد |
تا که مستانت که نرو پر دلند |
|
مردوا راين بندها را بکسلند |
تا بدين دام ورسنهای هوا |
|
مرد تو کرد ز نامردان جدا |
دام ديکر خواهم بسلطان محنت |
|
دام مرد انداز حيلت ساز سخت |
خمر وچنک آورد پيش او نهاد |
|
يتيم خنده زد بدان شديم شاد |
سوی اضلال ازل پيغام کرد |
|
که براد از قعر بحر فتنه کرد |
فی يکی از بند کانت موسی است |
|
پردها در بحر او از کرد بست |
اب از هر سو عنان را فا کشيد |
|
از تک دريا غباری برجهيد |
_____________________________
(١) « جامع الأخبار » ص ٥١٥ ، ح ١٤٥٤.
چونکه خوبی زنان با او نمويد |
|
که از عقل و صبر مردان مير بود |
پس زد انکشتک برقص اندر فتاد |
|
که بده زوتر رسيدم بر مراد |
چون بديد ان چشميای پر خمار |
|
كه كند عقل و مجرد را بيقرار |
وان صفاى عارض آن دلبران |
|
که بسوز چون سپند اين دل ران |
رو وخال وابرو ولب چون عقیق |
|
کوئيا حق تافت از بردهٔ رقيق |
أعاذنا الله تعالىٰ عن شروره وفتنه بألطافه ومننه ، ووقانا من الوقوع في حبائله ومكائده.
( فَغَرَّني بِما أَهْوىٰ )
أي خدعني نفسي أو عدوي الذي هو الشيطان ، بسبب ما أرغب فيه من المشتهيات والمشتبهات.
( وَأَسْعَدَهُ عَلىٰ ذَلِكَ )
أي أعانه وأمده ـ أي نفسي أو عدوي ـ علىٰ الخداع والتسويل.
( القَضاء )
بيان معاني القضاء
القضاء في اللغة يأتي لمعان :
أحدها : الإتيان بالشيء.
الثاني : فعل العبادة ذات الوقت المحدود المعيّن بالشخص خارجاً عنه.
الثالث : فعل العبادة استدراكاً لما وقع مخالفاً لبعض الأوضاع المعتبرة ، ويسمّىٰ هذا : إعادة.
جميعها مذكورة في مجمع البحرين (١).
وفي الصحاح قال الجوهري : « القضاء أصله : قضاي ؛ لأنّه من : قضيتُ ، إلّا إنّ الياء لمّا جاءت بعد الألف هُمزت ، والجمع : الأقضيّة ، والقضية مثله ، والجمع : قضايا » (٢).
والقضاء المقرون بالقدر كما هو المراد هاهنا.
قيل : المراد به : الخلق ، وبالقدر : التقدير. ويؤيده قوله عليهالسلام : ( القضاء : الإبرام وإقامة العين ) (٣) وقوله عليهالسلام : ( وإذا قضىٰ أمضىٰ ) (٤) وهو الذي لا مردّ له.
وفي حديث علي عليهالسلام ، مع الشيخ الذي سأله عن المسير إلىٰ الشام ، قال له : يا أمير المؤمنين ، أخبرنا عن مسيرنا إلىٰ الشام ، أبقضاء من الله وقدر ؟ فقال عليهالسلام : ( يا شيخ ما علوتم تلعة ولاهبطتم بطن وادٍ إلّا بقضاء من الله وقدر ). فقال الشيخ : عند الله أحتسب عنائي ؟ فقال عليهالسلام : ( وتظن أنّه كان قضاء حتماً وقدراً لازماً ؛ إنه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر من الله ، ويسقط معنىٰ الوعد والوعيد ، فلم تكن لائمة من الله للمذنب ولا محمدة للمحسن ، تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وقدرية هذه الأُمّة ) (٥).
وفيه أيضاً عن علي عليهالسلام ، قال : ( الأعمال ثلاثة أحوال : فرائض ، وفضائل ، ومعاصي.
