آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: مؤسسة عاشوراء للتحقيقات والبحوث الإسلامية
المطبعة: مطبعة الكوثر
الطبعة: ١
ISBN: 964-7263-74-0
الصفحات: ٢٠٦
وبتعيّن كونه خيراً محضاً وعشقاً خالصاً اسم « المريد ».
وملحوظاً بتعيّن الظاهر بالذات والمظهرية للغير اسم « النور » ، وبتعيّن الفياضيّة الذاتية للنورية عن علم ومشيّئة اسم « القدير ».
وبتعيّن الدراكيّة الفعّالية اسم « الحي » ، وبتعيّن الإعراب عمّا في الضمير المكنون الغيبي اسم « المتكلّم » ، وهكذا.
وكذا مأخوذ بتجلّ خاصّ علىٰ ماهيّة خاصّة ، بحيث يكون كالحصّة التي هي الكلّي المضاف إلىٰ خصوصيّة ، بكون الإضافة بما هي إضافة ـ وعلىٰ سبيل التقييد لا علىٰ سبيل كونها قيداً ـ داخلة ، والمضاف إليه خارجاً ، لكن هذه بحسب المفهوم ، والتجلي بحسب الوجود اسم خاصّ.
نقل كلام المحقّق السبزواري
وعند هذا قال صدر المتألّهين السبزواري قدسسره : « فنفس الوجود الذي لم يلحظ معه تعيّنٌ ما ، بل نحو اللا تعيّن هو المسمّىٰ ، والوجود بشرط التعيّن هو الاسم ، ونفس التعيّن هو الصفة ، والمأخوذ بجميع التعيّنات الكمالية اللائقة به المستتبعة للوازمها من الأعيان الثابتة الموجودة بوجود الأسماء ـ كالأسماء بوجود المسمّىٰ ـ هو مقام الأسماء والصفات ، الذي يقال له في عرف العرفاء : المرتبة الواحدية ، كما يقال للموجود الذي هو اللا تعيّن البحت : المرتبة الأحديّة.
والمراد من اللا تعيّن : عدم ملاحظة التعيّن الوصفي ، وأمّا بحسب الهويّة والوجود فهو عين التشخّص والتعيّن والمتشخص بذاته والمتعيّن بنفسه ، وهذه الألفاظ ومفاهيمها ، مثل الحيّ العليم المريد القدير وغيرها ، أسماء الأسماء » (١) انتهىٰ كلامه ، رفع مقامه.
قوله تعالىٰ : ( وَلِلَّـهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ) (٢) قيل : هي : « الله ، الرحمن ،
_____________________________
(١) « شرح الأسماء » ص ٥٧٤ ـ ٧٥٧. |
(٢) « الأعراف » الآية : ١٨٠. |
الرحيم ، الملك ، القدّوس ، الخالق ، البارئ ، المصوّر ... » إلىٰ تمام ثلاثمائة وستّين اسماً ، كما في المجمع (١).
وفيه أيضاً قال الشيخ أبو علي قدسسره : « ( وَلِلَّـهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ) التي هي أحسن الأسماء ؛ لأنّها تتضمن معاني حسنة ، بعضها يرجع إلىٰ صفات ذاته ، كالعالم والقادر والحيّ والإله ، وبعضها يرجع إلىٰ صفات فعله ، كالخالق والرازق والبارئ والمصوّر ، وبعضها يفيد التمجيد والتقديس ، كالقدّوس والغنيّ والواحد » (٢) انتهىٰ.
وعن الصادق عليهالسلام : ( إنّ الله تعالىٰ خلق اسماً بالحروف غير متصوّت ، وباللفظ غير مُنَطق ، وبالشخص غير مجسّد ، وبالتشبيه غير موصوف ، وباللون غير مصبوغ ، منفيّ عنه الأقطار ، مبعّد عنه الحدود ، محجوب عنه حسّ كلّ متوهّم ، مستتر غير مستور ، فجعله كلمة تامّة علىٰ أربعة أجزاء معاً ، ليس شيء منها قبل الآخر ، فأظهر منها ثلاثة أسماء لفاقة الخلق إليها ، وحجب منها واحداً ، وهو الاسم المكنون المخزون ، فهذه الأسماء التي ظهرت ، فالظاهر هو الله تبارك وتعالىٰ ، وسخّر لكلّ اسم من هذه الأسماء أربعة أركان ، فذلك اثنا عشر ركناً ، ثم خلق لكلّ ركن منها ثلاثين اسماً فعلاً منسوباً إليها ، فهو الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدّوس ، الخالق ، البارئ ، المصوّر ، الحيّ القيّوم لا تأخذه سنة ولا نومٌ ، العليم ، الخبير ، السميع ، البصير ، الحكيم ، العزيز ، الجبّار ، المتكبّر ، العلي ، العظيم ، المقتدر ، القادر ، السّلام ، المؤمن ، المهيمن ، البارئ ، المنشئ ، البديع ، الرفيع ، الجليل ، الكريم ، الرّزاق (٣) ، المُحيي ، المميت ، الباعثُ ، الوارث.
فهذه الأسماء وما كان من الأسماء الحسنىٰ ، حتّىٰ تتم ثلاثمائة وستّون اسماً ، فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة ، وهذه الأسماء الثلاثة أركان ، وحجب الاسم الواحد المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة ، وذلك قول الله تعالىٰ : ( قُلِ ادْعُوا اللَّـهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَـٰنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ) (٤) ) (٥).
_____________________________
(١) « مجمع البيان » ج ٤ ، ص ٦٢٢. |
(٢) انظر « مجمع البيان » ج ٤ ، ص ٦٢٢ ، باختلاف. |
(٣) في المصدر : الرازق. |
(٤) « الإسراء » الآية : ١١٠. |
نقل كلام المحقّق السبزواري في شرح الحديث المذكور :
أقول : قد ذكر هذا الحديث الشريف صدر المتألّهين قدسسره ، مشروحاً في « شرح الأسماء » ، عند شرح الاسم الشريف : ( يا مَن جعل في السماء بروجاً ) (٦) ، ونقل كلام الفاضل المازندراني الشارح لاُصول الكافي ـ عليه الرحمة ـ وزيّف بعض ما قال في شرح هذا الحديث. فالأولىٰ والأنسب أن ننقل كلامه الشريف ، وما حقّقه وما زيّف من كلام الشارح ، توشيحاً لهذا الشرح ، ولا بأس بالإطالة والإطناب ، إذ المقام مقام التفصيل والفحص في تحقيق أسمائه تعالىٰ جليل جميل.
