الزجّاج
المحقق: ابراهيم الأبياري
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦
القسم الثاني
من إعراب القرآن المنسوب إلى الزجّاج
المتم العشرين
هذا باب ما جاء في التنزيل من حذف المفعول والمفعولين ، وتقديم
المفعول الثاني على المفعول [الأول] (٢) وأحوال الأفعال المتعدية
إلى مفعوليها ، وغير ذلك مما يتعلق به
ونحن نذكر من ذلك ما يدقّ النظر فيه ، لأن ذلك لو حاول إنسان أن يأتى بجميعه توالت عليه الفتوق ، ولم يمكنه القيام به لكثرته فى التنزيل ، وكان بمنزلة من يستقى من بئر زمزم فيغلبه الماء.
فمن ذلك قوله تعالى : (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٣) أي : وما يشعرون أنّ وبال ذلك راجع إليهم.
وكذلك : (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (٤) أي : لا يشعرون أنهم هم المفسدون ، (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) (٥) أي : لا يعلمون أنهم هم السفهاء.
فأما قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) (٦) فقيل : إن التقدير : كمثل الذي استوقد صاحبه نارا ، فحذف المفعول الأول.
وقيل : إن «استوقد» و «أوقد» كاستجاب ، وأجاب.
__________________
(١) في هامش الأصل مع هذا العنوان : «وهو مقدم أيضا».
(٢) تكملة يقتضيها السياق).
(٣) البقرة : ٩.
(٤) البقرة : ١٢.
(٥) البقرة : ١٣.
(٦) البقرة : ١٧.
ومنه قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) (١). وجميع ما جاء من «لو شاء» كان مفعوله مدلول جواب «لو» ، والتقدير : ولو شاء الله إذهاب السمع والبصر لذهب بسمعهم وأبصارهم.
ومن ذلك قوله تعالى : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) (٢) أي : أضاء لهم البرق الطريق مشوا فيه.
ومنه قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٣) أن : تتقون محارمه ، وقيل : بل قوله (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) (٤) مفعول «يتّقون» / و «الأرض» مفعول أول ل «جعل» ، و «فراشا» مفعول ثان ، ومعنى «جعل» : صيّر.
وقد يجىء «جعل» بمعنى : صنع ، وخلق ؛ فيكون متعديا إلى مفعول واحد ، قال الله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) (٥) بمعنى : صنع ، وخلق. وقال الله تعالى : (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) (٦).
وإذا كانت بمعنى «صيرت» تعدّت إلى مفعولين ، لا يجوز الاقتصار على أحدهما ، وهى فى هذا الوجه تنقسم على ثلاثة أقسام : كما تنقسم «صيرت».
أحدها : بمعنى «سميّت» ، كقوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (٧) أي : صيروهم إناثا بالقول والتّسمية ، كما تقول : «جعل زيد عمرا فاسقا». أي : صيره بالقول كذلك.
__________________
(١) البقرة : ٢٠.
(٢) البقرة : ٢٠.
(٣) البقرة : ٢١.
(٤) البقرة : ٢٢.
(٥) الأنعام : ١.
(٦) الأعراف : ١٨٩.
(٧) الزخرف : ١٩١.
والوجه الثاني : أن تكون على معنى : الظن والتخيل ، كقولك : اجعل الأمير غائبا وكلّمه ، أي : صيّره فى نفسك كذلك.
والوجه الثالث : أن تكون فى معنى النّقل ، فتقول : جعلت الطين خزفا أي : صيرته خزفا ونقلته عن حال إلى حال.
قال الله تعالى : (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) (١) أي : صيّره آمنا ، وانقله عن هذه الحال.
قال (٢) سيبويه : «وتقول جعلت متاعك بعضه فوق بعض».
وله ثلاثة أوجه فى النصب :
إن شئت جعلت «فوق» فى موضع الحال ، كما فعلت ذلك فى «رأيت» ، [فى رؤية العين] (٣) وإن شئت نصبت على ما نصبت عليه «رأيت زيدا وجهه أحسن من وجه فلان» ، [تريد رؤية القلب] (٤).
وإن شئت نصبت على أنك إذا قلت : «جعلت متاعك» تدخله (٥) معنى «ألقيت» ، فيصير كأنك قلت : «ألقيت متاعك بعضه فوق بعض».
