مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٧٨
محتويات العدد
*تشييد المراجعات وتفنيد المكابرات (٩).
................................................... السيّد علي الحسيني الميلاني ٧
*الحديث المرسل بين الردّ والقبول.
.................................................. السيّد ثامر هاشم العميدي ١٠٧
*النصال الخارقة لنحور المارقة.
................................. السيّد حسن الحسيني آل المجدّد الشيرازي ١٩١
*معجم شواهد التفسير(١).
............................................................... أسعد الطيّب ٢٥٤
*فهرس مخطوطات مكتبة القائيني (٢).
.......................................... الشيخ علي الفاضل القائيني النجفي ٣١٤
*مصطلحات نحوية (٨).
...................................................... السيّد علي حسن مطر ٣٧٧
*من ذخائر التراث :
*وصيّة الامام الكاظم عليه السلام لهشام بن الحكم.
............................................... تحقيق : فارس حسّون كريم ٣٩٥
*من أنباء التراث.
................................................................ هيئة التحرير ٤٥٧
*صورة الغلاف : نموذج من مخطوطة نقد الرجال للسيّد مير مصطفى بن الحسين الحسيني التفريشي (كان حياً سنة ١٠٤٤ هـ) وهي بخطّ المصنّف رحمه الله ، والذي تقوم مؤسسّة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث بتحقيقه.
تشييد المراجعات وتفنيد المكابرات (٩) |
|
السيد علي الحسيني الميلاني
قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) (١).
قال السيد رحمهالله :
«والصادقين الذين قال : (وكونوا مع الصادقين)».
فقال في الهامش :
«والصادقون هنا : رسول الله والأئمة من عترته الطاهرة ، بحكم صحاحنا المتواترة ، وهو الذي أخرجه الحافظ أبو نعيم ، وموفق بن أحمد ، ونقله ابن حجر في تفسير الآية الخامسة من الباب ١١ من صواعقه ، ص ٩٠ ، عن الإمام زين العابدين ، في كلام له ، أوردناه في أواخر المراجعة ٦».
__________________
(١) سورة التوبة ٩ : ١١٩.
فقيل :
«هذه الآية نزلت في كعب بن مالك ، والثلاثة الذين خلفوا ، حينما طلب منه أن يعتذر ويكذب ، كما فعل المنافقون ، لكنه صدق الله ورسوله ، فتاب الله عليه ببركة الصدق.
وهذا ثابت في الصحيح.
ثم إن لفظ الآية عام وليس هناك دليل على تخصيصه.
وفي تفسير ابن كثير ٢ / ٣٩٩ : ... وعن عبد الله بن عمر في قوله : (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين).
قال : مع محمد وأصحابه.
وقال الضحاك : مع أبي بكر وعمر وأصحابهما.
وقال الحسن البصري : إن أردت أن تكون مع الصادقين فعليك بالزهد في الدنيا والكف عن أهل الملة.
وقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية على قول من قال : إنها نزلت في علي ، بجواب ضاف من أحد عشر وجها ، فارجع إليه في منهاج السنة ٤ / ٧٢».
أقول :
إن مجمل الكلام في وجه الاستدلال بالآية المباركة هو : إن كون المراد من (الصادقين) هنا : رسول الله والأئمة الطاهرون من عترته ، هو القول المروي عند الفريقين ، ولا ريب في أن المجمع عليه أولى بالقبول والاتباع من القول المتفرد به ، فإن قول عبد الله بن عمر ، أو الضحاك ، أو
غيرهما ، لو ثبت عنهم ، لا يكون حجة علينا ، كما سيأتي قول هذا المتقول في آية الذكر ، في الجواب عما رواه العلامة البحراني : «فإنه ليس بحجة علينا».
على أن استشهاده بأقوال هؤلاء ـ نقلا عن ابن كثير ـ يناقض قوله : «إن لفظ الآية عام ، وليس هناك دليل على تخصيصه».
وأما ذكره نزول الآية في كعب بن مالك وغيره ، فلا فائدة فيه ، لأن سبب النزول لا يكون مخصصا ، كما تقرر عند الجميع ، مضافا إلى ذكره أقوال المفسرين بتفسير الآية المباركة.
وكذلك ، لا فائدة في الإحالة إلى منهاج السنة ، لأن المفروض أنه بصدد الرد على استدلال السيد ، فكان عليه أن يناقش في سند أو دلالة ما استند إليه السيد في هذا المقام ، وهذا ما لم يفعله ، وإنما اكتفى بالإحالة إلى منهاج السنة ، وبنقل ما ظنه مفيدا له مما جاء في تفسير ابن كثير ، فكان في الحقيقة عاجزا عن الجواب.
