الشيخ محمّد بن الحسن بن الشّهيد الثّاني
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-173-7
ISBN الدورة:
الصفحات: ٥١٨
المتقدمين حكم بصحته منه من حيث هو ، وما بعده تتوقّف صحته علىٰ موجبها ، فقولهم : علىٰ تصحيح ما يصح عنه ، يراد به أنّ الشرائط إذا اجتمعت في الرواة إليه فالرجل ثقة قد انعقد عليه الإجماع ، فلا حاجة إلىٰ تحصيل قرائن علىٰ كونه مقبول الرواية .
فإن قلت : الرواية إذا اشتملت علىٰ الرجل المجمع عليه ، فالقرائن علىٰ صحتها إن كانت من خارج ، فلا فرق بين كون الرجل مجمعاً عليه أم لا ؛ إذ الاعتبار صحة (١) المتن ، وإن كانت القرائن من نفس الرواية فالحكم بالصحة موقوف علىٰ أنّ جميع الرواة قد اُجمع عليهم ، والبعض لا يفيد ، وحينئذ فالثمرة غير ظاهرة .
قلت : بل الفائدة ( من نفس الراوي ) (٢) إذا كانت الرواية بطرق متعددة لكنها تنتهي إليه ، فإذا أفادت الكثرة الصحة إليه ، وكان ممّن أجمع علىٰ تصحيح ما يصح عنه كفىٰ في صحة الرواية ، وكثيراً ما يقول الشيخ في الكتابين : إنّ الرواية وإن كثرت في الكتب بأسانيد ، إلّا أنّها تنتهي إلىٰ الرجل الواحد . فيردّها بهذا السبب .
وهذا يؤيّد ما ذكرناه ، غاية الأمر أنّه يبقىٰ ما بعد الرجل إذا كان ضعيفاً أو مجهولاً فقد يظنّ أنّ الصحة ( إليه علىٰ الوجه المذكور كافية في صحة الخبر .
وفيه : أنّ الصحة ) (٣) يراد بها بالنسبة إليه ، بمعنىٰ أنّ روايته وحده تقوم مقام التعدد في غيره ، فيحتاج ما بعده إلىٰ القرائن .
__________________
(١) كذا في النسخ . والأولىٰ : بصحّة .
(٢) في « رض » : من نفس خبر الراوي .
(٣) ما بين القوسين ساقط من « د » .
وممّا يؤيّد ما ذكرناه قول أصحاب الرجال : فلانٌ ثقة صحيح الحديث ؛ فإنّ الظاهر من صحيح الحديث ـ الزائد علىٰ التوثيق ـ أنّ المراد به بيان عدم الاكتفاء بكون الرجل ثقة في العمل بالخبر .
فإن قلت : الفرق بين صحيح الحديث وبين من اُجمع علىٰ تصحيح ما يصح عنه واضح ؛ لأنّ صحيح الحديث لا يزيد علىٰ التوثيق بالواحد بخلاف الإجماع علىٰ تصحيح ما يصح عن الرجل .
قلت : الغرض ممّا ذكرناه بيان الجمع بين التوثيق ولفظ صحيح الحديث ، وما ذكرت من الفرق إنّما يتمّ لو كان الإجماع متحققاً ، علىٰ معنىٰ حصول الإجماع الحقيقي وثبوته ، أمّا المنقول فهو خبر في المعنىٰ ، وحينئذ لا يتفاوت الحال بين صحيح الحديث والإجماع علىٰ تصحيح ما يصح عن الرجل .
وبالجملة فالمقصود أنّ الظاهر إرادة بيان القرائن العاضدة (١) للأخبار المقتضية للعمل ، فينبغي التأمّل في هذا كله .
ولعلّ قائلاً يقول : إنّ كلام الشيخ لا يضرّ بالحال ؛ لاحتمال عدم ظنّه لما فهمه البعض . وفيه ما لا يخفىٰ .
أقول : وممّا يؤيّد ما ذكرته أنّ محمد بن أبي عمير من جملة من أجمع الأصحاب علىٰ تصحيح ما يصح عنه (٢) ، والكلام في مراسيله كثير ، من أنّه لا يروي إلّا عن ثقة ، والمناقشة بعدم العلم بهذا ، ونحو ذلك ـ كما سيأتي إنّ شاء الله فيه القول ـ (٣) فلو كان المراد بالإجماع علىٰ تصحيح ما يصح عن الرجل ما قاله القائل ، لا حاجة إلىٰ التوقّف في مراسيل ابن أبي عمير ، كما
__________________
(١) في « د » : العامّة .
(٢) رجال الكشي ٢ : ٨٣٠ .
(٣) في ص ١٠٢ ـ ١٠٣ .
لا حاجة إلىٰ قولنا : إنّه لا يروي إلّا عن ثقة ، فإنّه لو روىٰ عن ضعيف لا يضرّ بالحال .
وقد ردّ الشيخ ـ رحمهالله ـ رواية رواها ابن أبي عمير عن بعض أصحابه في آخر باب العتق بالإرسال (١) والشيخ ـ رحمهالله ـ أعلم بالحال .
فالعجب من دعوىٰ بعض الأصحاب أنّ مراسيل ابن أبي عمير مقبولة عند الأصحاب مطلقاً (٢) ، فينبغي التأمّل في ذلك كله .
