الشيخ محمّد بن الحسن بن الشّهيد الثّاني
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-173-7
ISBN الدورة:
الصفحات: ٥١٨
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا إلىٰ مناهج الشريعة الغرّاء ، وجعلها ذريعة إلىٰ نيل سعادَتَي الدنيا والاُخرىٰ ، والصلاة والسلام علىٰ محمد أكمل الأنبياء قدراً ، وعلىٰ آله الذين سَمَوا علىٰ العالم فضلاً وفخراً ، صلاة تكون لنا يوم القيامة شرفاً وذخراً .
[ وبعد ] (١) :
فإنّ أولىٰ ما رَتَعَتْ في رياض حدائقه الأفكار ، وأحقّ ما صرفت في اكتسابه آناء الليل والنهار ، هو العلم بالأحكام الشرعية بعد الإحاطة بما لا بدّ منه من الاُصول الدينية .
ولا ريب أنّ أساس قواعد الأحكام حديث أهل بيت النبوة عليهم أفضل السلام ، وقد ألّف جماعة من متقدّمي الأصحاب ـ شكر الله سعيهم ـ
__________________
(١) ما بين المعقوفين أضفناه لاقتضاء السياق .
في ذلك جملة من الكتب والاُصول ، باذلين وسعهم في إثبات كل مسموع ومنقول ، غير أنّ أهل البغي لمّا قصدوا إطفاء نور الصواب ذهب كثير من الكتب المؤلّفة فيما مضىٰ من الأحقاب ، وإن كان الله سبحانه متمّ نوره ولو كره المشركون ، فلا جرم بقي من ذلك مناهج يسلكها السالكون .
ولمّا كان كتاب الاستبصار في الجمع بين مختلف الأخبار من أجلّ كتب الحديث شأناً ، وأرفعها قدراً ومكاناً ، وأتمّها دليلاً وبرهاناً ، وكيف لا ؟! وهو من مؤلّفات شيخ الطائفة ، وعماد الإيمان ، المستغني بوضوح كماله عن البيان ، أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي قدّس الله روحه ونوّر ضريحه .
ثم إنّ الكتاب لا تخلو عباراته غالباً من الإجمال علىٰ وجه لا يتضح منها للطالب حقيقة الحال .
فأحببت أنْ أكتب عليه شرحاً يوضح منه المرام ، ويكشف عن وجه حقائقه نقاب الإبهام ، ذاكراً فيه ما استفدته من مشايخي الأجلّاء المعاصرين ، وإن كنت أَعُدُّ نفسي بالنسبة إلىٰ هذا المقصد من جملة القاصرين ، غير أنّ الميسور لا يسقط بالمعسور كما هو بين الناس معدود من المشهور ، وأنا أتوسل إلىٰ الله سبحانه أن يجعل أوقاتي مصروفة في موجبات ثوابه ، وأعمالي سالمة من التلبّس بأسباب عقابه ، وأنْ يوفّقني بمنّه لإتمام هذا الشرح علىٰ ما هو مقصودي ، ويجود عليّ بالجنة جزاء بذل مجهودي .
وقد رأيت أنْ أنظم ما أكتبه في سلك يقرّب المعاني إلىٰ الأفهام ، ويبعّد الغموض الذي قد يسبق منه الشك إلىٰ بعض الأوهام ، فابتدأت أوّلاً بالكلام في سند الأخبار ، ثم أتبعته بالقول في المتن موضحاً ما فيه من
الأسرار ، ثم ذكرت ما وقفت عليه من معاني الألفاظ اللغوية اعتماداً علىٰ أنّ للكتب المشهورة نوع مزية ، وكلّ ما لم اُشِر فيه إلىٰ أحد من العلماء الأعلام فهو ممّا سنح به فكري الفاتر في كلّ مقام ، فإن يكن صواباً فهو من توفيق ذي الجلال ، وإن يكن خطأً فالعذر تراكم الأهوال ، وعلىٰ الله سبحانه في جميع الاُمور الاتّكال .
ولنقدّم قبل الشروع كلاماً في فوائد الخطبة ، سوىٰ ما ذكرناه في حواشي تهذيب الأحكام ، فإنّ في ذلك كفاية لمن طلب تحقيق المرام .