هذا مجمل الكلام.
وأما تفصيله بما يسعه المقام فهو في فصول :
الفصل الأول
إن رواة نزول الآية الكريمة في النبي وأهل بيته الطاهرين ، من أئمة أهل السنة المشهورين ، كثيرون ، نكتفي هنا بذكر أسماء جماعة منهم :
١ ـ مالك بن أنس ، إمام المالكية ، المتوفى سنة ١٧٩ ، وقع في طريق رواية الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ، وكذا في طريق غيره.
٢ ـ الحسين بن الحكم الحبري ، المتوفى سنة ٢٨٦ ، رواه في تفسيره : ٢٧٥.
٣ ـ أبو يوسف يعقوب بن يوسف الفسوي ، المتوفى سنة ٢٧٧ ، رواه في تاريخه.
٤ ـ أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد ، ابن عقدة الكوفي ، المتوفى سنة ٣٣٢ ، وقع في طريق رواية ابن عساكر.
٥ ـ أبو بكر محمد بن عمر ، ابن الجعابي ، البغدادي ، المتوفى سنة ٣٥٥ ، وقع في طريق رواية الحاكم الحسكاني ، في شواهد التنزيل.
٦ ـ أبو عمر عبد الواحد بن محمد ، ابن مهدي ، الفارسي ، البغدادي ، المتوفى سنة ٤١٠ ، وقع في طريق رواية ابن عساكر.
٧ ـ أبو بكر أحمد بن موسى ، ابن مردويه ، الأصفهاني ، المتوفى سنة ٤١٠ ، رواه عنه غير واحد ، منهم السيوطي في الدر المنثور.
٨ ـ أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم ، الثعلبي ، النيسابوري ، المتوفى سنة ٤٢٧ ، وقع في طريق رواية الحمويني في فرائد السمطين.
٩ ـ أبو نعيم أحمد بن عبد الله ، الأصفهاني ، المتوفى سنة ٤٤٣ ، وقع
في طريق غير واحد ، منهم الخوارزمي في المناقب.
١٠ ـ عبيد الله بن عبد الله بن أحمد ، الحاكم الحسكاني ، الحنفي ، النيسابوري ، المتوفى بعد سنة ٤٧٠ ، في كتابه : شواهد التنزيل لقواعد التفضيل ١ / ٣٤١ فما بعد ، بطرق عديدة.
١١ ـ أبو القاسم إسماعيل بن أحمد ، ابن السمرقندي ، البغدادي ، المتوفى سنة ٥٣٦ ، وقع في طريق رواية ابن عساكر.
١٢ ـ الموفق بن أحمد ، الخطيب الخوارزمي ، المكي ، المتوفى سنة ٥٦٨ ، رواه في كتابه : مناقب علي بن أبي طالب : ١٩٨.
١٣ ـ أبو العلاء ، الحسن بن أحمد ، العطار الهمداني ، المتوفى سنة ٥٦٩ ، وقع في طريق رواية الخوارزمي.
١٤ ـ أبو القاسم علي بن الحسن ، ابن عساكر ، الدمشقي ، المتوفى سنة ٥٧٣ ، رواه في : تاريخه ، بترجمة أمير المؤمنين عليهالسلام ٢ / ٤٢١.
١٥ ـ يوسف بن قزغلي البغدادي ، سبط ابن الجوزي ، المتوفى سنة ٦٥٤ ، رواه في كتابه : تذكرة خواص الأمة : ١٦ ، قال : «قال علماء السير : معناه : كونوا مع علي وأهل بيته ، قال ابن عباس : علي سيد الصادقين».
١٦ ـ أبو عبد الله ، محمد بن يوسف القرشي ، الكنجي ، المقتول سنة ٦٥٨ ، رواه في كتابه : كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب : ٢٣٦.
١٧ ـ إبراهيم بن محمد ، الحمويني ، الخراساني ، المتوفى سنة ٧٣٠ ، رواه في كتابه : فرائد السمطين في فضائل المرتضى والبتول والسبطين ١ / ٣٧٠.
١٨ ـ أبو الحجاج جمال الدين يوسف بن عبد الرحمن المزي المتوفى سنة ٧٤٢ ، رواه في كتابه : تهذيب الكمال في أسماء
الرجال ٥ / ٨٤.
١٩ ـ جمال الدين ، محمد بن يوسف ، الحنفي ، الزرندي ، المدني ، المتوفى سنة ٧٥٠ ، رواه في كتابه : نظم درر السمطين في فضائل المصطفى والمرتضى والبتول والسبطين : ٩١.