فقال قدسسره : « قوله عليهالسلام : ( إنّ الله تبارك وتعالىٰ خلق اسماً ... ) ، قال الفاضل المازندراني (٧) الشارح لاُصول الكافي ـ عليه الرحمة ـ : قيل : هو ( الله ) ، وقيل : ـ هو اسم دالّ علىٰ صفات ذاته جميعاً. وكأن هذا القائل وافق الأوّل ؛ لأنّ الاسم الدال علىٰ صفاته جميعاً هو « الله » عند المحقّقين ، ويرد عليهما أنّ « الله » من توابع هذا الاسم المخلوق أولاً ، كما يدلّ عليه هذا الحديث.
ويحتمل أن يراد بهذا الاسم اسم دالّ علىٰ مجرّد ذاته تعالىٰ ، من غير ملاحظة صفة من الصفات معه ، وكأنّه « هو ». ويؤيده ما ذكره بعض المحقّقين من الصوفيّة من أنّ « هو » أشرف أسمائه تعالىٰ ، وأنّ ( يا هو ) أشرف الأذكار ، لأنّ « هو » إشارة إلىٰ ذاته من حيث هو هو ، وغيره من الأسماء يعتبر معه صفات ومفهومات قد تكون حجباً بينه وبين العبد.
وأيضاً إذا قلت : ( هو الله الرحمن الرحيم الغفور الحليم ) ، كان « هو » بمنزلة الذات ، وغيره من الأسماء بمنزلة الصفات ، والذات أشرف من الصفات ، فهو أشرف الأسماء.
ويحتمل أن يراد به : ( العليّ العظيم ) ، لدلالة الحديث الآتي عليه ، حيث قال عليهالسلام : ( فأوّل ما اختار لنفسه : العليّ العظيم ). إلّا إنّ ذكره في أسماء الأركان ينافي هذا
_____________________________
(٥) « الكافي » ج ١ ، ص ١١٢ ، ح ١. |
(٦) « المصباح » للكفعمي ، ص ٣٤٦. |
(٧) « شرح الكافي » للمازندراني ، ج ٣ ، ص ٣٦٩ ـ ٣٧٠.
الاحتمال ، ولا يستقيم إلّا بتكلّف ، وهو أنّ مزج الأصل بالفرع للإشعار بالارتباط وبكمال الملائمة بينهما » (١) انتهىٰ.
قال قدسسره : « وفيه مؤاخذة ؛ لأنّه ينبغي أن يقال : ذلك الاسم مجموع : ( هو الله الرحمن الرحيم ) ، أو مجموع : ( هو الله العليّ العظيم ) ، لا أنّه « هو » وحده مثلاً ، لقوله عليهالسلام ( فجعله ... ) إلىٰ آخره.
قوله عليهالسلام : ( بالحروف غير متصوّت ) ، جعله هذا الشّارح (٢) حالاً من فاعل ( خلق ) ، أي خلقه والحال أنّه تعالىٰ لم يتصوّت بالحروف ، ولم يخرج منه حرف وصوت ، ولم ينطق بلفظ ؛ لتنزّه قدسه عن ذلك ، ولا يخفىٰ أنَّ جعل هذا وما بعده ـ إلىٰ قوله عليهالسلام : ( فجعله كلمة تامّة ) ـ صفة له تعالىٰ ، فيه بعدٌ غاية البُعد ، ولا سيّما التنزيه عن الجسمية والكيفية والكميّة وغيرها ليس فيه كثير مناسبة لخلق ذلك الاسم ، ولا خصوصية له به ، بل الـ ( متصوّت ) والـ ( منطق ) بصيغة المفعول ، والكلّ صفة الاسم ، علىٰ ما سنذكره.
وقوله عليهالسلام : ( مستتر غير مستور ) أي مُستتر عن الحواس ، غير مستور عن القلوب ، أو معناه مستتر عن فرط الظهور.
قوله عليهالسلام : ( علىٰ أربعة أجزاء معاً ) قال الشارح (٣) : أي علىٰ أربعة أسماء باشتقاقها وانتزاعها منه ، وهي غير مرتبة بعضها علىٰ بعض ، كترتّب ( الخالق ) و ( الرازق ) علىٰ ( العالم ) و ( القادر ) ، وعلىٰ ما نذكر فالمقصود نفي الترتّب المكاني.
وقوله عليهالسلام : ( وحجب واحداً منها ) ، أي لا يعلمه إلّا هو ، حتّىٰ الأنبياء عليهمالسلام ، فإنّه قد استأثر علمه لنفسه.
قوله عليهالسلام : ( فهذه الأسماء التي ظهرت ، فالظاهر هو الله تبارك وتعالىٰ ).
قال الشارح (٤) : ( أي الظّاهر البالغ إلىٰ غاية الظهور ، وكماله من بينها هو الله تعالىٰ ، ويؤيّده أنّه يضاف غيره إليه فيعرف به ، فيقال : ( الرحمن ) ، اسم ( الله ) ، ولا يقال : ( الله )
_____________________________
(١) « شرح الأسماء » ص ٧١٢ ـ ٧١٣. |
(٢) « شرح الكافي » للمازندراني ، ج ٣ ، ص ٣٧٠ ـ ٣٧١. |
(٣) « شرح المازندراني » ج ٣ ، ص ٣٧٤. |
(٤) « شرح الكافي » للمازندراني ، ج ٣ ، ص ٣٧٦ ـ ٣٧٧. |
اسم ( الرحمن ) ، وليس المراد أن المتّصف بأصل الظّهور هو ( الله ) ؛ لأنَّ غيره أيضاً متّصف بالظهور ، كما قال عليهالسلام : ( وأظهر منها ثلاثة ). وهذا صريح بأنَّ أحد هذه الثلاثة الظاهرة هو ( الله ). وأمّا الآخران فلم ينقلهما علىٰ الخصوص.
ويحتمل أن يراد بهما ( الرحمن الرحيم ) ، ويؤيده آخر الحديث ، واقترانهما مع ( الله ) في التسمية ، ورجوع سائر الأسماء الحسنىٰ إلىٰ هذه الثلاثة ، عند التأمّل.