وجملة ما يحتاج إلىٰ القول اثنتا عشرة فائدة :
الاُولىٰ : قال الشيخ ـ قدّس الله سرّه ـ : إنّ الأخبار علىٰ ضربين : متواتر وغير متواتر ، فالمتواتر منها ما أوجب العلم .
وقد اختلف العلماء ـ علىٰ ما يظهر من كلام جدّي قدسسره في الدراية (١) ـ في أنّ الخبر والحديث مترادفان أم لا ، ( وهذه عبارته علىٰ ما نقل عنه : ) (٢) يخص الحديث بما جاء عن المعصوم كالنبي صلىاللهعليهوآله والإمام عليهالسلام عندنا ، ويخص الخبر بما جاء عن غيره ، ومن ثَمّ قيل لمن يشتغل بالتواريخ وما شاكلها : الأخباري ، ومن يشتغل بالسنّة النبوية : المحدّث ؛ أو يجعل الحديث أعمّ من الخبر مطلقاً ، فيقال لكلّ خبر حديث من غير عكس ، وبكلّ واحد من هذه الترديدات قائل (٣) . انتهىٰ .
وربّما يظهر من بعض أنّ الفارق بينهما غير موجود (٤) . وفيه ما فيه .
__________________
(١) في « فض » زيادة : علىٰ ما نقل عنه .
(٢) بدل ما بين القوسين في « رض » : وهذا حاصل عبارته .
(٣) الدراية : ٦ ، بتفاوت .
(٤) انظر المعتمد في اُصول الفقه ٢ : ١٧٠ .
نعم لا يبعد ظهور الترادف .
أمّا ما قاله جدّي قدسسره ؛ من أنه يقال لمن يشتغل بالتواريخ ، إلىٰ آخره ؛ فلا يخفىٰ ما يتوجه عليه ، والأمر سهل .
وللعلماء اختلاف في تحديد الخبر وعدمه ، فقيل : ( لا يحدّ لعسره ) (١) كما في العلم .
وقيل : لأنّه ضروري (٢) .
وكونه ضرورياً لوجهين :
أحدهما : أنّ كل أحد يعرف أنّه موجود ، وهذا خبر خاص ، وإذا كان الخاص ضرورياً كان العام ضرورياً ؛ لأنّه جزؤه .
وردّ بأنّه مبنيّ علىٰ أنّ تصور هذا الخبر بكنهه ضروري ، وكون العام ـ أي مطلق الخبر ـ ذاتياً له لا عرضياً ؛ فالإثبات غير ظاهر .
وفي كلام بعض المحققين الجواب بما حاصله : أنّه لا يلزم من حصول أمر تصوره ؛ إذ لا يلزم من الحصول التصور ، وقد يتقدم التصور علىٰ الحصول فيتصور وهو غير حاصل ، وإذا تغايرا فالمعلوم ضرورة هو نسبة الوجود إليه إثباتاً ، وهو غير تصور النسبة التي هي ماهيّة الخبر .
قيل : ومراد المجيب بالنسبة التي هي ماهية الخبر النسبة مع المنتسبين ؛ لأنّ النسبة والإضافة قد تطلقان علىٰ مجرد النسبة وقد تطلقان عليها مع معروضها ، ويسمىٰ مضافاً غير حقيقي .
وقيل : إنّ حاصل ما ذكره أنّ الضروري هو العلم بحصول النسبة ،
__________________
(١) بدل ما بين القوسين في « فض » : لا يجد تفسيره .
(٢) كما في مبادئ الوصول للعلامة الحلي : ٢٠٠ ، وانظر الإحكام في اُصول الأحكام للآمدي ٢ : ٢٤٨ .
لا بتصورها .
واعترض علىٰ الجواب : بأنّ الكلام في الحصول ذهناً ، ومغايرة مفهوم الحصول والتصوّر فيه غير ظاهر .
فإن أراد بقوله : ـ لا يلزم من حصول أمرٍ تصوره ـ أنّ الحصول تصوّر الأمر ، فيصير المعنىٰ : لا يلزم من تصوّر أمر تصوّره ، وهو فاسد .
وإن أراد إذعان الأمر أي إذعان النسبة ، ويصير المعنىٰ : لا يلزم من إذعان النسبة تصوّرها ، فهو خلاف الواقع ؛ لأنّ كل مُذْعَنٍ متصوّر .
فقوله : المعلوم ضرورةً نسبة الوجود ، أي المتصوَّر ضرورةً والمذعَن ضرورةً نسبة الوجود .