المتن :
لا يخفىٰ أنّه دالّ علىٰ أنّ الكرّ نحو حُبّه عليهالسلام ، والمخالفة إنّما تتحقق بعد ذكر الأخبار الدالّة علىٰ الكرّ مفصّلاً ، فإذا ذكرت الأخبار وعلم اختيار مقدار منها فلا بدّ من حمل هذا الخبر علىٰ وجه لا ينافيها ، ولا ريب أنّ المتعارف من الحُبّ بعيد عن سعة الكرّ ، ولعلّ ذلك الزمان يغاير هذا الزمان .
ولولا ما يأتي ؛ من دلالة معتبر الأخبار علىٰ أنّ مقدار الكرّ أزيد من ذلك ؛ لأمكن الاستدلال بهذا الخبر عند العامل به علىٰ أنّ الكرّ ما دون ذلك ، إلّا أنّ الحقّ كون هذا الخبر لا يخرج عن حيّز الإجمال ، فلا جرم كان ترك القول فيه بغير ما قاله الشيخ أولىٰ .
قوله ـ رحمهالله ـ :
فأمّا ما رواه محمد بن علي بن محبوب ، عن العباس ، عن عبد الله ابن المغيرة ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : « إذا كان
__________________
(١) الاستبصار ٤ : ٢٧ .
(٢) انظر العدة ١ : ١٥٤ ، والذكرىٰ ١ : ٤٩ .
الماء قدر قُلَّتين لم ينجّسه شيء ، والقُلَّتان جَرَّتان » .
فأوّل ما في هذا الخبر أنّه مرسل ، ويحتمل أن يكون أيضاً ورد مورد التقيّة ؛ لأنّه مذهب كثير من العامة ، ويحتمل ـ مع تسليمه ـ أن يكون الوجه فيه ما ذكرناه في الخبر المتقدم ، وهو أن يكون مقدار القلّتين مقدار الكرّ (١) ؛ لأنّ القلّة هي الجرّة الكبيرة في اللغة ، وعلىٰ هذا لا تَنافيَ بين الأخبار .
السند :
طريق المصنف إلىٰ محمد بن علي بن محبوب : عن الحسين بن عبيد الله ، عن أحمد بن محمد بن يحيىٰ العطار ، عن أبيه محمد بن يحيىٰ ، عن محمد بن علي بن محبوب (٢) .
وقد تقدّم الكلام في أحمد بن محمد بن يحيىٰ (٣) .
وأما الحسين بن عبيد الله ؛ فقد قال النجاشي : إنّه شيخه (٤) .
وقال العلّامة : إنّه شيخ الطائفة ، سمع الشيخ الطوسي منه ، وأجاز له جميع رواياته (٥) .
وقال الشيخ ـ رحمهالله ـ في من لم يرو عن الأئمّة عليهمالسلام : الحسين بن عبيد الله الغضائري يُكنّىٰ أبا عبد الله ، كثير السماع ، عارف بالرجال ، وله تصانيف ذكرناها في الفهرست ، وسمعنا منه ، وأجاز لنا رواياته (٦) .
__________________
(١) في الاستبصار ١ : ٧ / ٦ زيادة : لأنّ ذلك ليس بمنكر .
(٢) الاستبصار ٤ : ٣٢٤ .
(٣) في ص ٤٠ ـ ٤١ .
(٤) رجال النجاشي : ٦٩ / ١٦٦ .
(٥) خلاصة العلّامة : ٥٠ / ١١ .
(٦) رجال الطوسي : ٤٧٠ / ٥٢ .
ولم نقف في نسخ الفهرست علىٰ ذكره .
ولا يخفىٰ جلالة الرجل ، وعدم التوثيق إنّما هو لأنّ عادة المصنّفين عدم توثيق الشيوخ .
وفي الفهرست ما يقتضي عدم الارتياب (١) علىٰ تقديره ؛ لأنّه روىٰ جميع كتب محمد بن علي بن محبوب ورواياته بطرق منها ما هو واضح الصحة (٢) .
وأمّا العباس فالظاهر أنّه ابن عامر ، أو ابن معروف ، وهما ثقتان ، واحتمال غيرهما ممّا هو غير موثق لا وجه له ، بل الوالد ـ قدسسره ـ كان لا يرتاب في أنّه ابن معروف (٣) .
المتن :
ظاهره علىٰ الإجمال ، وقبول البيان غير ممتنع .
أمّا ردّه بالإرسال كما فعل الشيخ أوّلاً ، فقد يقال عليه : إنّ الذي تقدم منه في أوّل الكتاب أنّه يجري علىٰ عادته في التهذيب ، وعادته فيه أنّ الحديث متىٰ أمكن تأويله لا يقدح في اسناده ، وإمكان التأويل هنا ـ فضلاً عن وقوعه ـ أوضح الأشياء .
ثم ما ذكره من الإرسال قد قدمنا فيه القول (٤) .
والحمل علىٰ التقية لا ريب أنّه أقرب المحامل ، فإنّ القُلّتين هي المدار عندهم ، فذكرها في أخبارنا أوضح قرينة .
__________________
(١) في « فض » : الإرسال .
(٢) الفهرست : ١٤٥ / ٦١٣ .
(٣) منتقىٰ الجمان ١ : ٣٥ .
(٤) راجع ص ٦٠ .