ثمّ قال : إلّا إنّ عدّ ( الرحمن الرحيم ) في جملة ما يتفرّع علىٰ الأركان ينافي هذا الاحتمال ، ولا يستقيم إلّا بتكلّف مذكور.
ونسب إلىٰ بعض الأفاضل : أنّه يفهم من لفظ ( تبارك ) : جواد ، ومن لفظ : ( تعالىٰ ) أحد.
قوله عليهالسلام : ( أربعة أركان ) ، قال الشارح (١) : اعتبار الأركان إما علىٰ سبيل التخييل والتمثيل ، أو علىٰ سبيل التحقيق باعتبار حروف هذه الأسماء ، فإنّ الحروف المكتوبة في كلّ واحد من الأسماء المذكورة أربعة.
ويحتمل أن يراد بالأركان كلمات تامّة مشتقّة من تلك الكلمات الثّلاث ومن حروفها ، وإن لم نعلمها بعينها.
قوله عليهالسلام : ( وذلك قول الله تعالىٰ : ( قُلِ ادْعُوا اللَّـهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَـٰنَ ) (٢) ).
قال الشارح (٣) : إنّما لم يذكر الثالث لقصد الاختصار ، أو لأنّه أراد بالرحمن : المتّصف بالرحمة المطلقة الشاملة للرحمة الدنيوية والاُخروية » (٤).
قال قدسسره : « أقول : قد علمت حقيقة الاسم ، وأنّ هذه الألفاظ أسماء الأسماء ، فالمراد ـ وهم عليهمالسلام أعلم بمرادهم بذلك الاسم ـ : الوجود المطلق المنبسط ، الذي هو تجلّيه وصنعه ورحمته الواسعة الفعلية ، وجمله أربعة عبارة عن تجلّيه في الجبروت والملكوت والناسوت ، ونفس ذلك التّجلي ساقط الإضافة عنها.
_____________________________
(١) « شرح الكافي » للمازندراني ، ج ٣ ، ص ٣٧٨. |
(٢) « الإسراء » الآية : ١١٠. |
(٣) « شرح الكافي » للمازندراني ، ج ٣ ، ص ٣٨٣. |
(٤) « شرح الأسماء » ص ٧١٣ ـ ٧١٥. |
وبعبارة اُخرىٰ : أصلها المحفوظ ، وسنخها الباقي ، وروحها الكامن. ومعلوم أنّه بهذا الوجه مكنون عنده ، فالخلق المفتاق إليها شيئيات ماهياتها ، والأسماء الثلاثة هي التجلّيات عليها ؛ إذ قد مرّ أنّه كما أنّ الوجود باعتبار تعيّن كمالي اسم من الأسماء ، كذلك باعتبار تجلّ فعلي اسم أيضاً.
وإن كنت من المتفطنين لحقيقة الخلق والإيجاد ، وأنّه اختفاء نور الحق تعالىٰ في حجب أسمائه ، وفي حجب صور أسمائه ، وأنَّ مدّة اختفاء النور دورة الخلق ، كما أنّ مدّة ظهور نوره واستتار حجبه دورة الحق وإفنائهم ( تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) (١) ، لوسع لك تجويز أن يكون ذلك الاسم أعمّ من الرحمة الصفتية والرحمة الفعلية.
والمكنون منه هو التجلّي اللاهوتي ، أعني : التجلّي في أسمائه وصفاته في المرتبة الواحدية ، والثلاثة الظاهرة ـ التجلّيات الثلاثة المذكورة ـ والاكتنان هنا أشدّ ؛ لأنّه إذا كان الرحمة الفعلية ساقطة الإضافة من صقع الذات ، كان الرحمة الصفتية أوغل في ذلك ؛ لأنّ الصفة أقرب من الفعل.
وقوله عليهالسلام : ( فالظاهر هو الله تبارك وتعالىٰ ) معناه : أنّه لمّا كان الاسم عنواناً للمسمّىٰ وآلة للحاظه ، فالأسماء الثلاثة ظهورات المسمّىٰ ، فهو الظاهر ؛ لأنَّ معنىٰ ( الظّاهر ) ذات له الظهور ، فالذات التي هو ( الله ) ، له الظهورات ، فهو الظاهر بالأسماء.
أو المراد : أن الأسماء الثلاثة ظهورات الاسم المكنون المستأثر لنفسه ، الذي هو عنوان لذاته تعالىٰ عند ذاته ، لكنّه معنون بالنسبة إلىٰ الثلاثة. والدليل علىٰ هذا المراد أنَّ ( الله ) اسم واقع علىٰ الحضرة الواحدية كاللاهوت ، فإنّ معناه : الذات المستجمعة لجميع الصفات والكمالات ، وتلك الحضرة أيضاً مجمع الأسماء والصفات ، ولذا عبّر في حديث الأعرابي (٢) عن النفس اللاهوتية بذات الله العليا.
_____________________________
(١) « المعارج » الآية : ٤. |
(٢) « قرة العيون » للكاشاني ، ص ٣٦٣. |
والأركان الأربعة لكلّ واحد من هذه الأسماء عبارة عن الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة المعنويات ، أعني : حرارة العشق والابتهاج ، وبرودة الطمأنينة والإيقان ، ورطوبة القبول والإذعان ، أو الإحاطة والسريان ، ويبوسة التثبّت والاستقامة عند الملك المنّان ، نظير ما قال بعض أهل الذوق كجابر بن حيّان : إن السماوات وما فيها من العناصر الأربعة ، وحمل عليه قول أمير المؤمنين عليهالسلام في خطبة المشيئة ، المذكورة في نهج البلاغة. والصواب : الحمل علىٰ ما ذكرنا.
والغرض كلّ الغرض منه : تطبيق العالمين الظّاهر والباطن ، بجعل ذلك الاسم كالنّير ، والاثني عشر ركناً بروجه ، والثلاثين اسماً درجات كلّ برج ، حتّىٰ تتم ثلاثمائة وستون درجة ، وهي تعيّنات الأسماء التي انطوت فيها ، وهي مظهرها ، فيكون بعدد درجات دورة الفلك الظاهر » (١).