فيه : أنّ المستدلّ لا يريد غيره ؛ لأنّ حاصل دليله أنّ تصوّر هذه النسبة الخاصة أو إذعانها ضروري ، فيكون تصوّر النسبة المطلقة أو إذعانها أيضاً ضرورياً ؛ لأنّ المطلق جزء المقيّد ، فقوله : ـ وهو غير تصوّر النسبة ـ مسلم عند المستدلّ ؛ إذ الجزء غير الكل ، فالمغايرة لا يضرّ إثباتها .
وما قاله القائل ـ في بيان الحاصل ـ قد يقال عليه : إنّ تصوّر حصول النسبة يستلزم تصور النسبة ؛ إذ تصوّر المضاف يستلزم تصوّر المضاف إليه ، فإن أراد بالعلم تصوّر حصول النسبة فهو يفيد المدّعىٰ ، وإن أراد الإذعان ـ أي إذعان حصول النسبة ـ فهو أيضاً يستلزم تصور النسبة .
وثانيهما : أنّ كل أحد يعلم أنّ الخبر يحسن في موضع ولا يحسن في آخر ، حتىٰ أنّه يوقعه تارة ولا يوقعه اُخرىٰ ، وذلك يستلزم العلم بحقيقة الخبر ضرورة .
واُجيب عنه : بأنّه يكفي في الحكم المذكور تصوّر الخبر بوجه ، ولا يستلزم ذلك بداهته بالكُنه ، حتىٰ يستلزم بداهة الخبر المطلق بالكُنه .
ثمّ النافون للضرورة في الخبر ، واحتياجه (١) إلىٰ التعريف اختلفوا :
فقيل : إنّه الكلام المحتمل للصدق والكذب (٢) .
وأراد باحتمالهما بالنظر إلىٰ نفس مفهوم الخبر ، وفي هذا التعريف شبهات .
وعرّفه المحقق في كتاب الاُصول : بأنّه كلام يفيد بنفسه نسبة أمرٍ إلىٰ أمرٍ نفياً أو إثباتاً (٣) .
إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ الخبر [ إمّا ] (٤) أن يكون متواتراً ، وهو خبر جماعة يفيد العلم بنفسه ـ كما عرّفه بعض (٥) ـ وقيد « بنفسه » لإخراج خبر جماعة علم صدقهم بالقرائن الزائدة عما لا ينفكّ الخبر عنه عادة .
واورد علىٰ التعريف لزوم الدور .
وفي شرح الدراية : أنّه ما بلغت رواته في الكثرة مبلغاً أحالت العادة تواطؤهم علىٰ الكذب ، واستمرّ ذلك الوصف في جميع الطبقات حيث تتعدد ، بأن يرويه قوم عن قوم وهكذا إلىٰ الأوّل ، فيكون أوّله في هذا الوصف كآخره ، ووسطه كطرفيه (٦) .
والظاهر أنّه ليس بتعريف كما هو واضح .
وإفادة التواتر العلم لم ينكره غير السمنية والبراهمة (٧) ، وشُبهُهم
__________________
(١) أي القائلون باحتياجه .
(٢) الذريعة إلىٰ اُصول الشريعة ٢ : ٢ .
(٣) معارج الاُصول : ١٣٧ .
(٤) ما بين المعقوفين في النسخ : إنّما ، غيّرناه لاستقامة المعنىٰ .
(٥) انظر معالم الاُصول : ١٨٣ . زبدة الاُصول : ٥٥ .
(٦) الدراية : ١٢ .
(٧)
السمنية : فرقة تعبد الأصنام وتقول بالتناسخ وتنكر حصول العلم بالأخبار ، قيل :
=
مردودة في محالّها .
وخبر الآحاد ما سواه كما سيأتي بيانه .
وقد أورد بعض الأفاضل علىٰ قول المصنِّف ـ فالمتواتر منها ما أوجب العلم ـ أنّه يُنقض بخبر المعصوم ، والخبر المحتفّ بالقرائن ، قال : ولعلّ مراده من المتواتر ما أوجب العلم مطلقاً ، متواتراً بالمعنىٰ المصطلح عليه وغيره (١) .
واعترض شيخنا قدسسره : بأنّه لا يخفىٰ أنّ ما أوجب العلم من الأخبار أعم من المتواتر ؛ فإنّ خبر الواحد المحفوف بالقرائن يفيد العلم أيضاً ، إلّا أنّ وقوع هذا القسم في أخبارنا نادر (٢) .