قوله ـ رحمهالله ـ :
وأمّا ما رواه محمد بن علي بن محبوب ، عن محمد بن الحسين ، عن علي بن حديد ، عن حماد بن عيسىٰ ، عن حريز ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليهالسلام قال : قلت له : راوية من ماء سقطت فيها فأرة أو جرذ أو صعوة (١) ميتة ، قال : « إذا تفسّخ فيها فلا تشرب من مائها ، ولا تتوضّأ منها ، وإن كان غير متفسّخ فاشرب منه ، وتوضّأ ، واطرح الميتة إذا أخرجتها طرية ، وكذلك الجَرّة ، وحُبّ الماء ، والقِرْبة ، وأشباه ذلك من أوعية الماء » قال : وقال أبو جعفر عليهالسلام : « إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجّسه شيء ؛ تفسّخ فيه أو لم يتفسّخ ؛ إلّا أن يجيء له ريح يغلب علىٰ ريح الماء » .
فهذا الخبر يمكن أن يحمل قوله : « راوية من ماء » ، إذا كان مقدارها كرّاً ، فإذا كان كذلك لا ينجّسه شيء ممّا يقع فيه ، ويكون قوله : « إذا تفسّخ فيها فلا تشرب ، ولا تتوضّأ » محمولاً علىٰ أنّه إذا تغيّر أحد أوصاف الماء ، وكذلك القول في الجَرّة وحُبّ الماء والقِربة .
وليس لأحد أن يقول : إنّ الجَرّة والحُبّ والقِربة والراوية لا يسع شيء من ذلك كرّاً من الماء .
لأنّه ليس في الخبر أنّ جَرّة واحدة ذلك حكمها بل ذكرها بالألف واللام ، وذلك يدل علىٰ العموم عند كثير من أهل اللغة ، وإذا احتمل ذلك لم يناف ما قدّمناه من الأخبار .
__________________
(١) صعوة : هي اسم طائر من صغار العصافير ، أحمر الرأس ، والجمع : صعو وصِعاء كدَلْو ودِلاء ـ مجمع البحرين ١ : ٢٦٢ ( صعا ) .
السند :
قد تقدم طريق المصنف إلىٰ محمد بن علي بن محبوب (١) .
وأمّا محمد بن الحسين فهو ابن أبي الخطاب من غير ارتياب (٢) ، وكون الراوي عنه في كتب الرجال الصفار (٣) لا محمد بن علي بن محبوب لا يضرّ بالحال .
وعلي بن حديد قد ضعّفه المصنف هنا فيما يأتي من باب البئر تقع فيه الفأرة (٤) ، وباب النهي عن بيع الذهب بالفضة نسيئة ، وقال : إنّه ضعيف جدّاً لا يُعوَّل علىٰ ما ينفرد به (٥) . وفي الفهرست (٦) وكتاب الرجال لم يصرّح بالتضعيف (٧) ، وكذلك النجاشي (٨) ، وفي الكشي عن نصر بن الصباح : أنّه فطحي (٩) ؛ وعلىٰ كل حال فالحديث ليس بصحيح .
المتن :
لا يخفىٰ أنّ ظاهره كون الراوية أقل من كُرّ ؛ لأنّ قوله ، وقال أبو جعفر : « إذا كان الماء أكثر من راوية » يدل علىٰ ذلك ، ولو حملت الراوية علىٰ الكرّ ـ كما قاله الشيخ رحمهالله ـ لم تظهر الفائدة في قوله عليهالسلام : « فإن كان
__________________
(١) راجع : ص ٦٤ .
(٢) في « رض » : عند من عاصرناه من مشايخنا .
(٣) كما في الفهرست : ١٤٠ / ٥٩٧ .
(٤) الاستبصار ١ : ٤٠ / ١١٢ ، ويأتي في ص ٣٠٢ .
(٥) الاستبصار ٣ : ٩٥ / ٣٢٥ .
(٦) الفهرست : ٨٩ / ٣٧٢ .
(٧) رجال الطوسي : ٤٠٣ / ١١ ، و ٣٨٢ / ٤٢ .
(٨) رجال النجاشي : ٢٧٤ / ٧١٧ .
(٩) رجال الكشي ٢ : ٨٤٠ / ١٠٧٨ .
الماء أكثر من راوية » .
وقول الشيخ ـ إنّ قوله عليهالسلام : « إذا تفسّخ » محمول علىٰ أنّه إذا تغيّر أحد أوصاف الماء ـ لا يلائمه ذكر التغيّر في الزائد عن الراوية ، ولعلّ ضرورة الجمع يتسامح فيها بمثل هذا .
وقد يمكن توجيه الزيادة علىٰ الراوية بأنّ الراوية إذا كانت كُرّاً فقط فمن المستبعد مع التفسّخ أن لا يتغيّر شيء من الماء ، ومع تغيّر شيء منه ينجس جميعه ؛ لأنّ المفروض كونه بمقدار الكرّ ، واحتمال حصول التغيّر مع عدم التفسّخ وإن أمكن ؛ إلّا أنّ بُعده اقتضىٰ عدم ذكره ، والتكلف في هذا الوجه غير خفيّ .
أمّا ما قاله الشيخ بعد ذلك : ـ من أنّ الالف واللام للعموم ـ فبيان عدم تماميته أظهر من أن يخفىٰ .
فإن قلت : قوله في الرواية : « ميتة » يعود إلىٰ الصعوة فقط ، أو الجميع ؟ .
قلت : يحتمل الاختصاص بالصعوة ، والفأرة والجرذ وإن كانا غير ميّتَين قد حكم بنجاستهما بعض (١) ، ودلّت عليه روايات ؛ إلّا أنّ الذي يذهب إلىٰ عدم التنجس يحيل (٢) الميتة إلىٰ كل واحد (٣) ، والأمر سهل .