وهذه الوجوه الثلاثة يرجع وجهان منها إلى وجه واحد مما ذكرنا ، وهو أن يجعل «جعلت» متعديا إلى مفعول واحد.
غير أن معنى الوجهين اللذين ذكرهما مختلف ، وإن كانا مجتمعين فى التعدّى إلى مفعول واحد.
__________________
(١) إبراهيم : ٣٥.
(٢) الكتاب لسيبويه (١ : ٧٨).
(٣) تكملة من الكتاب لسيبويه.
(٤) الكتاب : «يدخل فيه».
فأحد الوجهين هو الأول الذي قال فيه : إن شئت جعلت «فوق» فى موضع الحال ، فيكون معناه : عملت الباب مرتفعا ، أي : أصلحته ، وهو فى هذه «الحال».
والوجه الثاني من هذين الوجهين هو الثالث مما ذكره سيبويه فى قوله : وإن شئت نصبته ، على أنك إذا قلت : جعلت متاعك ، يدخله معنى : / ألقيت ، فيصير كأنك قلت : ألقيت متاعك بعضه فوق بعض ؛ لأن «ألقيت» كقولك : أسقطت متاعك بعضه فوق بعض ، فيكون هذا متعديا إلى مفعول ، وهو منقول من : سقط متاعك بعضه فوق بعض.
فهو يوافق الوجه الأول فى التعدي إلى مفعول واحد ، ويخالف فى غير ذلك ، لأنك لم تعمل «المتاع» هاهنا لإصلاح شىء منه وتأثير فيه ، كما تعمل الباب بنجره ونحته وقطعه. و «فوق» فى هذا كالمفعول إلا فى موضع الحال ، لأنه فى جملة الفعل الذي هو «ألقيت» ، لأنه منقول من : سقط متاعك بعضه فوق بعض ، والسقوط وقع على «فوق» وعمل فيه ، على طريق الظرف.
وفى المسألة الأولى يعمل فيه «جعلت» ، وإنما عمل فيه الاستقرار ، وصار فى موضع الحال. وهذان الوجهان كوجه واحد.
وقوله : وإن شئت نصبته على ما نصبت عليه : رأيت زيدا وجهه أحسن من وجه فلان ؛ فتعدّيه إلى مفعولين من جهة النّقل والعمل ، كما تقول : صيّرت الطين خزفا.
وإنما حملنا هذا الوجه على هذا ، لأنه فى ذكر «جعلت» الذي فى معنى : عملت ، وأثّرت.
قال : والوجه الثالث : أن تجعله مثل : ظننت متاعك بعضه أحسن من بعض.
فهذا أحد وجوه «صيرت» التي ذكرناها ، وهو الذي فى معنى التخيل ، والذي هو من طريق التّسمية يشبه هذا الوجه ، إلا أنه لم يذكره اكتفاء بهذا (١).
فأما قوله تعالى : (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ) (٢) ف «الخبيث» هو المفعول. و «بعضه» بدل منه. وقوله «على بعض» ظرف ل «يجعل» ، كما تقول : يلقى الخبيث بعضه على بعض ، ومن هذا الباب قوله تعالى : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) (٣) وقوله : (أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) (٤).
قال : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) (٥) أي : أخبرهم عن ضيفه.
وقال : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) (٦) أي : يخبر به.
__________________
(١) الكتاب لسيبويه (١ : ٧٨).
(٢) الأنفال : ٣٧.
(٣) البقرة : ٣١.
(٤) البقرة : ٣٣.
(٥) الحجر : ٥١.
(٦) القيامة : ١٣.
فلما كان «النبأ» مثل «الخبر» كان «أنبأته عن كذا» ، بمنزلة «أخبرته عنه» ، «ونبّأته عنه» مثل «خبّرته عنه» ، و «نبأته به» مثل «خبرته به».
وهذا يصحح ما ذهب إليه سيبويه ، من أن معنى «نبّأت زيدا» : نبّأت عن زيد ، فحذف حرف الجر ، لأن «نبأت» قد ثبت أن أصله «خبرت» / بالآى التي تلوناها ، فلما حذف حرف الجر وصل الفعل إلى المفعول الثاني ، ف «نبّأت» يتعدى إلى مفعولين : أحدهما ، يصل إليه بحرف جر ، كما أن «خبّرته عن زيد» كذلك.