أقول : ويمكن دفع جميع ذلك عن الشيخ :
أمّا الأوّل : فلأنّ الظاهر من قوله : ما أوجب العلم ، من حيث كونه خبراً ، وقول المعصوم إنّما أفاد من حيث العصمة .
فإن قلت : المتواتر [ أيضاً ] (٣) أفاد العلم من حيث التواتر ، فالإشكال باق .
قلت : المتواتر قد صار القيد والمقيّد فيه بمنزلة الشيء الواحد ، نظراً [ إلى ] (٤) أنّه في مقابلة قسيمه وهو خبر الواحد ، فليتأمّل .
وأمّا الثاني : ـ وهو اعتراض شيخنا قدسسره ـ فالجواب عنه كالأوّل .
ويزيد فيه : أنّ إفادة العلم محتملة لأن تكون من القرائن ، أو من
__________________
= نسبة إلىٰ سومنات ـ بلدة من الهند علىٰ غير قياس ـ المصباح المنير : ٢٩٠ ( سمن ) ، والبراهمة : قوم لا يجوّزون علىٰ الله بعثة الرسل ـ مجمع البحرين ٦ : ١٧ ( برهم ) .
(١) لم نعثر عليه .
(٢) لم نعثر عليه .
(٣) ما بين المعقوفين اضفناه لاقتضاء السياق .
(٤) ما بين المعقوفين اضفناه لاقتضاء السياق .
الخبر بواسطة القرائن علىٰ وجه الخروج عنه ، أو منهما علىٰ سبيل الجزئية ، وفيما عدا الأوّل لا يصدق إفادة الخبر العلم ، بل وفي الجميع أيضاً بنوع من النظر ، وهذا بخلاف المتواتر ؛ لما أسلفناه ، والأمر في هذا سهل .
أمّا ما قاله الشيخ رحمهالله من أنّ ما يجري هذا المجرىٰ لا يقع فيه التعارض ولا التضاد في أخبار النبي صلىاللهعليهوآله والأئمّة عليهمالسلام .
فأقول : إن فيه نظراً ؛ لأنّ تواتر الحديث عن الأئمّة عليهمالسلام لا يمنع وقوع التعارض بعد تجويز التقية عندنا ، كما في غيره من الأخبار التي يجمع الشيخ بينها .
نعم في أخبار النبي صلىاللهعليهوآله لا يقع التضاد ، كما هو واضح .
الثانية : قال الشيخ ـ رحمهالله ـ : وما ليس بمتواتر علىٰ ضربين ، فضرب منه يوجب العلم [ أيضاً ] (١) وهو كل خبر تقترن إليه قرينة توجب العلم ، وما يجري هذا المجرىٰ يجب أيضاً العمل به ، وهو لاحق بالقسم الأوّل .
وقد تقدّم منّا الكلام في احتمال إفادة العلم من الخبر أو القرينة أو هما ، وكلام الشيخ يعطي بظاهره أنّ القرينة توجب العلم ؛ وفيه ما فيه .
أمّا ما قاله رحمهالله من أنّ ما يجري هذا المجرىٰ يجب العمل به ، إلىٰ آخره .
فقد يتوجه عليه : أنّ إطلاق وجوب العمل مع عدم الفحص عن المعارض ، وبتقدير وجوده وكونه متساوياً له مشكل ، بل لا بدّ من وجه الجمع ، وإطلاق إلحاقه بالقسم الأوّل كذلك ، وقد ذكر المحققون (٢) : أنّ
__________________
(١) اثبتناه من الاستبصار ١ : ٣ .
(٢) انظر العدة ١ : ١٢٦ ، المعارج : ١٤١ ، تمهيد القواعد : ٢٤٨ ، المعالم : ١٨٦ .
الخبر المحفوف بالقرائن يفيد العلم ، لكن لا مطلقاً ، بل بالقرائن التامة التي لا يحتمل الغلط والخلاف فيها عادة .
وما اعترض علىٰ ذلك من أنّ العلم إنّما حصل من القرائن كالعلم بخجَلِ الخجِل ووجَلِ الوجِل وأمثال ذلك (١) .