أمّا ذكر الطرية في الخبر فلا يعلم وجهها ، ولو صح الخبر وجب التسليم .
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ العلّامة في المختلف نقل في احتجاج ابن
__________________
(١) انظر المقنعة : ٧٠ .
(٢) « فض » يحتمل .
(٣) في « رض » زيادة : بنوع من التوجيه .
أبي عقيل علىٰ عدم نجاسة القليل ما هذه صورته : وسئل الباقر عليهالسلام عن القِربة والجَرّة من الماء يسقط فيهما فأرة أو جرذ أو غيره ، فيموتون فيهما ، فقال : « إذا غلبت رائحتُهُ علىٰ طعم الماء ، أو لونه فأرقه ، وإن لم تغلب عليه فاشرب منه وتوضّأ ، واطرح (١) الميتة إذا أخرجتها طرية » (٢) .
وهذه الرواية لم أقف عليها الآن ، ولعلّها المذكورة هنا ، والعلّامة لخّص المراد منها ، أو ابن أبي عقيل ، ولا يخفىٰ عليك الحال .
وفي الفقيه : فإن سقط في راوية ماء فأرة أو جرذ أو صعوةٌ ميتة ، فتفسّخ فيها لم يجز شربه ولا الوضوء منه ، وإن كان غير متفسّخ فلا بأس بشربه والوضوء منه ، وتطرح الميتة إذا خرجت طريّة (٣) .
وأنت خبير بما في إيراد الصدوق لما نقلناه من المزيّة والتأييد للرواية المنقولة هنا .
وقد أجاب العلّامة في المختلف عن الرواية ـ في ضمن احتجاج ابن أبي عقيل ـ : بأنّ الأحاديث بعد سلامة سندها مطلقة ، وما ذكرناه مقيد ، والمطلق يحمل علىٰ المقيد جمعاً بين الأدلّة ، ولا منافاة بينهما ، وليس بواجب تأخير المقيد عن المطلق ، ولو تأخّر لم يكن ناسخاً لحكم المطلق ، انتهىٰ (٤) .
وأقول : إنّ العلّامة أشار بالنسخ إلىٰ ما نقله عن ابن أبي عقيل : من أنّ الأحاديث عامة في القليل والكثير ، والأخبار الدالّة علىٰ الكثير مقيدة ،
__________________
(١) في النسخ : واخرج ، والصواب ما أثبتناه من المصدر .
(٢) المختلف ١ : ١٥ .
(٣) الفقيه ١ : ١٠ / ١٨ .
(٤) المختلف ١ : ١٥ .
ولا يجوز أن يكونا في وقت واحد ؛ للتنافي ، بل أحدهما سابق والمتأخّر يكون ناسخاً ، والمتأخّر هنا مجهول ، فلا يجوز أن يعمل بأحد الخبرين دون الآخر ، ويبقىٰ التعويل علىٰ الكتاب الدالّ علىٰ طهارة الماء مطلقاً .
وأنت خبير بأنّ النسخ في أخبارنا المروية عن أئمّتنا عليهمالسلام لا مجال لاحتماله فيها ، فذكره غريب لا ينبغي الغفلة عنه ، ومثله في المختلف لا يُحصىٰ كثرةً كما يعلم من مراجعته ، والله الموفّق والمعين .
قوله ـ رحمهالله ـ :
وأمّا ما رواه الحسين بن سعيد ، عن عثمان بن عيسىٰ ، عن سماعة بن مهران ، عن أبي بصير ، قال : سألته عن كرّ من ماء مررت به ، وأنا في سفر ، قد بال فيه حمار أو بغل أو إنسان ، قال : « لا تتوضّأ منه ولا تشرب منه » .
فالوجه في هذا الخبر أن نحمله علىٰ أنّه إذا تغيّر أحد أوصاف الماء ، إمّا طعمه أو لونه أو رائحته ، فأمّا مع عدم ذلك فلا بأس باستعماله حسب ما تقدّم من الأخبار الأوّلة .
السند :
طريق الشيخ إلىٰ
الحسين بن سعيد : عن الشيخ المفيد ، والحسين بن عبيد الله ، وأحمد بن عبدون ؛ كلهم عن أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد ، عن أبيه محمد بن الحسن بن الوليد ؛ وعن أبي الحسين بن أبي جيد القمي ، عن محمد بن الحسن بن الوليد ، عن الحسين بن الحسن بن أبان ، عن الحسين بن سعيد ؛ قال الشيخ : ورواه أيضاً محمد بن الحسن بن الوليد ،
عن محمد بن الحسن الصفار ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد (١) .
فهو صحيح علىٰ ما تقدم ، وفيه دلالة علىٰ رواية الحسين بن عبيد الله ، عن أحمد بن محمد بن الوليد ، وقد سمعت القول فيه (٢) .
وأحمد بن عبدون المذكور ، قال الشيخ في رجال من لم يروِ عن أحد من الأئمّة عليهمالسلام : أحمد بن عبدون ، المعروف بابن الحاشر ، يُكنّىٰ أبا عبد الله ، كثير السماع والرواية ، سمعنا منه وأجاز لنا جميع ما رواه (٣) .
وقال النجاشي : أحمد بن عبد الواحد أبو عبد الله شيخنا المعروف بابن عبدون (٤) .