ثمّ قال قدسسره : « أو نقول : المراد بذلك الاسم : الغوث الأعظم الذي هو خاتمة كتاب الوجود ، كما أنّ المعنىٰ الأول الذي هو فاتحته وروحانيته ، وهو ختم الكلّ والاسم الأعظم ، وقال خلفاؤه : ( نحن الأسماء الحسنىٰ ) (٢) فجعله أربعة أجزاء ثلاثة منها ظاهرة ، هي : العقل والقلب والنفس ، وواحد مستور ، هو أصلها المحفوظ الذي لا يعلمها إلّا الله.
وهذه الثلاثة هي المشار إليها بقوله تعالىٰ : ( حم * عسق ) (٣) أي حقّ لا باطل ، « محمد » الذي هو العقل والنفس والقلب ، أو ( حم ) أي التسعة والتسعون من الأسماء ، هو : العقل والنفس والقلب من الإنسان الكامل ، أو الثّمانية والأربعون من الصور التي هي مجالي شمس الحقيقة ، هي : العقل والنفس والقلب ، ثم الأركان الاثنا عشر والدرجات الثلاثمائة والستون كما سبق.
وكان بروج نوره الواحد التي هي خلفاؤه في هذا العالم أيضاً اثني عشر ، كلّ
_____________________________
(١) « شرح الأسماء » ص ٧١٥ ـ ٧١٦. |
(٢) « بحار الأنوار » ج ٢٥ ، ص ٥. |
(٣) « الشورىٰ » الآية : ١ ـ ٢.
واحد منها مظهر ثلاثين اسماً باعتبار من الأسماء المحيطة.
ثمّ المقصود من ذكر الأسماء : إمّا تعداد علىٰ سبيل التمثيل فلا كلام ، وإمّا تعيين ثلاثين ، فيكون بعضها من الأسماء المركّبة ، كـ ( الرحمن الرحيم ) و ( العليّ العظيم ) مثلاً ، فإنَّ ( العلي ) ـ مثلاً ـ مفرداً اسم من أسمائه وله خاصيّة علیٰ حدة ، وكذا لـ ( العظيم ) ، ومركّباً اسم وله خاصّية اُخرىٰ ، ومن المركّبة : ( البارئ المنشئ ). فلا تكرار من الناسخ ، كما زعمه الشارح المذكور » (١) انتهىٰ كلامه الشريف.
الأركان : جمع « ركن » ، وهو جانب الشيء.
قول السائل : ( ملأت أركانَ كلِّ شيء ) أي أطرافه وجوانبه.
ثم اعلم أنّه كما قال العرفاء الشامخون : إنَّ كل نوع من الأنواع تحت اسم من أسماء الله تعالىٰ ، وذلك النوع مظهر ذلك الاسم ، كما أن الإنسان مظهر اسم ( الله ) ، والملك مظهر ( السبوح ) و ( القدّوس ) ، والفلك مظهر اسم ( الرفيع الدائم ) ، والحيوان مظهر ( السميع والبصير ) ، والأرض مظهر ( الخافض ) ، والهواء مظهر ( المروّح ) ، والماء مظهر ( المحيي ) ، والنار مظهر ( القهّار ) وهكذا.
وعلمت ممّا سبق أنّ الاسم عبارة عن المسمّىٰ مأخوذاً بتعيّن من التعيّنات الكماليّة ، فكما أنّ ماء الحياة الذي هو الوجود المطلق سارية في جميع الأودية ، ونفذت في أعماق الأشياء ، كذلك توابع الوجود التي تدور رحاها علىٰ قطب الوجود سارية في جميع الموجودات ، ولكن في كلٍّ بحسبه وقدره ، علىٰ ما اقتضته الحكمة الإلهية.
ثمّ إنَّ من الموجودات ما له أربعة أركان :
منها : أركان عرش علم الله تعالىٰ من العناية ، والقلم ، والقضاء ، والقدر. وأركان عرشه العيني من الركن الأبيض ، والركن الأصفر ، والأخضر ، والأحمر.
_____________________________
(١) « شرح الأسماء » ص ٧١٦.
ومنها : أركان عرش قلوب المؤمنين من العقل بالقوّة ، والعقل بالملكة ، والعقل بالفعل ، والعقل المستفاد.
ومنها : أركان علم الإنسان من التعقّل والتوهّم والتخيّل والتحسّس ، وأركان بدنه من الماء والتراب والهواء والنار ، هذه وسائطه ، أو مركباته من الدم والبلغم والصفراء والسوداء.
وأركان بيت الله المعنوي أيضاً ، التي هي : جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ، ويقال لها : حملة العرش.
وأركان بيته الظاهري من الركن اليماني ، والحجازي ، والشامي ، والعراقي ، وغيرها ممّا لا نطيل الكلام بذكرها ، فجميعها مالية (١) من صفاته وأسمائه تعالىٰ ، كما قيل :
اجزاى من وجود من همه اوست گرفت |
|
نامی است ز من بر من وباقی همه او است |
( وَبِعلْمِكَ الَّذي أحاطَ بِكُلِّ شَيءٍ )
المراد : علمه الذاتي الذي أحاط بعلمه الفعلي ، وهو أحاط بجميع الأشياء ( أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ) (٢) وقدرة ( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ ) (٣) ( وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ) (٤) ومن يشاء من عباده.
تحقيق معنىٰ العلم ، وأنَّ أي قسم منه لائق به تعالىٰ
العلم : ما به ينكشف الشيء لدىٰ العالم ، فهو إما بحصول صورة الشيء في الذهن ، أو بحضور ذلك الشيء لدىٰ المجرّد.
بتقسيم آخر : العلم فعليّ وانفعالي ، والعلم اللائق بجنابه تعالىٰ هو العلم الفعلي
_____________________________
(١) كذا في المخطوط. |
(٢) « الطلاق » الآية : ١٢. |
(٣) « يونس » الآية : ٦١. |
(٤) « البقرة » الآية : ٢٥٥. |
الحضوري الذي هو نحو وجود كلّ شيء ، وإحاطته محاطية وجودات الأشياء وحضورها لديه تعالىٰ ؛ لأنّه لمّا كان تعالىٰ بسيط الحقيقة ، محض الوجود وصرفه ـ وصرف الشيء واجد لما هو من سنخ ذلك الشيء ، ومجرّد عمّا هو من أجانبه وأباعده ، وبعيد الوجود لا يكون إلّا ما هو من سنخ العدم ـ كان كلّ وجود حاضراً له أشدّ من حضوره لنفسه ، إذ كما قلنا : نسبة الشيء إلىٰ فاعله بالوجوب ، وإلىٰ قابله بالإمكان.