قيل : يدفعه أنّ [ العلم ] (٢) حصل من نفس الخبر بالوجدان لكن بضمّ هذه القرائن (٣) . وفيه نوع تأمّل ؛ لأنَّ باب الاحتمال واسع ، ودعوىٰ الوجدان غير مسلّمة ، إلّا أنّ ثمرة هذا هيّنة .
الثالثة : قال الشيخ ـ رحمهالله ـ : والقرائن أشياء كثيرة ، منها : أن يكون مطابقاً لأدلّة العقل ومقتضاه .
ولا يخفىٰ أنّ مطابقة الخبر لأدلّة العقل فيها نوع إجمال ؛ لأنّ دليل العقل علىٰ ما ذكره الشهيد في الذكرىٰ أقسام :
منها : ما لا يتوقف علىٰ الخطاب ، كردّ الوديعة وقضاء الدين ، ومنها البراءة الأصلية ، ومنها الأخذ بالأقل عند فقد الدليل علىٰ الأكثر ، ومنها أصالة بقاء ما كان وهو الاستصحاب .
ومنها : ما يتوقف العقل فيه علىٰ الخطاب ، كمقدمة الواجب المطلق ، واستلزام الأمر بالشيء النهي عن ضده ، وفحوىٰ الخطاب وهو مفهوم الموافقة ، ولحن الخطاب وهو ما استفيد من المعنىٰ ضرورة ، مثل قوله تعالىٰ : ( اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ ) (٤) أي فضرب فانفلق ، ودليل
__________________
(١) الإحكام في اُصول الأحكام للآمدي ١ : ٢٧٨ .
(٢) في النسخ : الحكم ، والظاهر ما أثبتناه .
(٣) انظر المعتمد في اُصول الفقه ٢ : ٩٤ .
(٤) سورة الشعراء : ٦٣ .
الخطاب وهو المسمّىٰ بالمفهوم (١) .
وإذا عرفت هذا ، فالمصنف إن أراد جميع ما ذكر لا يتم ؛ لذكر بعضها فيما بعد ولا يبعد أنّ يكون مراده بالأدلة غير ما يذكره من المفهوم ، أو يريد أدلّة العقل الغير المتوقفة علىٰ الخطاب .
ولا يظنّ أنّ المتوقف علىٰ الخطاب كيف يؤيّد الخبر ؛ لوضوح دفعه .
نعم ربما يستبعد بعض ما ذكره الشهيد ـ رحمهالله ـ كما يعرف بأدنىٰ ملاحظة .
وما أورده شيخنا ـ قدسسره ـ من أنّ اقتران هذه القرائن أو بعضها لا يوجب العلم ولا ممّا يجب العمل به ؛ إذ من الجائز كونه غير مطابق للواقع وإن اقترن بها ، نعم لمّا كان كل من هذه القرائن دليلاً شرعياً وجب العمل به ، سواء انضاف إليه ذلك الخبر أم لا .
أقول : فيه نظر ، أمّا أوّلاً : فلأنّ بعضَ المذكورات الخبرُ المطابق للسنّة المقطوع بها والإجماع ، ولا ينكر حينئذ إفادة الخبر [ العلم ] (٢) مع الانضمام إليهما ووجوب العمل به .
واحتمال أن يقال : إنّ وجوب العمل ليس بالخبر ، بل بالسنّة المقطوع بها والإجماع ، والانضمام ليس بمفيد حكماً .
له وجه ، إلّا أنّ العبارة لا تدلّ عليه .
وأمّا ثانياً : فلأنّ احتمال عدم مطابقة الخبر للواقع مع موافقته للسنّة المقطوع بها أو الإجماع الحقيقي ، لا وجه له ؛ فإنّه يقتضي عدم القطع في السنّة والإجماع ، وهذا لا ينكر .
__________________
(١) الذكرىٰ ١ : ٥٢ .
(٢) ما بين المعقوفين أضفناه لاستقامة المعنىٰ .
وأمّا ثالثاً : فلأنّ الظاهر أنّ مراد الشيخ بهذا العلم هو الظنّ الراجح ؛ لأنّ العلم الحقيقي المطابق لما في نفس الأمر مشكل الحصول ، من حيث إنّ المطابقة في المحسوس تظهر في الحس ، أمّا في المعقولات فليست المطابقة إلّا باعتقاد المطابقة ، واعتقاد المطابقة لا بدّ وأن يكون مطابقاً وهكذا ، فيلزم التسلسل أو الدور ، غاية الأمر أنّه يمكن تكلّف الجواب ، إلّا أنّ [ عدم ] (١) الدخول في باب المضائقة (٢) مع إمكان الخروج بإرادة العلم الذي ذكرناه أولىٰ .