فأمّا الفرائض فبأمر الله ورضا الله وبقضاء الله ومشيئته وبعلمه وتقديره ، وأمّا الفضائل فليس بأمر الله ، ولكن برضا الله وبقضائه ومشيئته وعلمه. وأمّا المعاصي فليست بأمر الله ، ولكن بقضاء الله ومشيئته وعلمه ، ثمّ يعاقب عليها ) (٦).
أقول : قد ظهر بقوله عليهالسلام في تحقيق معنىٰ القضاء للعاقل الفطن ما قاله الحكماء : من أنّ القضاء هو وجود جميع الموجودات مجملة علىٰ الوجه الكلّي في العالم
_____________________________
(١) « مجمع البحرين » ج ١ ، ص ٣٤٣ ، مادة « قضا ». |
(٢) « الصحاح » ج ٦ ، ص ٢٤٦٣ ، باختلاف. |
(٣) « مختصر بصائر الدرجات » ص ١٤٩. |
(٤) « بحار الأنوار » ج ٩٤ ، ص ٢٥٧. |
(٥) « الكافي » ج ١ ، ص ١٥٥ ، ح ١ ، باختلاف. |
(٦) « بحار الأنوار » ج ٧٥ ، ص ٤٣ ، ح ٣٥. |
العقلي ، والقدر هو وجود صور الموجودات مفصّلة في العالم النفسي السماوي علىٰ الوجه الجزئي ، مطابقة لما في موادها الخارجية.
وقد مرّ أن فيضه تعالىٰ من حيث كونه علّة مؤدية لوجود المقضي في الألواح العالية وفي هذا العالم قضاء ، ومن حيث إنّه يقدّر شكل المقضي ويعيّنه قدر.
فقول السائل : ( وأسعده علىٰ ذلك القضاء ) يعني : أعان نفسي أو عدوي في اغتراري وافتتاني في سوق الشهوات وصدور المعاصي القضاءُ ، أي وجوداتها العقلانية التي كانت علّة مؤدية لوجود ما صدر عني في هذا العالم من الحسنات والسيئات.
( فَتَجاوَزْتُ بِما جَرىٰ عَليَّ مِنْ ذلِكَ بَعْضَ حُدودِكَ )
الحدود : جمع الحدّ ، وحدوده تعالىٰ : أحكامه من الأوامر والنواهي ، كما قال تعالىٰ : ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ ) (١) وسمّاها : حدوداً ؛ لأنَّ الشرائع كانت كالحدود المضروبة للمكلّفين ، لا يجوز لهم أن يتجاوزوها.
يريد : أنّه لأجل اغتراره من نفسه تجاوز بعض حدود الله تعالىٰ. وحرف الباء للسببية.
( وَخَالَفْتُ بَعْضَ أَوامِرِكَ )
الأوامر : جمع « أمر » ، علىٰ غير القياس ، وكلمة ( بعض ) كما يطلق علىٰ واحد من الجماعة ، وعلىٰ فرد واحد من كل شيء ، وعلىٰ جزء واحد ، كذلك يطلق علىٰ أكثرهم وعلىٰ أكثر الأفراد والأجزاء.
ومخالفة الأمر أعمّ من أن لا يقضيه أو يقضيه ، ولكن لا يكون كما أمره تعالىٰ ،
_____________________________
(١) « البقرة » الآية : ١٨٧.
مثلاً أمر الله تعالىٰ بإتيان الصلاة وإقامتها في وقتها مع شرائطها المقرّرة ، إن صلىٰ أحدٌ غير جامع لشرائطها ، أو لم يصلِّ في وقتها عامداً عالماً ، كان مخالفاً لأمره تعالىٰ.
ومن جملة أوامره الأمر بتحصيل المعرفة ، كما فسّروا قوله تعالىٰ : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (١) أي ليعرفون. وكذا في قوله تعالىٰ : ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّـهَ ) (٢) ؛ إذا العبادة فرع علىٰ معرفة المعبود ولو إجمالاً.
وأقلّ مراتب معرفته تعالىٰ : معرفته بالبرهان ، كما قال تعالىٰ : ( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ) (٣).