ولا نعني بنفس الأشياء وقابلها إلّا الماهيات التي هي قابلة للوجودات الخاصة ، فكما لا يشذّ عن حيطة وجوده تعالىٰ وجود ، كذلك لا يعزب عن حيطة علمه مثقال ذرّة.
قال الحكماء : إنَّ الله تعالىٰ ظاهر بذاته لذاته ، لكون ذاته بريئاً من جميع الحيثيّات ، ومجرّداً عن كلّ الأحياز والجهات والأوقات ، وكلّ مجرّد عالم بذاته ، وذاته علّة لجميع ما سواه ، والعلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول.
قال المعلم الثاني : الأوّل تعالىٰ هو الغني المغني الذي ينال الكلّ من ذاته (١).
فكما أنّ بوجود واحد مُظهر لجميع الموجودات بنحو البساطة ، كذلك بعلم واحد يعلم جميع المعلومات ، فكأن ذاته تعالىٰ كالصورة العلمية التي بها ينكشف ذو الصورة الخاصة ، إلّا إنّ ذاته تعالىٰ بذاته ما به ينكشف جميع الأشياء ، لا بصورة حاصلة زائدة.
وها هنا كلام ينبغي أن يذكر ، وهو قول المتكلّمين : إنَّ العلم أعمّ من القدرة ؛ لتعلّقه بالممتنعات دون القدرة ؛ لأن المقدور لابدّ أن يكون ممكناً. ومعنىٰ قوله تعالىٰ : ( إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٢) أي كلّ شيء ممكن مستقيم قدير.
أقول : قال الحكماء : لا وجه لقولهم هذا ؛ إذ الممتنع من حيث حقيقته التي هي
_____________________________
(١) « فصوص الحكم » للفارابي ، ص ٥٩ ، فص ١١. |
(٢) « البقرة » الآية : ٢٠. |
عين اللاشيئية كما أنّه ليس مقدوراً كذلك ليس معلوماً ، كيف والمعدوم المطلق لا [ يخبر ] (١) عنه ، ومن حيث وجوده في نشأة الأذهان عالية كانت أو سافلة كما هو معلوم كذلك هو مقدور.
فإن قيل : علمه تعالىٰ يتعلّق بذاته ، وذاته معلومة له تعالىٰ بخلاف قدرته ، فكيف الاتحاد للعلم والقدرة ؟
قلنا : تعلّق العلم والعالِمية بذاته تعالىٰ ـ كما قالوا ـ معناه : أنّ ذاته عين العلم ، لا أنّ ذاته شيء وعلمه بذاته شيء آخر ، فكذلك تعلّق القدرة والقادرية معناه أنّه عين القدرة ، فالمساواة والاتحاد محقّقة بين مفهومي العلم والقدرة من حيث المصداق والوجود ، وكلامنا ليس في اتحاد مفهومي المعلوم والمقدور. فثبت أنّ كلّ ما هو معلوم لله تعالىٰ بلغت إليه قدرته.
ثمّ إنّه ليت شعري بأيّ لسان أصف محاسن العلم ومحامده ، وفي أي بيان أذكر شرافته وإنافته : العلم نعم القائد في طريق المشاهدة ، ونعم الدليل في سبيل العيان ، ولذا قال صلىاللهعليهوآله : ( اطلبوا العلم من المهد إلىٰ اللّحد ) (٢) ، وقال : ( اطلبوا العلم ولو بالصّين ) (٣) ، وقال : ( طلب العلم فريضة علىٰ كل مسلم ومسلمة ).
العلم ثم العلم حبّذا رصد |
|
فلتطلبوا من مهدكم إلىٰ اللحد |
ولتبتغوا ولو بسفك المهج |
|
ولتفحصوا ولو بخوض اللجج |
وحق علم لهو التوحيد |
|
وحقّ قبلة هو المجيد |
قال المولوي :
خاتم ملك سليمان است علم |
|
جمله عالم صورت جان است علم |
_____________________________
(١) في المخطوط « خبر ».
(٢) « عوالي اللآلي » ج ٤ ، ص ٧٠ ، ح ٣٧ ؛ « بحار الأنوار » ج ١ ، ص ١٧٧.
(٣) « عوالي اللآلي » ج ٤ ، ص ٧٠ ، ح ٣٦ ؛ « بحار الأنوار » ج ١ ، ص ١٧٧.
آدمى ازين هنر بيچاره گشت |
|
خلق درياها وخلق کوه ودشت |
( وَبِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِيْ أَضاءَ لَهُ كُلَّ شَيءٍ )
أي بضياء فيضك المقدّس الذي استضاء به جميع الأشياء ، واستنار به كلّ الموجودات.
الفرق بين النور والضياء
قد فرّق بين النور والضياء بأنَّ الضياء : ما كان من ذات الشيء كالشمس ، والنور : ما كان مكتسباً من غيره كما في القمر ؛ ولذا قال تعالىٰ : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ) (١).
وفيما نحن فيه قد علمت مراراً أنَّ وجهه تعالىٰ كالمعنىٰ الحرفي ، داخل في صقع الذات ، ليس له استقلال في نفسه ، بل إضافة وإن كان بذاته ، ولكن لا يكون لذاته ، بل لعلّته التي هي ذات الله تعالىٰ ، ولهذا قال السائل : ( بنور وجهك ) ولم يقل : بضياء وجهك ، وإن أطلق عليه لفظ ( الضياء ) و ( الإضاءة ) ـ كما قلنا في شرحه ـ فباعتبار أنّه عين الوجود كسائر الصفات ، لا مكتسبة.
ولكن قوام الضياء والنور في الوجه لمّا كان بذاته الله العليا ؛ لأنّه مقوّم الوجود وقيّومه ، فكأنّه مكتسب ضوؤه من ذاته تعالىٰ ، والتفاوت بين نوري الوجه والذات بالشدّة والضعف ، كما قال عليهالسلام ( توحيده تعالىٰ تمييزه عن خلقه ، وحكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة ) (٢) ، أي بينونة في صفة الشدّة والضعف.
وفي الحديث : ( إنّ لله تعالىٰ سبعين ألف حجاب من نور وسبعين ألف حجاب من ظلمة ، لو كشفها لأحرقت سبحاتُ وجهه كلّ ما انتهىٰ إليه بصره ) (٣).