وما يقال : إنّ العلم الشرعي يحصل من الخبر بدون القرائن ، فأيّ حاجة إليها ؟ .
جوابه : أنّ كلامنا في مرتبة أعلىٰ من هذا ، وهو الظنّ الراجح ، وإن ذهب بعض من الاُصوليين إلىٰ أنّ خبر الواحد مطلقاً يفيد العلم (٣) ؛ إلّا أنّه إن أراد العلم الشرعي فلا نزاع معه ؛ وغيره محل الكلام ، بل لا وجه له .
وبالجملة : فالاحتمال في كلام الشيخ ممكن لولا قوله في أوّل الكلام : وهذا لاحق بالقسم الأوّل ـ يعني المتواتر ـ فإنّ الظاهر منه أنّه علىٰ نهجه .
وفيه : أنّه يجوز إرادة الإلحاق في وجوب العمل ، وأنت خبير بإمكان ردّ هذا من حيث إنه قائل فيما بعد : إنّ الخبر العاري عن القرائن والمعارض يجب العمل به ، فيتحد مع هذا .
وقد يقال بالفرق بين الخبرين ، من حيث إنّ الخبر المحفوف بالقرائن
__________________
(١) ما بين المعقوفين أضفناه لاستقامة المعنىٰ .
(٢) في « رض » : المطابقة .
(٣) حكاه الشيخ في العدّة عن قوم من أهل الظاهر ، ١ : ٩٧ ، والمحقق الحلّي في معارج الاُصول : ١٤٠ .
يعمل به من غير شرط ، بخلاف غيره ؛ لما سيأتي من الشروط ، فينبغي تأمّل هذا كلّه .
وأمّا رابعاً : فقوله قدسسره : نعم لمّا كان كل من هذه القرائن دليلاً شرعياً ، إلىٰ آخره .
يريد به وجوب العمل بالقرائن ؛ لكونها أدلّة في نفسها كما تقتضيه العبارة ، وغير خفيّ أنّ هذا لا يأبىٰ أن يكون الخبر معها دليلاً أيضاً باعتبار أنّها أفادته العلم ، إمّا بمعناه المتعارف ، أو الظنّ الراجح .
والوجه في جواز كونه دليلاً أنّ القرائن المذكورة وإن كانت أدلّة أيضاً يستغنىٰ بها ، إلّا أنّ المستدلّ لو أخذ الخبر دليلاً لا يكون فاعلاً لغير الجائز ، والمغايرة بالاعتبار كافية .
ولعلّ الجواب عن هذا غير خفي .
الرابعة : قال الشيخ : ومنها أن يكون مطابقاً لظاهر القرآن ، إمّا لظاهره ، أو عمومه ، أو دليل خطابه ، أو فحواه .
وهذا الكلام منه ـ قدسسره ـ يحتاج إلىٰ مزيد بيان يندفع به عنه عدّة إشكالات . .
فاعلم أنّ المذكور في كلام جماعة من الاُصوليين : أنّ القرآن ظنّي الدلالة وإن كان قطعي الأصل ، بخلاف الخبر (١) .
وهذا وإن كان في نظري القاصر لا يخلو من تأمّل ؛ من حيث إنّ الخبر لا يخلو من موجبات عدم القطع إلّا نادراً ، ونقل الوالد ـ قدسسره ـ عن بعض الاُصوليين بأنّ ظاهر القرآن قطعي نظراً إلىٰ مقدمة خارجية ـ وهي امتناع أن يخاطب الله بشيء ويريد خلاف ظاهره (٢) ـ وفي هذا كلام حرّرته
__________________
(١) منهم الحسن بن الشهيد الثاني في معالم الاُصول : ١٩٢ .
(٢) معالم الاُصول : ١٩٣ ، وهو في فواتح الرحموت ( المستصفىٰ ١ ) : ٣٤٩ .
في محل آخر من الاُصول ، ولا يبعد أن يكون الشيخ ـ رحمهالله ـ ناظراً إلىٰ هذا القول ، أمّا علىٰ تقدير ظنّية الدلالة فإفادته حصول العلم بالخبر بعيدة .