فأما ما يتعدى إلى ثلاثة مفعولين نحو : نبأت زيدا عمرا أبا فلان. فهو فى هذا الأصل إلا أنه حمل على المعنى ، فعدّى إلى ثلاثة مفعولين.
وذلك أن الإنباء ، الذي هو إخبار ، إعلام ، فلما كان إياه فى المعنى ، عدّى إلى ثلاثة مفعولين كما عدّى الإعلام إليها.
ودخول هذا المعنى فيه ، وحصول مشابهته للإعلام لم يخرجه عن الأصل الذي هو له من الإخبار ، وعن أن يتعدى إلى مفعولين ، أحدهما : يتعدى إليه بالباء أو ب «عن» نحو : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) (١) ونحو قوله : (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) (٢).
كما أن دخول «أخبرنى» فى : «أرأيت» لم يخرجه عن أن يتعدى إلى مفعولين ، كما كان يتعدى إليهما إذا لم يدخله معنى «أخبرنى به» ، إلا أنه امتنع من أجل
__________________
(١) الحجر : ٥١.
(٢) التحريم : ٣.
ذلك أن يرفع المفعول بعده على الحمل على المعنى ، من أجل دخوله فى حيّر الاستفهام ، فلم يجز : «أرأيت زيدا أبو من هو» كما جاز : «علمت زيدا أبو من هو» حيث كان المعنى : علمت أبو من زيد ، وذلك دخول معنى الإعلام فى الإنباء ، والتنبؤ لم يخرجهما عن أصليهما وتعدّيهما إلى مفعولين ، أحدهما يصل إليه الفعل بحرف الجر ، ثم يتّسع فيه فيحذف حرف الجر ، ويصل الفعل إلى الثاني.
فأما من قال : إن الأصل فى «نبأت» على خلاف ما ذكرنا ، فإنّه لم يأت على ما ادعاه بحجة ولا شبهة.
وأما قوله تعالى : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (١). فيحمل على وجهين :
أحدهما : أن يكون (نَبِّئْ) بمنزلة «أعلم» ، ويكون (أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) قد سدّ مسدّهما.
فيكون فى هذه ، فى قول الخليل على هذا ، فى موضع جر ، وعلى قول غيره ، فى موضع نصب.
فأما قوله تعالى : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ) (٢) ، فإن جعلت «اللام» متعلّقة «بأنبئكم» ، جاز الجر ، فى «جنات» على البدل من «خير» ؛ وإن جعلته صفة «خير» لأنه نكرة ، جاز الجر فى «جنات» أيضا.
__________________
(١) الحجر : ٤٩.
(٢) آل عمران : ١٥.
وإن جعلتها متعلقة بمحذوف لم يجز الجر فى «جنّات» / وصار مرتفعا بالابتداء أو بالظرف ، ولم يجز غير ذلك ، لأن اللام حينئذ لا بد لها من شىء يكون خبرا عنها.
فأما قوله : (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) (١) فلا يجوز أن يكون «من» فيه زيادة ، على ما يتأوله أبو الحسن من زيادة «من» فى الواجب ، لأنه يحتاج إلى مفعول ثالث.
ألا ترى أنه لا خلاف فى أنه إذا تعدّى إلى الثاني ، وجب تعدّيه إلى المفعول الثالث. وإن قدرت تعدّيه إلى مفعول محذوف ، كما تأول قوله تعالى : (يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها) (٢) أي : شيئا ما ، لزم تعديته إلى آخر ، فإن جعلت «من» زيادة أمكن أن تضمر مفعولا ثانيا ، كأنه : نبأنا الله أخباركم مشروحة.
ويجوز أن تجعل «من» ظرفا غير مستقر ، وتضمر المفعول الثاني والثالث ، كأنه : نبأنا الله من أخباركم ما كنتم تسرونه تبيينا ، كما أضمرت فى قوله : (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٣) أي : تزعمونهم إياهم.
وأما قوله تعالى : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ) (٤) فيكون «يستنبئونك» : يستخبرونك فيقولون أحق هو؟.
ويكون «يستنبئونك» : يستعلمونك ، والاستفهام قد سد مسد المفعولين.