_____________________________
(١) « يونس » الآية : ٥. |
(٢) « بحار الأنوار » ج ٤ ، ص ٢٥٣ ، ح ٧. |
(٣) « بحار الأنوار » ج ٥٥ ، ص ٤٥ ؛ ج ٧٣ ، ص ٣١.
والمراد بـ ( سبحات وجهه ) تعالىٰ : إشراقاته وأنواره ، كما في القاموس ، قال : « سُبحات وجه الله : إشراقاته » (١). وهي الأنوار القاهرة التي إنّا متكافئة من الطبقة العرضية ، وإما مترتّبة من الطبقة الطولية.
والحجب التي بينها وبين عباده : المنشآت والمخترعات والمكوّنات ، ونوريّتها بالنسبة إلیٰ جهاتها الربانية ، وظلمتها بالنسبة إلیٰ جهاتها النفسية.
وإطلاق عدد السبعين عليها إشارة إلىٰ كثرتها ، كما أطلق علىٰ الأيام الربوبية تارةً ( أَلْفَ سَنَةٍ ) (٢) وتارةً ( خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) (٣) إشارةً إلىٰ سعة تلك الأيام وطولها.
ويمكن أن يراد بالسُبحات الأنوار الذاتيّة ، فحينئذٍ الحجب تكون أنواره الفعلية بجملتها ونوريتها وظلمتها ، علىٰ قياس ما مرّ.
وقوله : ( أضاء ) من الإضاءة ، وهو هنا لازم ، وفاعله قوله : ( كلّ شيء ) إذ باب الأفعال قد يجيء لازماً. واللام في قوله : ( له ) للتعليل ، والضمير راجع إلىٰ النور المضاف إلىٰ الوجه.
ويحتمل أن يكون متعدّياً ، وفاعله ضمير مستتر راجع إلىٰ مرجع ضمير الخطاب ، وهو الله تعالىٰ ، من باب الانصراف من الخطاب إلىٰ الغيبة ، والجملة الصلة مشتملة علىٰ ضمير عائد إلىٰ الموصول ، وهو الهاء في ( له ) ، وحينئذٍ قوله : ( كلّ شيء ) كان مفعولاً به ، ولكن الأوّل أقوام.
و ( أضاء ) بمعنىٰ : استضاء.
_____________________________
(١) « القاموس المحيط » ج ١ ، ص ٤٦٠ ، مادة « سبح » ، وفيه : « أنواره » ، بدل : « إشراقاته ».
(٢) « البقرة » الآية : ٩٦. |
(٣) « المعارج » الآية : ٤. |
( يا نُور )
بيان قسمي النور الحسّي والمعنوي
النور قسمان :
حسّي : وهو الذي يجري علىٰ ظواهر السطوح ، وعُرّف بأنّه كيفيّة ظاهرة بذاتها مُظهرة لغيرها ، كالأنوار السراجية والكوكبية ، حتّىٰ أظلالها وأظلال أظلالها ، إلىٰ أن ينتهي إلىٰ الظلمة ، وهي عدم قاطبة النور.
ومعنوي : وهذا حقّ حقيقة الوجود ؛ لأنّها ظاهرة بذاتها ومظهرة لغيرها ، وهذا هو القدر المشترك بين جميع مراتب النور المعنوي أيضاً ، من الظل وظل الظل ، والضوء وضوء الضوء إلىٰ نور الأنوار ، والنيّر الحقيقي : ( اللَّـهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (١).
فمراتب الوجود ، من الحقائق والرقائق والأمثلة والأرواح والأشباح والأشعة والأظلّة ، كلّها أنوار بحقيقته النورية لتحقّق هذا المعنىٰ فيها ؛ لأنَّ حقيقة الوجود ظاهرة بذاتها ، ومظهرة بها جميع الماهيات والأعيان الثابتات التي بذاتها لا موجودة ولا معدومة ، ولا نورانية ولا ظلمانية ، بل الماهية من حيث هي.
قال الحكماء : إذا سُئل بطرفي النّقيض فالجواب السلب لجميع الأطراف.
بيان فروق كثيرة بين النورين الحسّي والمعنويّ
ثمّ بين النورين الحسّي الظاهري العرضي والمعنوي الوجودي الحقيقي الذاتي فروق كثيرة ، كما قال صدر المتألّهين (٢) قدسسره وغيره من الحكماء.
منها : أنّ النور الحسّي العرضي ـ كنور الشمس مثلاً ـ قائم بغيره ، ونور الوجود قائم بذاته.
ومنها : أنّ النور الحسّي يجري علىٰ ظواهر السطوح والألوان المبصرة ، ونور
_____________________________
(١) « النور » الآية : ٣٥. |
(٢) « شرح الأسماء » ص ٢٦٩. |
الوجود وسع كلّ شيء من المعقولات والمحسوسات ، من المبصرات والمسموعات والمذوقات والمشمومات والملموسات والمتخيّلات والموهومات ، وما وراء الحسّ والعقل.
ومنها : أنّ النور الحسّي انبسط علىٰ ظاهر الألوان ، ونور الوجود نفذ في أعماق المستنيرات وبواطنها ، حتىٰ لم يبق من المستنير سوىٰ الاسم.
ومنها : أنّ النور الحسّي لا شعور له ، وأنوار الوجود كلّها أحياء ، بعضها بالحياة العامّ ، وبعضها بالحياة الخاصّ ، وبعضها بالحياة الأخصّ ؛ إذ الحياة ثلاثة أقسام :
بيان ثلاثة أقسام للحياة أولها : الحياة العامة
الأوّل : وهي الحياة العامة ، وهي التي في جميع الموجودات ، من الدرّة إلىٰ الذرّة ، هي نحو وجود الأشياء ، ولهذا قال تعالىٰ : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) (١) ؛ إذ التسبيح فرع الشعور والحياة ، ومن الأشياء : الجماد والنبات ، ولو لم تكن حية لما تسبح بحمده تعالىٰ ، ولكنها حية بالحياة العامة.
ثانيها الحياة الخاصّة
الثاني : وهي الحياة الخاصّة ، هي التي مبدأ الدرك والفعل ، أدناها حياة الخراطين ، وأعلاها هي الحياة الواجبة بذاتها.
ثالثها : الحياة الأخصّ
الثالث : وهي الحياة الأخصّ ، التي تختص بأهل العلم والعرفان والإيمان بالله ، وإلىٰ هذا أشار أمير المؤمنين عليهالسلام بقوله : ( الناس موتىٰ وأهل العلم أحياء ) (٢). وقال تعالىٰ : ( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (٣).