إلّا أنّه يقال نحو ذلك في أدلّة العقل ، فإنّ بعضها لا يفيد القطع ، والجواب الجواب .
ولعلّ الأولىٰ أن يراد من العلم الظنّ الراجح ، ولا ريب أن انضمام الظنّ الحاصل من القرآن إلىٰ الظنّ الحاصل من الخبر يفيد الرجحان ، وهذا أحد الإشكالات ، وقد علمت الجواب عنه .
ومنها : أنّه جعل عموم القرآن قسيماً لظاهره .
وغير خفيّ بُعده عن المعروف .
وقد يقال : إنّ مراد الشيخ بالظاهر غير المحتمل ، والعموم لمّا كان قابلاً للتخصيص فإنْ ظنّ عدم خصوصه يبعد عن الظهور علىٰ وجه يصير قسيماً له .
وهذا لا يخلو من تكلّف ، إلّا أنّ باب التوجيه واسع .
ومنها : أنّه جعل دليل الخطاب والفحوىٰ قسمين .
والحال ( فيهما ) (١) غير خفي .
ثم إنّ دلالة الفحوىٰ ودليل الخطاب لا مجال لدعوىٰ القطع فيها إلّا بسلوك مناهج من التكلّف ، والظنّ الحاصل منها لا ريب أنّ القوة الحاصلة به للخبر ليست كقوة الظاهر ، وكأنّ الشيخ ـ رحمهالله ـ لا يعتبر في رجحان الظنّ ـ علىٰ تقدير إرادته ـ أقوىٰ مراتبه ، بل الأعم ، ويندفع به حينئذ بعض الإشكال مع نوع تأمّل في المقام .
الخامسة : قال الشيخ : ومنها أن يكون مطابقاً للسنّة المقطوع بها
__________________
(١) ما بين القوسين ليس في « رض » ، وفي « فض » : عنهما .
إمّا صريحاً أو دليلاً أو فحوىً أو عموماً .
وهذا الكلام منه ؛ من جهة ذكر الصريح قسيم الدليل ، والفحوىٰ قسيم العموم ؛ لا نعلم وجهه (١) .
أمّا من جهة ذكر السنّة المقطوع بها ثم ذكر الفحوىٰ والعموم ، فقد يتوجه عليه في نظري القاصر : أنّ السنّة المقطوع بها إنما يتحقق القطع في لفظها أو معنىٰ اللفظ ، أمّا الفحوىٰ فدخولها في القطع محل خفاء ، بل ربما يظنّ أنه عَسِر التحقق ، وأمّا العموم فتحقق لفظه بالقطع ممكن ، أمّا تحقق معناه بالقطع فله نوع وجه ، وإن كان نادراً ، من حيث وإنّ التنصيص علىٰ العموم وإنّه غير مخصوص ليكون عمومه (٢) قطعيّاً لم نره الآن ، وإن كان لا يضر بالحال .
وبهذا قد يتوجه علىٰ الشيخ إشكال ، ويتضح جوابه بما أسلفناه من جهة إرادة الظنّ الراجح ، فتأمّل .
السادسة : قال الشيخ : ومنها : أن يكون مطابقا لما أجمعت عليه الفرقة المحقّة ، فإنّ جميع هذه القرائن تُخرج الخبر من حيّز الإجمال (٣) ، وتدخله في باب المعلوم وتوجب العمل به .
وكأنّ مراده بوجوب العمل ثبوت العمل ، فإنّ الوجوب غير ظاهر ، وإن أوهم بعض أدلّة أهل الاُصول وجوب العمل ؛ إلّا أنّا قد تكلّمنا في ذلك في محله ، وأظنّ الأمر لا يحتاج إلىٰ زيادة البيان .
ثم (٤) ينبغي أن يعلم أن المحقق في المعتبر ذكر من جملة القرائن غير
__________________
(١) في « رض » : إلّا لما سبق نقله من تقسيم الشهيد في الذكرىٰ ، راجع ص ١٣ .
(٢) في « رض » : العموم .
(٣) في الاستبصار ١ : ٤ : الآحاد .
(٤) في « فض » و« رض » : نعم .