__________________
(١) التوبة : ٩٤.
(٢) البقرة : ٦١.
(٣) القصص : ٦٢.
(٤) يونس : ٥٣.
ومما يتجه على معنى الإخبار دون الإعلام قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) (١) فالمعنى : يخبركم فيقول لكم : إذا مزقتم ، وليس على الإعلام. ألا ترى أنهم قالوا : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) (٢).
ومن ذلك قوله تعالى : (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٣) أي : تكتمونه. (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ) (٤) أي : أبى السّجود واستكبر عنه.
(ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) (٥) أي : اتخذتموه إلها.
وكذلك : (بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) (٦) أي : باتخاذكم إياه إلها.
فخذف المفعول الثاني ، لا بد من إضماره ، لأنهم عوتبوا بذلك ، ولا يعاتب أحد باتخاذ صورة العجل.
فإن قال قائل : فقد جاء فى الحديث : «يعذّب المصورون يوم القيامة» (٧).
وفى بعض الحديث : يقال لهم : «أحيوا ما خلقتم» ، قيل : «يعذب المصورون» يكون على من صوّر الله تصوير الأجسام.
وأما الزيادة من أخبار الآحاد ، التي لا توجب العلم ، فلا يقدح فى الإجماع ما ذكر الله.
وأما «اتّخذت» فإنه فى التعدّى ، على ضربين :
أحدهما : / أن يتعدى إلى مفعول واحد.
والثاني : أن يتعدى إلى مفعولين.
__________________
(١) سبأ : ٧.
(٢) : سبأ : ٨.
(٣) البقرة : ٣٣.
(٤) البقرة : ٣٤.
(٥) البقرة : ٥١.
(٦) البقرة : ٥٤.
(٧) نص الحديث «إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون» (البخاري ـ اللباس : ٧ : ١٨٧).
فأما تعدّيه إلى مفعول واحد ، فنحو قوله : (يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً)(١)، و (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ) (٢) ، و (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) (٣) و (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ) (٤).
وأما إذا تعدى إلى مفعولين ، فإن الثاني منهما الأول فى المعنى ، قال : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) (٥) ، وقال : (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) (٦) ، [وقال] : (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) (٧).
وأما قوله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) (٨) فإن من أجاز زيادة «من» فى الإيجاب جاز على قوله أن يكون قد تعدّى إلى مفعولين ، ومن لم يجز ذلك كان عنده متعديا إلى مفعول واحد.
ومن حذف المفعول (٩) قوله تعالى : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) (١٠) أي : أنعمتها عليكم ، فحذف ؛ [و] قوله تعالى : (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) (١١) أي : ثوابا وكرامة ؛ لأن «زدت» فعل يتعدى إلى مفعولين ، قال الله تعالى : (وَزِدْناهُمْ هُدىً) (١٢) ، وقال : (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) (١٣) ، وقال : (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ)(١٤).
فأما قوله تعالى : (فَزادَهُمْ إِيماناً) (١٥) فالمعنى : زادهم قول الناس إيمانا ، أضمر المصدر فى الفعل ، وأسند الفعل إليه.
__________________
(١) الفرقان : ٢٧.
(٢) الزخرف : ١٦.
(٣) مريم : ٨١.
(٤) الأنبياء : ١٧.
(٥) المنافقون : ٢.
(٦) الممتحنة : ١.
(٧) المؤمنون : ١١٠.
(٨) البقرة : ١٢٥.
(٩) في هامش الأصل بإزاء هذا السطر : «لا ما حذف فيه المفعول الثاني».
(١٠) البقرة : ٤٠.
(١١) البقرة : ٥٨.
(١٢) الكهف : ١٣.
(١٣) النحل : ٨٨.
(١٤) البقرة : ٢٤٧.
(١٥) آل عمران : ١٧٣.
وكذلك قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) (١) أي : مازادهم مجىء النذير.
وقال : (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً) (٢) أي : ما زادهم نظرهم إليهم أو رؤيتهم لهم إلا إيمانا.
وأما قوله : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) (٣) أي : ما زادوكم قوة ونصرة إلا خبالا ، فحذف المفعول الثاني.