٢٠ ـ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ، المتوفى سنة ٩١١ ، رواه في تفسيره : الدر المنثور في التفسير بالمأثور ٣ / ٣٩٠.
٢١ ـ شهاب الدين أحمد بن حجر ، المكي ، المتوفى سنة ٩٧٣ ، رواه في كتابه : الصواعق المحرقة : ١٥١ ، باب الآيات النازلة فيهم.
٢٢ ـ القاضي محمد بن علي الشوكاني ، المتوفى سنة ١٢٥٠ ، رواه في تفسيره : فتح القدير ٢ / ٤١٤.
٢٣ ـ شهاب الدين محمود الآلوسي ، البغدادي ، المتوفى سنة ١٢٧٠ ، رواه في تفسيره : روح المعاني ١١ / ٤٥.
٢٤ ـ الشيخ سليمان بن إبراهيم القندوزي ، الحنفي ، المتوفى سنة ١٢٩٤ رواه في كتابه : ينابيع المودة : ١١٦ ، ١١٩.
ونتيجة هذا الفصل ، إن القول بنزول الآية في رسول الله وعلي والأئمة من أهل البيت عليهمالسلام هو القول المتفق عليه ، وإن قول هؤلاء وروايتهم حجة على أهل السنة بلا ريب.
الفصل الثاني
إن أقوال الإمام أبي جعفر الباقر والإمام جعفر الصادق ، عليهما السلام ، من أئمة أهل البيت ، وابن عباس وغيره من الصحابة ، وكذا غير واحد من التابعين وأعلام المفسرين .. بكون المراد من (الصادقين) في الآية هم النبي وأهل بيته الطاهرون .. مشهورة جدا ، وقد رواها كبار العلماء من الفريقين في كتبهم في التفسير والحديث والفضائل بأسانيد وطرق جمة ، ولو أردنا إيرادها لطال بنا المقام ... ونحن ننتقي في هذا الفصل جملة من عيون تلك الأسانيد النظيفة ، وبذلك نكتفي :
١ ـ الإمام الصادق عليهالسلام :
قال الحافظ المزي : «وقال محمد بن الصلت الأسدي ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمد ، في قوله تعالى : (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) قال : محمد وعلي» (١).
وهذا ما رواه الحافظ المزي ، ولم يتكلم عليه بشئ.
وأسنده الحافظ الحاكم الحسكاني قال : «أخبرنا أبو الحسن الفارسي ، قال : أخبرنا أبو بكر ابن الجعابي ، قال : حدثنا محمد بن الحرث ، قال : حدثنا أحمد بن حجاج ، قال : حدثنا محمد بن الصلت ، قال : حدثني أبي ، عن جعفر بن محمد ، في قوله : (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) قال : محمد وعلي» (٢).
__________________
(١) تهذيب الكمال ٥ / ٨٤.
(٢) شواهد التنزيل ١ / ٣٤١.
أقول :
محمد بن الصلت بن الحجاج الأسدي ، أبو جعفر الكوفي ، الأصم ، ثقة ، من كبار العاشرة ، مات في حدود العشرين. قاله الحافظ ، وعلم عليه علامة رواية البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة ، عنه (١).
وأبوه : الصلت بن الحجاج ، روى عنه يحيى بن سعيد القطان ، قاله ابن أبي حاتم عن أبيه (٢) وذكره ابن حبان في الثقات فقال : كوفي يروي عن جماعة من التابعين ، روى عنه أهل الكوفة ، كما ذكر الحافظ (٣).
٢ ـ ابن عباس :
قال الحبري : «حدثنا حسن بن حسين ، قال : حدثنا حبان ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، في قوله : (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ، نزلت في علي بن أبي طالب خاصة» (٤).
وقد بينا صحة هذا السند في بحوثنا السابقة فليراجع.
٣ ـ عبد الله بن عمر :
قال الحافظ ابن شهرآشوب السروي (٥) : «تفسير (٦) أبي يوسف
__________________
(١) تقريب التهذيب ٢ / ١٧١.
(٢) الجرح والتعديل ٤ / ٤٤٠.
(٣) لسان الميزان ٣ / ١٩٤.
(٤) تفسير الحبري : ٢٧٥.
(٥) توجد ترجمته في : الوافي بالوفيات ٤ / ١٦٤ ، بغية الوعاة : ٧٧ ، البلغة في علماء النحو واللغة ـ للفيروز آبادي ـ ، وغيرها من مصادر أهل السنة.