والمقتول هاهنا أعمّ من المقتول الاضطراريّ كما في الشهداء ، والمقتول
_____________________________
(١) « الإسراء » الآية : ٤٤. |
(٢) « ديوان الإمام علي » ص ٥. |
(٣) « آل عمران » الآية ١٦٩.
الاختياري كما في العلماء المجاهدين الذين قتلوا أنفسهم بالرياضات والمجاهدات ، وارتكاب الأعمال الشاقة والمخالفة مع نفوسهم ، كما قال الله تعالىٰ : ( اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ) (١) و ( تُوبُوا إِلَى اللَّـهِ ) (٢).
بيان أقسام الموت الاختياري :
فإذا بلغ الكلام إلىٰ هذا المقام فالأنسب أن نذكر الموتات الاختيارية الأربعة التي هي معتبرة عند أهل السلوك ، ومشار إليها في قوله صلىاللهعليهوآله : ( موتوا قبل أن تموتوا ) (٣).
فاعلم أنّ أقسام الموت الاختياري أربعة ، وقيل : ثلاثة ، بجعل أحد الأقسام ـ وهو الموت الأسود ـ في الموت الأحمر.
الأوّل : هو الموت الأبيض ، وهو عبارة عن الجوع الذي يصفو القلب به ، بل هو سحاب يمطر الحكمة ، كما قال صلىاللهعليهوآله : ( الجوع سحاب يمطر الحكمة ) (٤) وقال : ( الجوع طعام الله تعالىٰ ). فإذا اعتاد السالك نفسه بالتجوّع وقلّة الأكل والشرب ، ابيّض قلبه وسرىٰ الابيضاض في وجهه ، فحينئذٍ مات موتاً أبيض.
والثاني : الموت الأخضر ، وهو عبارة عن لبس المرقّع ، وهو الثوب الموصل من الخرق الملقاة في الطّرق ، التي لا قيمة لها ، كما قال أمير المؤمنين عليهالسلام : ( والله لقد رقَّعت مدرعتي هذه ، حتّىٰ استحييت من راقعها ، فقال لي قائل : ألا تنبذها عنك ؟ فقلت : اعزب عنّي ، فعند الصباح بحمد القوم السرى ) (٥).
فإذا قنع السالك من اللباس بالثوب المرقّع اخضرّ عيشه ، ووجدت نضارة في وجهه ، مات بالموت الأخضر.
والثالث : الموت الأحمر ، وهو عبارة عن المجاهدة مع النفس ، ويسمّىٰ بالجهاد
_____________________________
(١) « النساء » الآية : ٦٦. |
(٢) « النور » الآية : ٣١. |
(٣) « بحار الأنوار » ج ٦٦ ، ص ٣١٧ ، ج ٦٩ ، ص ٥٩.
(٤) انظر « الاُصول الأصيلة » ص ١٦٥. |
(٥) « نهج البلاغة » الخطبة : ١٦٠. |
الأكبر ، كما قال صلىاللهعليهوآله حين رجوعه من بعض غزواته : ( قد رجعنا من الجهاد الأصغر ، عليكم بالجهاد الأكبر ) قالوا : وما الجهاد الأكبر ؟ قال : ( مخالفة النفس ) (١).
فإذا خالف السالك أهوية نفسه ، وعَبدَ الله تعالىٰ ، وقوىٰ عقله في الطاعات وتحصيل المعارف ، فقد مات بالموت الأحمر ؛ لإهراق دم النفس.
والرابع : الموت الأسود ، وهو عبارة عن تحمل الملامة والأذىٰ من الشامتين اللائمين ، في حبّ الله تعالىٰ ، ومحبّة أوليائه من النبيين والشهداء والصدّيقين ، كما قال الله تعالىٰ : ( يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ) (٢). وقال الشاعر :
أجدُ المَلامَةَ في هَواكَ لَذيذَةً |
|
حُبّاً لِذِكرِكَ فَلْيَلُمني اللُّوَّمُ (٣) |
فإذا لم يكترث السالك بتشنيع الواشين ولوم اللائمين في الحبّ ، مات بالموت الأسود.
وسرّ التسمية والتوصيف بهذه الأوصاف واضحة.
أمّا في الأوّل ؛ لابيضاض وجه السالك بالجوع ، كما مرّ ، وفي الثاني لاخضرار عيشه بالقناعة ، وفي الثالث لإهراق دم النفس في الرياضة ، وفي الرابع لاسوداد وجه السالك بملامة الواشين.
ومنها : أنّ النور الحسّي له أوّل وله ثان ، وله مقابل ، ونور الوجود ليس له أوّل ولا ثانٍ ولا مقابل ؛ لأنّه واحد بالوحدة الحقّة الحقيقية ، ولا مضادّ له.
نقل كلام شيخ الاشراقيّين
قال الشيخ المقتول شهاب الدين السهروردي ، رئيس الحكماء الإشراقيّين قدسسره : « وإخوان التجريد يشرق عليهم أنوار ، ولها أصناف :
_____________________________
(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٢ ، ح ٣ ، « الحكمة البيضاء » ج ٥ ، ص ١٣ ، باختلاف.
(٢) « المائدة » الآية : ٥٤.
(٣) « مختصر المعاني » ص ٣٠٦ ، والقائل : هو أبو الشيص.
الأول : نور بارق يرد عليهم ، وينطوي كلمعة بارقة لذيذة.
والثاني : وهو بعد الأول ، نور بارق أعظم من النور الأوّل ، وأشبه منه بالبرق ، إلّا إنّه برق هائل ، وربما سمع معه كصوت رعد ، أو دوي في الدماغ.
والثالث : نور وارد لذيذ ، يشبه وروده ورود ماء حار علىٰ الرأس.
والرابع : نور ثابت زماناً طويلاً ، شديد القهر ، يصحبه خدر في الدماغ.
والخامس : نور برّاق لذيذ جدّاً ، لا يشبه البرق ، بل يصحبه بهجة لطيفة حلوة ، تتحرّك بقوّة المحبّة.
والسادس : نور محرق ، يتحرّك من تحريك القوّة العزّية ، وقد يحصل من سماع طبول وأبواق واُمور هائلة للمبتدئ.