وليس انتصاب «خبالا» كانتصاب «إيمانا» لقوله : (وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً) (٤) لكن على الاستثناء ، أي : يوقعون خبالا وفسادا.
هذا هو الصحيح فى هذه الاية ، وأظننى نقلت عن بعضهم غير هذا فى هذه الأجزاء.
وقوله تعالى : (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) (٥) أي : لأوضعوا بينكم ركائبهم عن أبى الهيثم. وقال أبو إسحاق : لأوضعوا فيما يحل بكم.
ومن حذف المفعول قوله تعالى : (وَإِذِ اسْتَسْقى / مُوسى لِقَوْمِهِ) (٦) أي : استسقى ربه ، وكذلك : (يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) (٧) ، التقدير : يخرج لنا شيئا مما تنبت الأرض ، فالمفعول مضمر ، وقوله : (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) (٨) فى موضع الوصف له ، أي : شيئا مما تنبت الأرض.
__________________
(١) فاطر : ٤٢.
(٢) الأحزاب : ٢٢.
(٣) التوبة : ٤٧.
(٤) الأحزاب : ٢٢.
(٥) التوبة : ٤٧.
(٦) البقرة : ٦٠.
(٧) البقرة : ٦١.
(٨) البقرة : ٦١.
وهذه مسألة عرضت ، فنقول فيها : إن «من» لا تزاد فى الواجب عندنا. وقال الأخفش : تجوز زيادتها فى الواجب ، كما جازت زيادتها فى النفي ، وكما جاز : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) (١) و (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) (٢) ، و (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) (٣) ، و (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) (٤) ، بالاتفاق ، فكذا فى الواجب ، والتقدير عنده : (يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) (٥) ، وكذا : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) (٦).
وسيبويه يحمل هذا ونظائره فى التنزيل على حذف الموصوف ، الذي هو المفعول ، وإقامة الصفة مقامه.
فأما قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) (٧) ، فإن التقدير : ولقد جاءك شىء من نبإ المرسلين.
وجاز إضمار «شىء» وإن كان فاعلا ، لأن الفعل لا بد له من الفاعل ، وقد تقدم هذا.
فأما قوله : (وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) (٨) ، فمن خفّف ، كان «ما» بمنزلة «الذي» ، وفيه ذكر مرفوع يعود إلى «ما».
__________________
(١) الأعراف : ٥٩.
(٢) فاطر : ٣.
(٣) المائدة : ٧٣.
(٤) آل عمران : ٦٢.
(٥) البقرة : ٦١.
(٦) النساء : ٣٢.
(٧) الأنعام : ٣٤.
(٨) الحديد : ١٦.
ولا يجوز فيمن خفّف ، أن يجعل «ما» بمنزلة المصدر مع الفعل ، لأن الفعل يبقى بلا فاعل.
ولهذا المعنى ، حملنا قراءة أبى جعفر : (حافظات للغيب بما حفظ الله) (١) بالنصب ، على أن «ما» بمعنى «الذي» ، أي : بالشيء الذي حفظ أمر الله.
فلا تكون «ما» مصدرية ، كما ذهب إليه عثمان (٢) فى «المحتسب» (٣) ، لأنه يبقى «حفظ» بلا فاعل.
ولا يجوز فيمن جوّز زيادة «من» فى الإيجاب ، أن يكون «الحق» مع الجار فى موضع الحال ، وقد جعلت «ما» بمنزلة «الذي» لأنه لا يعود إلى الموصول شىء.
ومن شدّد ، كان الضمير الذي فى «نزّل» لاسم الله تعالى ، والعائد محذوف من الصلة.
فأما دخول الجارّ ، فلأن «ما» لما كان على لفظ الجزاء حسن دخول «من» معه ، كما دخلت فى قوله :
فما يك من خير أتوه (٤)
فأما قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) (٥) ، / فإن أبا الحسن ذكر أن التقدير : وينزّل من السماء جبالا فيها بردا (٦).
__________________
(١) النساء : ٣٤.
(٢) هو ابن جني.
(٣) هو : المحتسب في إعراب شواذ القراآت.
(٤) جزء من بيت ، تمامه :
فما يك من خير أتوه فإنما |
|
توارثه آباء آبائهم قبل |
(٥) النور : ٤٣.