ما ذكره المصنف من إجماع الفرقة المحقّة ـ علىٰ ما يفهم من ظاهر كلامه ـ فإنّه قال في أوّل الكتاب :
أفرط الحشوية في العمل بخبر الواحد حتىٰ انقادوا إلىٰ كل خبر ، وما فطنوا لما تحته من التناقض ، فإنّ من جملة الأخبار قول النبي صلىاللهعليهوآله : « ستكثر بعدي القالة عليّ » (١) ، وقول الصادق عليهالسلام : « إنّ لكل رجل منّا رجلاً يكذب عليه » (٢) .
واقتصر بعض عن هذا الإفراط ، فقال : كل سليم السند يعمل به ، وما علم أنّ الكاذب قد يصدق (٣) ، والفاسق قد يصدق ، ولم يتنبّه أنّ ذلك طعنٌ في علماء الشيعة وقدحٌ في المذهب ؛ إذ لا مصنف إلّا وهو [ قد ] (٤) يعمل بخبر المجروح كما يعمل ( بخبر العدل ) (٥) .
وأفرط آخرون في ردّ الخبر حتىٰ أحال استعماله عقلاً ونقلاً .
واقتصر آخرون فلم يروا العقل مانعاً ، لكن الشرع لم يأذن في العمل به .
وكل هذه الأقوال منحرفة عن السنن ، والتوسط أقرب (٦) ، فما قبله الأصحاب أو دلّت القرائن علىٰ صحته عمل به ، وما أعرض عنه الأصحاب أو شذّ يجب إطراحه (٧) . انتهىٰ المراد من كلامه .
__________________
(١) لم نعثر علىٰ نصّه ، ولكن مضمونه موجود في : الكافي ١ : ٦٢ / ١ ، الاحتجاج ٢ : ٤٤٧ ، بحار الأنوار ٢ : ٢٢٥ / ٢ .
(٢) لم نعثر علىٰ نصّه ، ولكن مضمونه موجود في : رجال الكشي ٢ : ٥٩٣ / ٥٤٩ ، بحار الأنوار ٢٥ : ٢٨٧ / ٤٢ .
(٣) في المعتبر : يلصق .
(٤) ما بين المعقوفين اثبتناه من المصدر .
(٥) في المعتبر : بخبر الواحد المعدل .
(٦) في المعتبر : أصوب .
(٧) المعتبر ١ : ٢٩ .
وأقول : إنّ الوجه المطلوب منه هو أنّ قبول الأصحاب يقتضي العمل بخبر الواحد ، لكن لمّا جعله قسيماً للقرائن علم أنّه ليس من جملتها .
فإن اُريد الأصحاب جميعهم كان إجماعاً ، والشيخ هنا عدّ الإجماع من جملة القرائن ، والأمر سهل .
وإن كان مراد المحقق الشهرة بين الأصحاب لا الإجماع ـ كما هو الظاهر ـ لا من حيث إنّ الإجماع إذا تحقق لا حاجة إلىٰ الخبر ، لإمكان التسديد بما تقدم القول فيه ، بل لأنّ قبول الأصحاب جميعهم للخبر يخرج عن محل النزاع ، فإنّ محل النزاع خبر الواحد المختلف فيه بين العلماء .
فإن قلت : إذا وافق الخبر الإجماع ليس هو من قسم الخبر المجمع عليه ، فكيف يذكر أوّلاً ما يدل علىٰ ذلك ؟!
قلت : لما ذكرت وجه ، إلّا أنّ الحكم في العمل لا يختلف ، وإن تغاير في الاعتبار .
ثم إنّ كلام المحقق (١) إذا حمل علىٰ موافقة بعض العلماء ؛ علىٰ أن يكونوا أكثر ، ليفيد الظنّ الراجح بصحة الخبر ؛ أمكن ، لكن ينبغي أن يقيّد بمن قبل الشيخ ، فإنّ مَنْ بعد الشيخ لا تثمر شهرتهم (٢) نفعاً ، كما يعلمه من وقف علىٰ كلام جدي ـ قدسسره ـ في شرح البداية (٣) .
وما قاله من القرائن وإنّ أجمله في المقام ، إلّا أنّه في رسالة الاُصول ذكر أنّ القرائن أربع ، أحدها : الموافقة لدليل العقل ، وثانيها : الموافقة لنص الكتاب خصوصه أو عمومه أو فحواه ، وثالثها : الموافقة للسنّة المقطوع بها
__________________
(١) المتقدم في ص ١٩ .
(٢) في « فض » زيادة : بهم .
(٣) الدراية : ٢٧ .