(٦) كذا ، والصحيح
أنه «تاريخ» واسم الكتاب «المعرفة والتاريخ» ، وقد ذكر
يعقوب بن سفيان : حدثنا مالك بن أنس ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) أمر الله الصحابة أن يخافوا الله.
ثم قال : (وكونوا مع الصادقين) يعني : مع محمد وأهل بيته» (١).
وهذا السند صحيح بلا كلام.
وقد أسنده الحافظ الحاكم الحسكاني ، قال : «أخبرنا عقيل ، قال : أخبرنا علي ، قال : أخبرنا محمد ، قال : حدثنا أبو علي الحسن بن عثمان الفسوي بالبصرة ، قال : حدثنا يعقوب بن سفيان الفسوي ، قال : حدثنا ابن قعنب ، عن مالك بن أنس ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، في قوله تعالى : (اتقوا الله) قال : أمر الله أصحاب محمد بأجمعهم أن يخافوا الله.
ثم قال لهم : (وكونوا مع الصادقين) يعني : محمدا وأهل بيته " (٢).
و «يعقوب بن سفيان الفسوي» المتوفى سنة ٢٧٧ وصفه الذهبي ب : «الإمام الحافظ الحجة الرحال ، محدث إقليم فارس» قال : «وله تاريخ كبير جم الفوائد» (٣).
وتوجد ترجمته في : تهذيب التهذيب ١١ / ٣٨٥ ، وتذكرة الحفاظ ٢ / ٥٨٢ ، والبداية والنهاية ١١ / ٥٩ ، وشذرات الذهب ٢ / ١٧١ ، وغيرها.
__________________
إسناده في أول الكتاب ، قال : «إسناد تاريخ الفسوي : عن أبي عبد الله المالكي ، عن محمد بن الحسين بن الفضل بن القطان ، عن درستويه النحوي ، عن يعقوب بن سفيان» المناقب ١ / ٨.
و «ابن درستويه» هو عبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي ، وهو راويته وخاتمة أصحابه ، كما ذكر ذلك الذهبي في سير أعلام النبلاء ١٣ / ١٨١.
(١) مناقب آل أبي طالب ٣ / ٩٢.
(٢) شواهد التنزيل ١ / ٣٤٥.
(٣) سير أعلام النبلاء ١٣ / ١٨٠.
أقول :
فهذه هي الرواية المسندة عند القوم عن عبد الله بن عمر ، فليتحقق عما نسب إليه في تفسير ابن كثير ، والله العالم.
* * *
الفصل الثالث
وتدل الآية المباركة على إمامة أمير المؤمنين عليهالسلام والمعصومين من عترة رسول رب العالمين ، بمقتضى الأحاديث الواردة في ذيلها ، بكتب التفسير والحديث والمناقب ، وذلك لأن «الكون مع الصادقين» ليس هو الكون الخارجي ، وإنما المراد هو الاتباع والاقتداء في القول والعمل ، وهذا الأمر مطلق ، إذ لم يقل : كونوا مع الصادقين في حال كذا ، أو في القول الفلاني ، بل الكلام مطلق غير مقيد بقيد أصلا.
فإذا ورد الأمر الكتابي بالاتباع مطلقا ، ثم جاءت السنة المعتمدة وعينت الشخص المتبوع ، كانت النتيجة وجوب اتباع هذا الشخص المعين ، وكان الشخص معصوما ، لأن الله سبحانه وتعالى لا يأمر باتباع من لا تؤمن عليه مخالفة أحكامه عن عمد أو خطأ ، وإذا كان معصوما كان إماما.
وإذا كانت الآية دالة على العصمة بطل حمل (الصادقين) فيها على مطلق المهاجرين والأنصار ، أو خصوص الثلاثة الذين تخلفوا ، أو خصوص أبي بكر وعمر ، لعدم عصمة هؤلاء بالإجماع.
ومن هنا يظهر ، أن لا علاقة للآية بالثلاثة الذين تخلفوا في غزوة تبوك ، وإنما جاءت بعد ذكر قصتهم وتوبة الله عليهم.
وقد أذعن إمام المفسرين عند القوم الفخر الرازي بدلالة الآية على
العصمة وعدم إرادة الذين تخلفوا أو غيرهم ـ مما ذكره بعض المفسرين ـ من (الصادقين) .. وهذه عبارته (١) :
«قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) :
واعلم أنه تعالى لما حكم بقبول توبة هؤلاء الثلاثة ، ذكر ما يكون كالزاجر عن فعل ما مضى ، وهو التخلف عن رسول الله في الجهاد ، فقال : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) في مخالفة أمر الرسول (وكونوا مع الصادقين) يعني مع الرسول وأصحابه في الغزوات ، ولا تكونوا متخلفين عنها وجالسين مع المنافقين في البيوت».