(٦) وتكون «بردا» يدل على البدل من جبال ، وفيها ، أي في السماء (البحر المحيط ٦ : ٤٦٤).
قال : وقال بعضهم : ينزّل من السماء من جبال فيها من برد. أي : فى السماء جبال من برد. يريد به أن يجعل الجبال من برد فى السماء ، ويجعل الإنزال منها.
قال أبو على : قلت أنا فى هذه الآية ، قبل أن أعرف هذا القول لأبى الحسن : إن قوله : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) (١).
المعنى : وينزل من السماء جبالا فيها من برد. فموضع «من» الأولى نصب ، على أنه ظرف ، والثانية : نصب على أنه فى موضع المفعول. و «فيها» صفة ل «جبال» ، و «من» الثالثة للتبيين ، كأنه بيّن من أي شىء هذا المكثّر ، كما تقول : عندى جبال من المال ، فيكثّر ما عنده منه ، ثم تبيّن المكثّر بقولك : من المال.
ويحتمل أن يكون موضع «من» من قوله «من جبال» نصبا على الظرف على أنه منزّل منه. ويكون «من برد» نصبا ، أي : وينزل من السماء من جبال فيها بردا (٢). ويكون «الجبال» على هذا التأويل ، تعظيما لما ينزّل من البرد من السحاب.
ويحتمل أن يكون موضع «من» فى قوله : «من برد» رفعا ، وموضع «من» من قوله «من جبال» نصبا على أنه مفعول به ، كأنه فى التقدير :
__________________
(١) النور : ٤٣.
(٢) ساق هذا الرأي أبو حيان في كتابه (البحر المحيط) (٦ : ٤٦٤) نقلا عن الزجاج.
وينزّل من السماء جبالا فيها برد. فيكون «الجبال» على هذا تعظيما وتكثيرا. لما ينزل من السماء من البرد والمطر ، ويكون «من برد» مرفوع للموصوف ، لصيرورة موضع قوله «من برد» رفعا.
قال : وقد جعلنا «من» فى بعض هذه التأويلات زائدة في الإيجاب ، وذلك مذهب أبى الحسن والكسائي.
وحكى أبو الحسن أنهم يقولون : «قد كان من مطر» و «كان من حديث». يريدون : كان مطر ، وكان حديث.
ولم يجز سيبويه هذا فقال : ولا يفعلون هذا «بمن» فى الواجب. يريد أن «من» لا تزاد كما زيدت «الباء» فى «كفى بالله» و «ليس بزيد».
وحمل أبو الحسن قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) (١) على هذا. وقال : المعنى : فكلوا ما أمسكن عليكم.
وإذا ثبت رأى ثقة بما لا يدفعه قياس لزم قبوله واستعماله ، ولم يجب دفعه.
وجعل أبو الحسن «من» زائدة في التأويل الأول / الذي ذكره. ٧٠ ش
__________________
(١) المائدة : ٤.
قال : أما أنا فجعلت «من» الثانية في التأويل الأول زائدة منصوبة الموضع ، على أنه مفعول به ، والثالثة للتّبيين ؛ وجعلت الثانية في التأويل الثاني زائدة نصبا على الظرف ، والثالثة أيضا زائدة في موضع نصب ؛ وجعلت الثانية فى التأويل الثالث زائدة نصبا على المفعول ، والثالثة أيضا زائدة رفعا ، على أنه مرتفع بالظرف ؛ وجعلت «من» الأولى في الآية ، فى التأويلات الثلاث ، نصبا على الظرف.
وأما أبو الحسن : فجعل «من» الثانية والثالثة في الآية في التأويل الأول زائدة.
فأما موضعهما من الإعراب ، فالأولى نصب على أنه مفعول به ، وهي الثانية من الآية. وموضع «من» الثالثة في الآية رفع بالظرف ، وهذا هو التأويل الثالث ، الذي ذكرناه نحن.
فأما القول الثاني : الذي ذكره في الآية «فمن» الثانية في الآية نصب بالظرف ، والثالثة للتبيين من «الجبال» ، فكأنه على هذا التأويل ذكر الموضع الذي ينزل منه ، لم يذكر المنزل للدلالة عليه.
ولا أدرى ما صحة هذا الوجه الذي ذكره ـ أعنى أبا إسحاق ـ عن بعضهم في التأويل.