ولا يخفىٰ دلالة الكلام علىٰ علوّ شأن الرجل ، وعدم التوثيق مشياً علىٰ قاعدة القدماء من أنّهم لا يوثّقون الشيوخ .
والعلّامة صحح كثيراً من طرق الشيخ في المشيخة وهو فيه (٥) .
وأمّا أبو الحسين بن أبي جيد ، فإنّه من الشيوخ أيضاً .
أمّا عثمان بن عيسىٰ ، فالمعروف بين المتأخّرين عدّ الحديث المشتمل عليه من الموثّق ، مع اتصاف باقي السند بوصفه (٦) .
__________________
(١) مشيخة التهذيب ( التهذيب ) ١٠ : ٦٦ ، الاستبصار ٤ : ٣٢١ .
(٢) راجع ص ٤٠ .
(٣) رجال الطوسي : ٤٥٠ / ٦٩ .
(٤) رجال النجاشي : ٨٧ / ٢١١ .
(٥) منها : طريقه إلىٰ محمد بن يعقوب الكليني ، وإلىٰ علي بن إبراهيم بن هاشم ، وإلىٰ حميد بن زياد ، وإلىٰ الحسين بن سعيد ، وإلىٰ محمد بن أحمد بن يحيىٰ الأشعري ، رجال العلّامة : ٢٧٥ ، ٢٧٦ .
(٦) انظر التنقيح الرائع ١ : ٢٢١ ، وجامع المقاصد ٣ : ٣٥٥ .
أقول : وقد ينظر في ذلك بأنّ توثيقه لم نقف عليه (١) .
وكونه ممّن أجمع الأصحاب علىٰ تصحيح ما يصح عنه إنّما يستفاد من الكشي ، وعبارته هذه صورتها : في تسمية الفقهاء من أصحاب أبي إبراهيم وأبي الحسن الرضا عليهالسلام أجمع أصحابنا علىٰ تصحيح ما يصح عن هؤلاء وتصديقهم ، وأقرّوا لهم بالفقه والعلم ـ : إلىٰ أن قال ـ ، وقال بعضهم : مكان الحسن بن علي بن فضال ، فضالة بن أيوب ، وقال بعضهم : مكان فضالة ، عثمان بن عيسى (٢) .
وأنت خبير بأنّ البعض غير معلوم الحال ، وبتقدير العلم بحاله والاعتماد عليه ، فهو من الإجماع المنقول بخبر الواحد ، والاعتماد عليه بتقديره لا يفيد إلّا الظنّ ، والأخبار الواردة في ذمّه (٣) منها ما هو معتبر ، والظنّ الحاصل منه إن لم يكن أقوىٰ ، فهو مساوٍ لغيره ، فلا وجه للترجيح .
فإن قلت : قد قدّمت أنّ رواية الرجل الجليل عن شخص قرينة علىٰ اعتباره (٤) ، والحسين بن سعيد قد قيل فيه من الثناء ما يقتضي المشاركة لمن ذكر في التوجيه السابق ، وحينئذ فالبعض المذكور في الكشي وإن كان مجهولاً ؛ إلّا أنّ رواية الحسين قرينة علىٰ صحة الرواية .
قلت : لما ذكرت وجه ، إلّا أنّ الذمّ الوارد في عثمان بن عيسىٰ بلغ النهاية (٥) وعدم العلم بالناقل للإجماع يؤيّد عدم القبول لروايته ، وعدم رواية
__________________
(١) عدّه الشيخ في العدّة ١ : ١٥٠ ممّن كان متحرّجاً في روايته موثوقاً في أمانته ، وابن شهرآشوب في المناقب ٤ : ٣٢٥ من ثقات أبي إبراهيم موسىٰ بن جعفر عليهالسلام ، مضافاً إلىٰ أنّه وقع في سند تفسير القميّ ٢ : ٨٩ ، وكامل الزيارات : ١١ .
(٢) رجال الكشي ٢ : ٨٣١ .
(٣) رجال الكشي ٢ : ٨٦٠ .
(٤) راجع ص ٥١ .
(٥) انظر رجال الكشي ٢ : ٨٦٠ ، ورجال النجاشي : ٣٠٠ / ٨١٧ .
الأجلّاء عن الضعفاء قد سبق القول في أنّه موجب للتعجب (١) .
وبعد التأمّل التامّ يحتمل أن يقال : إنّ رواية الحسين بن سعيد عن عثمان بن عيسىٰ ربما كانت قبل قوله بالوقف ، فيترجّح القبول ، كما في روايته عن محمد بن سنان الوارد فيه تمام الذمّ (٢) ، والتوجيه واحد .
ولو نظرنا إلىٰ أنّ الرواية عن مثل هذين من جهة القرائن علىٰ الصحة ، أمكن ؛ إلّا أنّه يستلزم عدم الردّ لرواياته التي يروي فيها الثقة عن الضعيف ، ولا قائل بذلك فيما أعلم ، لكن في الظنّ أنّ التوجيه لا بأس به ، غير أنّ الإشكال ربما يخفّ فيمن نقل الإجماع علىٰ تصحيح ما يصح عنه ـ كما نحن فيه ـ وإن كان الناقل غير معلوم .
ومن هنا يعلم أنّ عدم التفات المتأخّرين لتحقيق الحال في المقام لا يخلو من غرابة ، فليتأمّل .