إذن الآية المباركة لا علاقة لها بالمتخلفين ، وليسوا المقصودين من (الصادقين).
ثم تعرض لدلالة الآية على العصمة في المسألة الأولى من مسائلها فقال : «وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : إنه تعالى أمر المؤمنين بالكون مع الصادقين ، ومتى وجب الكون مع الصادقين فلا بد من وجود الصادقين في كل وقت ، وذلك يمنع من إطباق الكل على الباطل ، ومتى امتنع إطباق الكل على الباطل ، وجب إذا أطبقوا على شئ أن يكونوا محقين. فهذا يدل على أن إجماع الأمة حجة».
فاعترف الفخر الرازي هنا بدلالة الآية على وجود الصادقين في كل وقت ، وبدلالة الآية على العصمة.
__________________
(١) التفسير الكبير ١٦ / ٢٢٠ ـ ٢٢١.
إلا أنه نزلها على الأمة ، فقال بعصمة الأمة.
قال هذا ولم يعبأ بالأحاديث الواردة في ذيلها!
ثم أورد على نفسه قائلا : «فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : المراد بقوله (كونوا مع الصادقين) أي : كونوا على طريقة الصادقين؟ كما أن الرجل إذا قال لولده : كن مع الصالحين ، لا يفيد إلا ذلك.
سلمنا ذلك ، لكن نقول : إن هذا الأمر كان موجودا في زمان الرسول فقط ، فكان هذا أمرا بالكون مع الرسول ، فلا بد على وجود صادق في سائر الأزمنة.
سلمنا ذلك ، لكن لم لا يجوز أن يكون الصادق هو المعصوم الذي يمتنع خلو زمان التكليف عنه كما تقوله الشيعة؟».
فأجاب عن السؤالين الأولين ، وأثبت دلالة الآية على وجود الصادقين في كل زمان ، فلا يختص بزمان الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ودلالتها على ضرورة وجود المعصوم في كل زمان قال : «فكانت الآية دالة على أن من كان جائز الخطأ وجب كونه مقتديا بمن كان واجب العصمة.
ثم تعرض للجواب عن السؤال الثالث ، فقال : «قوله : لم لا يجوز أن يكون المراد هو كون المؤمن مع المعصوم الموجود في كل زمان؟ قلنا : نحن نعترف بأنه لا بد من معصوم في كل زمان ، إلا أنا نقول : ذلك المعصوم هو مجموع الأمة ، وأنتم تقولون : ذلك المعصوم واحد منهم».
فإلى هنا حصل الوفاق في دلالة الآية على وجود المعصوم في كل زمان.
إنما الخلاف هو : أن أهل السنة ـ كما قال ـ يقولون : «ذلك المعصوم
هو مجموع الأمة» والشيعة الإمامية يقولون : «ذلك المعصوم واحد منهم».
إلا أن هذا الخلاف إنما يقع عندما ينظر إلى الآية وحدها ، لكن القرآن الكريم نفسه يأمر في مثل هذه الحالات بالرجوع إلى السنة المعتبرة ويقول : (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (١) ويقول أيضا : (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول ...) (٢).
إذن ، لا بد من الرجوع إلى قول الرسول الصادق الأمين الذي (ما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى) (٣) ... وقد وجدنا أصحابه يروون عنه أن المراد من (الصادقين) في هذه الآية هو علي عليهالسلام ، أو هو والأئمة من أهل البيت.
فكانت السنة رافعة للخلاف ، ومعينة للقول بأن الإمام المعصوم هو «علي» والأئمة من العترة «في كل زمان» ...
أما القول الآخر فلا دليل عليه ، وإنما هو اجتهاد في مقابلة النص الصريح.
وقد حاول الفخر الرازي إبطال هذا الاستدلال بالاجتهاد كذلك ، فقال :
«هذا باطل ، لأنه تعالى أوجب على كل واحد من المؤمنين أن يكون مع الصادقين ، وإنما يمكنه ذلك لو كان عالما بأن ذلك الصادق من هو ، لا الجاهل بأنه من هو ، فلو كان مأمورا بالكون معه كان ذلك تكليف ما لا يطاق ، وإنه لا يجوز».
__________________
(١) سورة النساء ٤ : ٦٥.
(٢) سورة النساء ٤ : ٥٩.
(٣) سورة النجم ٥٣ : ٣ و ٤.