والسابع : نور لامع في خطفة عظيمة ، يظهر مشاهدةً وإبصاراً ، أظهر من الشمس في لذة مغرقة.
والثامن : نور برّاق لذيذ جدّاً ، يتخيّل كأنّه متعلّق بشعر الرأس زماناً طويلاً.
والتاسع : نور سانح مع قبضة مثالية ، تتراءىٰ كأنّها قبضت شعر رأسه ، وتجرّه شديداً وتؤلمه ألماً لذيذاً.
العاشر : نور مع قبضة ، تتراءىٰ كأنّها متمكّنة في الدماغ.
الحادي عشر : نور يشرق من النفس علىٰ جميع الروح النفساني ، فيظهر كأنّه تدرّع بالبدن شيء ، ويكاد يقبل روح جميع البدن صورةً نوريةً ، وهو لذيذ جداً.
الثاني عشر : نور مبدؤه في صولة ، وعند مبدئه يتخيّل الإنسان كأنّ شيئاً ينهدم.
الثالث عشر : نور سانح ، يسلب النفس وتتبيّن معلّقة محضة ، منها تشاهد تجرّدها عن الجهات.
الرابع عشر : نور يتخيّل معه ثقل لا يكاد يطاق.
الخامس عشر : نور معه قوّة تحرّك البدن ، حتّىٰ يكاد يقطع مفاصله.
وهذه كلّها إشراقات
علىٰ النور المدبّر ، فتنعكس علىٰ الهياكل علىٰ الروح
النفساني ، وهذه غايات المتوسّطين.
وقد تحملهم هذه الأنوار فيمشون علىٰ الماء والهواء ، وقد يصعدون إلىٰ السماء مع أبدان ، فيلتصقون ببعض السيارة العلوية ، وهذه أحكام الإقليم الثامن ، الذي فيه جابلقا وجابرصا وهورقليا ذات العجائب.
وأعظم الملكات ملكة موت ، ينسلخ النور المدبّر من الظلمات البدنيّة وإن لم يخل عن بقية علاقة مع البدن ، إلّا أنّه يبرز إلىٰ عالم النور ويصير معلّقاً بالأنوار القاهرة ، ويصير كأنّه موضوع في النّور المحيط.
وهذا [ المقام ] (١) عزيز جدّاً ، حكاه أفلاطون عن نفسه وهرمس وكبار الحكماء ، وصاحب هذه الشريعة وجماعة من المُنسلخين عن النواسيت ، ولا يخلو الأدوار عن هذه الأمور ، وكلّ شيء عنده بمقدار.
ومن لم يشاهد في نفسه هذه المقامات فلا يعترض علىٰ أساطين الحكمة ، فإنّ ذلك نقص وجهل وقصور ، ومن عبد الله علىٰ الإخلاص ، وتاب (٢) عن الظلمات ، ورفض مشاعره ، يشاهد ما لا يشاهد غيره » (٣) انتهىٰ كلامه رفع مقامه.
ثم إنّ من المعلوم أنّ مراد السائل بالنور هاهنا هو حقيقة الوجود التي أنارت كلّ الظلمات الإمكانية ، من الدرّة البيضاء إلىٰ الذرّة الهباء ، واستشرقت بها جميع الماهيات ، من الجواهر والأعراض وما فوقها ، وهو نور الأنوار ، بهر برهانه وقهر سلطانه.
( يا قُدّوسُ )
( سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والرّوح )
( القُدُّوس ) ـ بضم القاف وتشديد الدال مع ضمّها ـ وكذا ( السُبُّوح ) ، بمعنى :
_____________________________
(١) من المصدر. |
(٢) في المصدر : ومات. |
(٣) « حكمة الإشراق » ضمن مجموعة مصنفات شيخ الإشراق ، ج ١ ، ص ٢٥٢ ـ ٢٥٥ ، باختلاف.
الطاهر ، المنزّه عن العيوب والنقائض. وقد يفتح القاف في ( القدّوس ) والسين في ( السبوح ).
فهو تعالىٰ قدّوس ، أي منزّه عن جميع النقيصة والعيب حتّىٰ عن الماهيّة ؛ لأنه تعالىٰ ماهيته إنيته ، وهي تأكدّ الوجود والوجوب وشدّة النورية ، كما قرّر في محلّه ، ومجرّد عن جميع المواد ، سواء كانت المادّة بمعنىٰ المحلّ المستغني فيها ، كما في المادّة بمعنیٰ الموضوع بالنّسبة إلیٰ العرض ، أو كانت المادّة بمعنیٰ المتعلّق ، كما في البدن بالنسبة إلىٰ النفس ، أو كانت المادّة العقلية ، كالجنس إذا أخذ بشرط ( لا ) في البسائط الخارجيّة ، كالأعراض أو كالمادة التبعية ؛ لأنَّ هذه معنىٰ المادّة العقلية في الأعراض ، وكالماهية بالنسبة إلىٰ الوجود ، فإنَّ الماهية مادّة للوجود. فعلت ساحة كبريائه تعالىٰ عن أن يصل إليها أغبرة النقائص والحاجات والماهيات والموادّ علوّاً كبيراً ، كما قيل :
أنت المنزّه عن نقصٍ وعن شينٍ |
|
حاشاي حاشاي عن إثبات اثنين (١) |
( يا أَوَّلَ الأَوَّلينَ وَيا آخِر الآخِرينَ )
هاتان الأولية والآخرية ليستا زمانيتين كما يتبادر إلىٰ بعض الأوهام ؛ لأنّه تعالىٰ ليس في حدّ من حدود الزمان حتّىٰ يحيط به ، وكيف يسع للزمان الذي هو من مبدئه إلىٰ منتهاه كالآن الواحد بالنّسبة إلىٰ مقرَّبي حضرته تعالىٰ ، فكيف بجنابه أن يظهر الزمان في سطوح نوره تعالىٰ ؟
بل هذه الأوليّة والاخريّة سرمديّتان وذاتيتان ؛ إذ وعاء وجوده تعالىٰ هو السرمد ، كما أنّ وعاء وجودات العقول والنفوس المفارقة هو الدهر ، ووعاء الطبائع السيّالة
_____________________________
(١) لم نعثر عليه بهذا النظم وفي « ديوان الحلاج » ص ١٦٠ :
أأنت أم أنا هذا في إلهين |
|
حاشاك حاشاك من إثبات اثنين |