وأمّا أبو بصير ، فالذي يقتضيه الاعتبار أنّه إذا روىٰ عن غير معيّن ـ كما في هذه الرواية ـ فهو مشترك بين ضعيف وموثق [ وإماميّ ثقة (٣) ] (٤) . علىٰ تقدير بعض نسخ الكشي ؛ إذ في البعض في يوسف بن الحرث أبو نصر ـ بالنون ـ وقد أوضحنا الحال في أبي بصير في فوائد الرجال ، وسيجيء إن شاء الله نوع تفصيل (٥) .
أمّا الإضمار في الحديث فبعض الأصحاب أوجب به الضعف (٦) .
__________________
(١) راجع ص ٤٩ ، ٥٠ .
(٢) انظر الفهرست : ١٤٣ / ٦٠٩ ، ورجال النجاشي : ٣٢٨ / ٨٨٨ .
(٣) انظر هداية المحدثين : ٢٧٢ .
(٤) بدل ما بين المعقوفين في النسخ : وأمّا في نفسه . والظاهر ما أثبتناه .
(٥) يأتي في ص ٨٤ ، ١٣٠ .
(٦) حكاه عن جمع في منتقىٰ الجمان ١ : ٣٩ .
ولا يخلو من تأمّل ؛ لأنّ الإضمار من المتقدمين كثير ، والسبب فيه أنّ العادة فيهم كانت جارية بأن يوردوا اسم الإمام المروي عنه في الأوّل ثم يضمرون بعد ذلك ـ كما هو المتعارف ـ فلما اقتطع المتأخّرون الأخبار أخذوها كما هي ، وبالجملة فأمر هذا سهل .
المتن :
علىٰ تقدير صحة الخبر فيه دلالة علىٰ نجاسة بول الحمار والبغل .
واحتمال أن يكون الترديد من السائل ـ لعدم علمه بما وقع السؤال عنه ، ويكون في الواقع هو الإنسان ـ لا يخلو من بعد ؛ إلّا أنّ باب الاحتمال واسع ، وما ذكره الشيخ من تغيّر أحد الأوصاف له وجه .
وقد يقال : إنّه محتمل لأن يكون بعضه قد تغيّر ، وظاهر الكرّ أنّه غير زائد عنه ، فينجس حينئذ ، وإن لم يتغيّر جميعه .
وبالجملة فالإطلاق في الخبر يحمل علىٰ المقيّد .
وإذا عرفت هذا فما ذكره الشيخ من الأوصاف الثلاثة المقتضية للنجاسة هو مذهب أهل العلم كافّة ـ كما قاله جماعة من الأصحاب (١) ـ .
وربما ظنّ من الأخبار ثبوت الريح والطعم فقط ، أمّا اللون فقيل : إنّه لازم (٢) .
وقد يقال : إنّ صحيح حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : « كلّما غلب الماء علىٰ ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب ، فإذا تغيّر الماء
__________________
(١) منهم المحقق الحلي في المعتبر ١ : ٤٠ ، والعاملي في مدارك الأحكام ١ : ٢٨ .
(٢) كما في الحبل المتين : ١٠٦ .
وتغيّر الطعم فلا تتوضّأ منه ولا تشرب » (١) يدلّ علىٰ اللون من إطلاق تغيّر الماء .
ويشكل : بأنّ الخبر الآتي (٢) ؛ عن أبي خالد القمّاط الدالّ علىٰ أنّه إذا لم يتغيّر الريح والطعم فاشرب منه وتوضّأ ؛ يدلّ علىٰ عدم اعتبار اللون ، ولعلّ اللزوم أولىٰ لإثبات الحكم ؛ مضافاً إلىٰ الإجماع .
وذكر الشهيد ـ رحمهالله ـ في البيان : أنّ الماء لو اشتمل علىٰ صفة تمنع من ظهور التغيّر فيه [ فيكفي التقدير ] (٣) (٤) ، كما لو كان متغيّراً بأحمر ( طاهر ) (٥) ووقع فيه دم .
والذي ينبغي : القطع بوجوب التقدير ـ أي تقدير خلوّ الماء عن ذلك الوصف ـ لأنّ التغيّر حينئذ علىٰ تقدير حصوله تحقيقي ؛ غاية ما هناك أنّه مستور عن الحسّ ، وهذا بخلاف ما تقدم القول فيه عن المحقق الشيخ فخر الدين ووالده (٦) ، فإنّ ذاك فيما لو كانت النجاسة مسلوبة الصفات .
وقد اتّفق للأصحاب المتأخّرين ـ بعد ذكر ما قلناه في المسألتين ـ أنّهم قالوا : هل المعتبر علىٰ القول بتقدير المخالفة هو الوصف الأشدّ ، كحدّة الخلّ ، وذكاء المسك ، وسواد الحبر ؛ لمناسبة النجاسة تغليظ الحكم ، أو الواسطة ، لأنّه الأغلب (٧) ؟
وهذه المخالفة إمّا أن تكون في الماء أو في النجاسة ، وكلا الأمرين بالنسبة إلىٰ التمثيل بما ذكر لا يخلو من إجمال .
__________________
(١) التهذيب ١ : ٢١٦ / ٦٢٥ ، الوسائل ١ : ١٣٧ أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ١ ، بتفاوت يسير .
(٢) في ص ٨٥ .
(٣) ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر .
(٤) البيان : ٩٨ .
(٥) ليس في « فض » .
(٦) راجع ص ٥٨ و ٥٩ .
(٧) انظر جامع المقاصد ١ : ١١٥ ، معالم الفقه : ١٧ .