وقال الباقر عليهالسلام : ( إنّي لوددت أن أضرب رؤوسكم بالسياط حتّىٰ تتفقهوا في الدين ، وتستنبطوا اُصول عقائدكم بالحجج والبراهين ) (٤).
وروي : ( المتعبّدون بغير علم كحمار الطاحونة ) (٥).
( فَلَكَ الحَمْدُ عَلَيَّ فِي جَميْعِ ذلِكَ )
كما في الدعاء : ( نحمدك علىٰ بلائك ، كما نشكرك علىٰ آلائك ).
وحقّ الحمد وحقيقته ما حمد الله به نفسه ، إذ حمده هو الوجود المنبسط بشراشره ، فإنّ حقيقة الحمد هي إظهار فضائل المحمود وفواضله ، وشرح جماله وجلاله ، وهو بتمامه شارح كمالاته تعالىٰ وأفضاله ، وواصف كراماته وإجلاله ، وإعراب عمّا في مرتبة غيب الغيوب ، كما ورد أنَّ كلامه تعالىٰ فعله.
قال السيد المحقّق الداماد ـ نوّر الله ضريحه ـ في القبسات : « أفضل مقامك
_____________________________
(١) « الذاريات » الآية : ٥٦. |
(٢) « البينة » الآية : ٥. |
(٣) « البقرة » الآية : ١١١.
(٤) « قرة العيون » للكاشاني ، ص ٢٠ ، وفيه : « ليت السياط علىٰ رؤوس أصحابي حتىٰ يتفقهوا في الحلال والحرام ».
(٥) « بحار الأنوار » ج ١ ، ص ٢٠٨ ، ح ١٠ ، وفيه : « المتعبد علىٰ غير فقه ... ».
في الحمد أن تجعل قسطك من حمدك لبارئك قصياً مرتبتك الممكنة من الاتصاف بكمالات الوجود ، كالعلم والحكمة والجود والعدل مثلاً ، فيكون جوهر ذلك حينئذٍ أجمل الحمد لبارئك الوهاب سبحانه ، فإنك إذن تنطق بلسانك الحال كلّ صفة من تلك الصفات أنها فيك ظل صفته سبحانه ، وصنع هبة ذاته جلّ سلطانه بحسب نفس ذاته في تلك الصفة ، علىٰ أقصىٰ المراتب الكمالية.
فقد ذكرنا في سدرة المنتهىٰ وفي المعلقات علىٰ زبور آل محمد صلىاللهعليهوآله : أنّ الحمد في قوله تعالىٰ : ( الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (١) هو ذات كلّ موجود بما هو موجود ، وهوية كلّ جوهر عقلي بحسب مرتبته في الوجود وقسطه من صفات الكمال ؛ ولذلك كان عالم الأمر ـ وهو عالم الجواهر المفارقة ـ عالم الحمد وعالم التسبيح والتمجيد. ومنه في القرآن الحكيم : ( لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ) (٢) » (٣) انتهىٰ كلامه القمقام.
( وَلاَ حجَّةَ لي فيما جَرىٰ عَلَيَّ فيهِ قَضاؤكَ )
الحجة ـ بضم الحاء ـ اسم من الاحتجاج : وهو المغالبة علىٰ الخصم بالدليل ، كما قال تعالىٰ : ( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّـهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (٤) وقوله : ( فَلِلَّـهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ) (٥).
و ( قضاءُ ) ـ بالرفع ـ فاعل ( جرىٰ ) اُضيف إلىٰ ضمير الخطاب ، والمخاطب هو الله تعالىٰ ، يريد السائل : أنّه لا حجّة لي في شيء جرىٰ قضاؤك عليَّ في ذلك الشيء ، بل لك الحجّة في إجراء قضائك عليَّ. ومقصوده : أنَّ المجاوزة عن بعض الحدود
_____________________________
(١) « الفاتحة » الآية ٢. |
(٢) « التغابن » الآية : ١. |
(٣) « القبسات » ص ٤٥٩. |
(٤) « النساء » الآية : ١٦٥. |
(٥) « الأنعام » الآية : ١٤٩.