وفي الذكرىٰ : ينبغي فرض مخالف أشدّ أخذاً بالاحتياط (١) .
ونقل الوالد ـ قدسسره ـ عن بعض الأصحاب : أنّه استقرب اعتبار أوصاف الماء وسطاً ؛ نظراً إلىٰ شدّة اختلافها في قبول التغيّر وعدمه ، كالعذوبة والملوحة والرّقّة والغلظة والكدورة . قال الوالد ـ قدسسره ـ : وهو محتمل ، حيث لا يكون الماء علىٰ الوصف القوي ؛ إذ لا معنىٰ لتقديره حينئذ بما دونه (٢) .
وأنت إذا تأمّلت المقام تجد الإجمال لم يحُمْ حوله البيان .
قوله ـ رحمهالله ـ :
والذي يدل علىٰ هذا المعنىٰ ما أخبرني به الشيخ ـ رحمهالله ـ عن أحمد بن محمد بن الحسن ، عن أبيه ، عن سعد بن عبد الله ، عن محمد بن عيسىٰ ، عن ياسين الضرير ، عن حريز بن عبد الله ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليهالسلام أنّه سئل عن الماء النقيع (٣) تبول فيه الدوابّ ؟ قال : « إن تغيَّر الماء فلا تتوضأ منه ، وإن لم تغيّره أبوالها فتوضّأ منه ، وكذلك الدم إذا سال في الماء وأشباهه » .
السند :
فيه محمد بن عيسىٰ ، وهو : ابن عبيد بن يقطين ، وقد قال النجاشي : إنّه جليل في أصحابنا (٤) ثقة عين (٥) .
__________________
(١) الذكرىٰ ١ : ٧٦ .
(٢) معالم الفقه : ١٧ .
(٣) البئر الكثير الماء ـ كتاب العين ١ : ١٧٣ ( نقع ) .
(٤) في « رض » و « فض » : أصحابه .
(٥) رجال النجاشي : ٣٣٣ / ٨٩٦ .
وقال الشيخ في الفهرست : إنّه ضعيف ، استثناه أبو جعفر بن بابويه من رجال نوادر الحكمة ، وقال : لا أروي ما يختص بروايته ، وقيل : إنّه كان يذهب مذهب الغلاة (١) ؛ وكذلك ضعّفه في كتاب الرجال (٢) .
وفي باب أنّه لا يجوز العقد علىٰ امرأة عقد عليها الأب ـ من هذا الكتاب ـ بعد ذكر خبر في طريقه محمد بن عيسىٰ عن يونس قال : وهو ضعيف استثناه أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه من جملة الرجال الذين روىٰ عنهم صاحب نوادر الحكمة (٣) .
وأظنّ أنّ منشأ توهم الشيخ ضعف محمد بن عيسىٰ هو قول ابن بابويه عن ابن الوليد : إنّ كل ما تفردّ به محمد بن عيسىٰ عن يونس ـ من كتب يونس وحديثه ـ لا يعتمد عليه (٤) .
وفي القدح بهذا تأمّل ؛ لاحتمال أن يكون ذلك لغير الفسق .
وما قيل : ـ من احتمال صغر السنّ أو غيره ممّا يوجب الإرسال (٥) ـ قد يشكل : بأنّه يقتضي الطعن فيه من حيث إنّه تدليس من محمد بن عيسىٰ .
وقد يمكن الجواب : بأنّ أهل الدراية غير متّفقين علىٰ المنع من الرواية إجازةً من دون ذكر هذه اللفظة ، وإذا كان كذلك فلا قدح ؛ لاحتمال اختياره جواز ذلك .
وبالجملة فالطعن في الرجل محلّ كلام .
__________________
(١) الفهرست : ١٤٠ / ٦٠١ .
(٢) رجال الطوسي : ٤٢٢ / ١٠ .
(٣) الاستبصار ٣ : ١٥٥ / ٥٦٨ .
(٤) نقله عنه في الفهرست : ١٨٢ .
(٥) رجال ابن داود : ٢٧٥ .
ويخطر في البال أنّ تضعيف الشيخ لمحمد بن عيسىٰ ربما لا ينافي توثيق النجاشي ؛ لاحتمال أن يراد بالضعيف عدم قبول روايته وإن كان ثقة ، بناءً علىٰ أنّ القبول يفتقر إلىٰ أمر زائد عن التوثيق عند المتقدمين ـ كما يعلم من الشيخ وغيره ـ وحينئذ لا مانع من حكم الشيخ بالضعف وتوثيق غيره .
فإن قلت : لو اُريد بالضعف ما ذكر لنبّه عليه النجاشي ؛ إذ لا فرق بين الشيخ والنجاشي في العمل بالقرائن ، والحال أنّ توثيق النجاشي مطلق .
قلت : يحتمل أن يكون النجاشي لم يلتفت إلىٰ قول ابن الوليد ، أو لم يثبت عنده منه الضعف ، أو أنّه لا ينافي التوثيق في نفس محمد بن عيسىٰ ، ومقصود النجاشي ذكر التوثيق لذات الرجل ، أمّا قبول رواية الذي وثقه فأمر آخر ؛ وينبّه عليه أنّه يذكر في بعض الرجال أنّه صحيح الحديث (١) ، وفي الظنّ أنّ الغرض من هذا قبول روايته ، فيدلّ علىٰ أنّ التوثيق أعمّ من القبول ؛ كما أنّ صحة الحديث أعمّ من التوثيق ، فليتأمّل .
ومن هنا يظهر أنّ إطلاق جدّي ـ قدسسره ـ في الدراية : أنّ من ألفاظ الجرح « ضعيف » (٢) محلّ تأمّل .
( فإن قلت : أيّ ثمرة لقول الشيخ : إنّ محمد بن عيسىٰ ضعيف ، وقول النجاشي : إنّه ثقة ؛ مع عدم العلم بمجرد الرواية .
قلت : الثمرة الاحتياج إلىٰ زيادة القرائن علىٰ قول الشيخ ، وقلّتها علىٰ قول النجاشي ) (٣) .
__________________
(١) انظر رجال النجاشي : ٤٠ / ٨١ و ٨٢ ، ١٢١ / ٣١٠ .
(٢) الدراية : ٧٢ .
(٣) ما بين القوسين ليس في « فض » و « د » .
فإن قلت : قد ذكر الشيخ في التهذيب في ( باب بيع الثمار ) (١) بعد روايات : أنّ الأصل فيها عمار بن موسىٰ ، وقد ضعّفه جماعة من أهل النقل ، وذكروا : أنّ ما ينفرد بنقله لا يعمل به ؛ لأنّه كان فطحياً غير أنّا لا نطعن عليه بهذه الطريقة ؛ لأنّه وإن كان كذلك فهو ثقة في النقل لا يطعن عليه فيه (٢) . وهذا الكلام منه يفيد أنّ التضعيف من جهة ـ كون عمار فطحياً ، فيتم ما ذكر في الدراية .
قلت : كلام الشيخ لا يخلو من تأمّل ؛ لأنّ كون الرجل المذكور ثقة لا يقتضي قبول قوله ؛ إذ الشيخ لا يكتفي بقول الثقة وحده ، فقوله ينافي عمله ؛ إلّا أنْ يقال : إنّ غرضه عدم ردّ النقل من جهة فساد المذهب ، وأمّا العمل فموقوف علىٰ القرائن ، وفيه ما لا يخفىٰ ، ( وربما يقال : إنّ غرضه بالثقة قبول القول ، وحينئذ يدل علىٰ ما ذكرنا من جهة الضعف ) (٣) .
وعلىٰ كل حال دلالة كلامه علىٰ انحصار الضعف في فساد المذهب غير واضحة ، فلا مانع من إطلاق الضعف من جهة اُخرىٰ ، فليتأمّل .
هذا كله علىٰ تقدير ما ظنّه الشيخ من كلام ابن الوليد في محمد بن عيسىٰ ـ كما سيأتي ـ مضافاً إلىٰ شمول الضعف ، أو ردّ الرواية من محمد علىٰ الإطلاق ، وفي الأمرين كلام سنوضحه إن شاء الله (٤) .
وما عساه يقال : إنّ الضعف لو أراد به الشيخ ما ذكر لزم عدم الوثوق بالتضعيف والتوثيق في الرجال .
__________________
(١) كذا في النسخ ، وهو سهو ، والصحيح : باب بيع الواحد بالاثنين . . .
(٢) التهذيب ٧ : ١٠١ .
(٣) ما بين القوسين ليس في « د » .
(٤) في ص ٨١ ـ ٨٣ .
يمكن الجواب عنه بالتأمّل في المقامات ، فإنّها مختلفة ، نعم ربما يقال : إنّ الظاهر من تضعيف الشيخ خلاف ما ذكرناه .
فإن قلت : إذا تقرّر أنّ عمل المتقدمين بالأخبار من حيث القرائن ، لا من حيث الصحة الاصطلاحية ، فما وجه استثناء رواية محمد بن عيسىٰ عن يونس ونحوها من استثناء رواية محمد بن أحمد بن يحيىٰ ، عن جماعة منهم محمد بن عيسىٰ ؟
قلت : الظاهر أنّ الوجه بيان الاحتياج إلىٰ زيادة القرائن ، فإنّ الاستثناء لمّا كان موجباً للردّ احتاج تصحيح الخبر علىٰ رأي المتقدمين إلىٰ قرائن توجب الصحة ، وبدون الاستثناء وإن احتيج إلىٰ القرائن إلّا أنّها أخفّ .
وفي نظري القاصر أنّ في المقام اُموراً توجب التعجب ، فالأوّل : أنّ النجاشي قال بعد ما قدّمناه : وذكر أبو جعفر بن بابويه عن ابن الوليد ، أنّه قال : ما تفرّد به محمد بن عيسىٰ من كتب يونس وحديثه لا يعتمد عليه ، ورأيت أصحابنا ينكرون هذا القول ، ويقولون : مَنْ مثلُ أبي جعفر (١) ؟ .
وأنت خبير بأنّ ما ينفرد به الراوي لا يعمل به ؛ سواء كان محمد بن عيسىٰ أو غيره ، كما هي عادة المتقدمين ، وكلام النجاشي بعد التوثيق ـ حيث نقل ما سمعته ـ يفيد أنّه فهم القدح ، والظاهر أنّه لا يوجب ما نقله القدح ، فلا وجه لذكره إنكار الأصحاب ، بل كان الأولىٰ التنبيه علىٰ عدم القدح بما ذكر .
واحتمال أن يقال ؛ إنّ كلام النجاشي يشعر بهذا من حيث سياق الكلام ، وكأنّه في مقام التعجب من الأصحاب ؛ له وجه ، لكن الظاهر من
__________________
(١) رجال النجاشي : ٣٣٣ / ٨٩٦ .