والمخالفة في بعض الأوامر وقعت عني لسببين :
أحدهما : السبب الطبيعي الذي هو اغترار نفسي المسوّلة.
والآخر : هو السبب الإلهي الذي هو قضاؤك الذي لا مردَّ له ، كما قيل : إذا جاء القضاء ضاق الفضاء ، وإذا جاء القدر عمىٰ البصر.
قضا چون از گردون فرو ريخت پر |
|
همه عاقلان کور گردند و کر |
چون قضا آيد طبيب ابله شود |
|
و آندوا در نفع خود گمره شود |
از قضا سرکنگبين صفر آفزود |
|
روغن بادام خشکی مينمود |
فأين الحجّة وأي حجة لي في ذلك ؟.
( وألزَمِنَي فِيهِ حُكْمُكَ وَبَلاؤك )
حكمه تعالىٰ : مشيئته الفعلية ، كقوله تعالىٰ : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ ) (١).
والبلاء : بمعنىٰ الابتلاء والامتحان.
وقوله : ( ألزمني ) أي أثبتني وقّفني ، والضمير الغائب راجع إلىٰ التجاوز والتخالف في الأوامر والحدود.
( وَقَدْ أَتيْتِكُ يا إلٰهي بَعْدَ تَقْصِيري وإسْرافِي عَلَىٰ نَفْسِي ، مُعْتَذِراً نادِماً ، مُنْكَسِراً مُسْتَقِيلاً ، مُسْتَغِفْراً منيباً ، مُقرّاً مُذْعِناً مُعْتَرِفاً ، لا أجِدُ مَفَرّاً مِمّا كانَ مِنّي ، ولا مَفْزَعاً أتَوَجَّهُ إليهِ في أمْرِي ، غَيرَ قَبولِكَ عُذْرِي )
التقصير : التفريط في الأعمال كما مرّ ، والإسراف : هو الإفراط فيها بحيث يتجاوز عن الحدود.
_____________________________
(١) « الإنسان » الآية : ٣٠ ؛ « التكوير » الآية : ٢٩.
وقد مرّ أنهما من القذارات المعنوية.
فليجتنب المؤمن العادل عن الوقوف في حدّي الإفراط والتفريط ، ويستقرّ في حدود الأوساط في كلّ شيء ، حتىٰ تتحلىٰ نفسه بالأخلاق الحسنة من الحكمة والعفّة والسخاوة والشجاعة ، وليقتصد فليكن أُمّة وسطاً ، كما قال تعالىٰ : ( جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ) (١).
الاعتذار : إظهار ما يقتضي العذر والإتيان به.
الندامة : هي التوبة ، والندم : ضرب من الغمّ والحزن ، وهو أن يغتمّ علىٰ ما وقع منه ، يتمنىٰ أنّه لم يقع.
والانكسار : هو كسر الفؤاد ، كما في الحديث القدسي : ( أنا عند القلوب المنكسرة ) (٢).
چون دوست دل شکسته ميدارد دوست |
|
زين بعد من وشکسته کی ودرِ دوست |
الاستقالة : طلب الإقالة والعفو ، كما أنّ الاستغفار طلب المغفرة والرحمة.
والإنابة : الرجوع ، كما في قوله تعالىٰ : ( مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ) (٣) أي راجعين إليه.
مقرّاً : أي قائلاً باللسان.
والإذعان : هو الاعتقاد بالجنان ، كما أنَّ الاعتراف هو الإقرار مع الاعتقاد.
وجملة : ( لا أجد ... ) إلىٰ آخره ، متعلّقة بقوله : ( مقرّاً ) وما بعده.
المَفرّ : المهرب والمناص.
المفزع : الذي يلتجأ ويفزع إليه في الشدائد والمهالك.
( غير ) : اسم الاستثناء ، والمستثنىٰ ( مفرّاً ) ، كأنّه قال : لا أجد مفرّاً إلّا أنت لتقبل
_____________________________
(١) « البقرة » الآية : ١٤٣. |
(٢) انظر « شرح الأسماء » ص ٤٢٤. |
(٣) « الروم » الآية : ٣١ ، ٣٣.
عذري ، وهو تعالىٰ باعتبار المَفَرِّية داخل في المستثنىٰ منه.
( وإدخالِكَ إيّايَ في سَعَةٍ مِنْ رَحْمَـتِكَ )
أي وغير إدخالِكَ ، معطوف علیٰ ( قَبولِكَ ).
المراد بالرحمة هنا : الرحمة الرحيمية ؛ إذ هو ثابت في سعة من رحمته الرحمانية. ويحتمل أن يكون المراد مطلق الرحمة.
( اللّهُمَّ فَاقْبَلْ عُذْرِي ، وَارْحَمْ شِدَّةَ ضُرّي ، وَفُكَّنِي مِنْ شَدِّ وَثاقِي )
الفكاك والتفكيك : التخليص ، كقوله تعالىٰ : ( فَكُّ رَقَبَةٍ ) (١).
الوَثاق ـ بالفتح ، وقد جاء كسر الواو فيه في لغة في الأصل ـ : حبل أو قيد يُشدّ به الأسير والدابة ، ثم استعمل في كلّ ما يقيّد به الشخص من الحبال والقيود والسلاسل والأغلال ، والذنوب والآثام التي تقيّد الإنسان ، ويصير كالأغلال في الأعناق.
فالتمس السائل من الله تعالىٰ إعتاق رقبته من قيود الخطيئات ، واستخلاص نفسه عن تحمّلها ، والترحّم علىٰ مسكنته وضرّه.
( يا رَبِّ ارْحَمْ ضَعْفَ بَدَني )
لأنّك وصفت خلقة الإنسان بالضعف في كتابك ، وقلت : ( وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا ) (٢) ؛ إذ بدن الإنسان مركّب من لطائف العناصر وصفوتها ، لا يطيق الشدائد
_____________________________
(١) « البلد » الآية : ١٣. |
(٢) « النساء » الآية : ٢٨. |
والمشقّات.
( وَرِقَّةَ جِلْدِي )
الذي هو أرقّ وألطف من الحرير.
الرقيق : خلاف الثخين والغليظ ، ومنه الثياب الرقاق.
جلد الإنسان قشرة ، كما أنَّ لحمه وعظمه لبة في بدنه.
( وَدِقَّة عَظمِي )
الدقيق : خلاف الجليل والعظيم ، كما في الحديث : ( إنّ الله استولىٰ علىٰ ما دقّ وجلّ ) (١).
العَظْم ـ علىٰ وزن « سهم » ـ : قصب الحيوان الذي عليه اللحم ، وقد يطلق علىٰ العضو مطلقاً سواءً كان عظماً أو غيره ، كما في الحديث : ( سجد علىٰ سبعة أعظم ) (٢) أي سبعة أعضاء ، وهي المساجد السبعة من الجبهة والكفّين والركبتين والإبهامين.
ثمّ إنه خلقة العظام في بدن الحيوان والإنسان بمنزلة الجبال التي خلقها الله تعالىٰ في بدن الإنسان الكبير ، وعددها في الإنسان ـ كما قيل ـ ثمانية وأربعون ومائتان.
|
بعدد رحم |
عدد عظم. |
|
چو خواهي كه بدانى يقين |
|
مى برون آيد أز انجا كه برون مى آيى |
يعني : من الرحم.
( يا من بدأ خلقي وذكري وتربيتي وبرّي وتغذيتي )
_____________________________
(١) « بحار الأنوار » ج ٤ ، ص ١٨١.
(٢) « الاستبصار » ج ١ ، ص ٣٢٩ ، ح ١٢٣٢ ، وفيه : « السجود » ، بدل : « يسجد ».
أي الذي خلقني من العدم ، ومضت عليّ أزمنة طويلة ما كنت فيها شيئاً مذكوراً ، كما أخبر عنها القرآن الحكيم بقوله تعالىٰ : ( هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا ) (١).
ثم أحسن بي وأشار باسمي حين وقعت نطفتي في رحم اُميّ ، فحفظني فيها وما أضاعها ، ثم جعلني في أربعين يوماً علقة حمراء ، كما مرّ.
ثمّ جعلني مضغة ، ثمّ جنيناً ذا نفسين : نفس نباتية ، ونفس حيوانية.
ثمّ ألهمني جذب دم الطمث في رحم اُمي من السرّة إلىٰ معدتي ، وغذّاني به ما أبقاني فيه ، إلىٰ أن مضت عليّ الشهور ، وأثّرت فيّ الكواكب السبعة.
ثمّ أخرجني منها ملهماً بالتقام ثدي اُمي ، ومعلّماً بالبكاء ، ولولا إلهامه تعالىٰ وتعليمه لجعلتُ الئدي في فضاء فمي اُلجلجه وما مصصته.
ثمّ حفظني ورزقني في الدرجة الحيوانية إلىٰ أوان بلوغي الصوري ، ثمّ وفّقني لتحصيل كمالاتي النفسانية ، واكتساب معارفه ومعارف أوليائه وأنبيائه ، إلىٰ أن بلغت أشدّي.
فكنت مدّة في هاوية الهيولىٰ والظلمات ، وزماناً في فيفاء الجمادات ، ووقتاً في آجام القصبات ومنبت النباتات ، وبرهة كالديدان في الموحلات ، وكباقي الحيوانات والعجماوات.
وفي جميع هذه المواقف والمقامات ، غذّاني وربّاني وحفظني وكلأني ، وصيّرني إنساناً في أحسن تقويم ، ذا الأيدي والقوىٰ والقُدُر ، فبأيّ لسان أشكر نعماءه وأحمد آلاءه ؟ وفي أي بيان أدرج محامده وثناءه ؟
غير آنكه زبان بكام خموشى كشيم ودم نزنيم
_____________________________
(١) « الإنسان » الآية : ١.
( هَبْنِي لابْتِداءِ كَرَمِكَ وَسالِفِ بِرِّكَ بِي )
هب : أمرٌ من الهبة ، وهي العطاء.
الكرم : كالموهبة من الله تعالىٰ ، إفادة ما ينبغي لا لعوض ولا لغرض ، كما مرّ الكلام في جوده تعالىٰ.
سالف الزمان : ما مضىٰ منه.
البِرّ : الإحسان ، وبالفتح بمعنىٰ : البارّ المحسن.
يريد السائل : أنّه لأجل ألطافك القديمة ، ومواهبك العظيمة العميمة السالفة التي أعطيتها لي في ابتداء وجودي إلىٰ الآن ، اغفر لي ذنوبي واعطني سؤلي ، فإنّك عوّدتني بمواهبك السنية ، ومراحمك البهية العلية.
( يا إلٰهي وَسَيِّدِي وَرَبّي ، أتُراكُ مُعَذِّبي بِنارِكَ بَعْدَ تَوحِيدِكَ )
الهمزة : للاستفهام الإنكاري ، و « تُرىٰ » : مضارع « رأىٰ » ، وقياسه : « ترأىٰ » في مضارعه ، كـ « تخشىٰ » ، ولكن العرب أجمعت علىٰ حذف الهمزة من مضارعه ، فقالوا : يرىٰ ، يريان ، يرون ، من الرؤية.
والكاف مفعوله الأول ، وجملة : ( معذّبي بنارك ) مفعوله الثاني ، وكلمة ( بعد ) من ظروف الغايات.
وتوحيده تعالىٰ تمييزه عن خلقه ، وحكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة ، فهو تعالىٰ واحد ؛ إذ ليس له شريك واحد ؛ لأنّه بسيط وليس له جزء.
النسبة بين الأحدية والواحدية
وبين الأحدية
والواحدية ـ كما قرّر في محلّه ـ عموم من وجه ؛ لاجتماعهما في الحقّ البسيط الصرف المحض ، وفي العقول ، سيّما علىٰ مذهب الإشراقيين ؛
لأنّهم يقولون : إنّها وجودات وأنوار بحتة لا ماهية لها ، والتفاوت بينها وبين الوجود